السبت، 11 نوفمبر 2023

هل الله يسر بالذبائح أم لا؟

 


يقول المعترض ان بين : (خر29: 36، خر39: 18، لا23: 27، لا1: 9). و (ار7: 22، ار6: 20، مز50: 13، اش1: 11- 13).  تناقض، إذ يسر يطلب الله الذبائح في النصوص الاولي ولا يُسر بها في النصوص الآخري، فهل الله يسر بالذبائح ام لا؟

 

بالطبع الله لم يطلب هذه الذبائح لأجل نفسه أو عن إحتياج، بل في اللاهوت المسيحي هذه الذبائح كانت فقط إشارة لمجئ الذبيح الحقيقي المسيا، وأيضاً كانت لتذكير اليهود دائماً بأنهم يعبدون يهوه الله الواحد ولا يخلطون عبادتهم بعبادة الأمم، فالله في العهد القديم قد أعطي اليهود شرائع كثيرة فقط لكي يتذكروه ويتذكروا أنهم يعبدوه هو وحده مثل الحلفان بأسمه فقط، وحفظ السبت والختان والذبائح، وهذه كلها لم تكن لإحتياج الله إليها، بل لإحتياج الشعب اليهودي لها لكي لا ينسوا إلههم وعبادته. ويعلق علي ذلك ق. يوستينوس بقوله: الله لم يأمركم أن تقدموا هذه الذبائح لأنه يحتاج إليها، بل بسبب خطايا شعبكم خاصة عبادة الأصنام[1].

 

وقد تدهورت هذه المعاني وتحرفت عن معناها السليم في الفكر اليهودي إذ أصبحت الذبائح بالنسبة إليهم هي:

1-  فرائض تأتى نتائجها من تلقاء ذاتها بمعنى أن الذبيحة تُقدم عُوض النفس وكأنها ضريبة أو كأن الله محتاج إليها أو أنها كفيلة بإرضائه، مع أن فلسفتها الروحية هى أن الإنسان لا يقدِّمها لله، بل يتقدم بها إلى الله، فهى واسطة وليست غاية. فإذا قدمها الإنسان عن نفسه وحسب، فإنه يخرج من أمام الله صفر اليدين، ولكن إن هو تقدم بها إلى الله، فإنه يدخل مع الله فى دالة ويخرج من لدنه فرحاً مبتهجاً وسعيداً.

2-  هكذا انتهى الشعب إلى فهم أن الذبيحة هى لاسترضاء الله وحسب، مع أنها لا تخص الله بل تخص علاقة الإنسان بالله.

3-  صار فى اعتقاد الشعب أن دم الذبيحة يغفر الخطية من تلقاء ذاته طالما وُضع على المذبح، مع أن المنصوص عنه فى لاهوت العهد القديم أنه عندما ينضح رئيس الكهنة دم الذبيحة على غطاء التابوت يكفَّر عن الخطية. بمعنى تغطيتها فقط أى تغطية الخطية الواحدة التى اقترفها الخاطىء، تغطيتها من أمام وجه الله. ولكن لا يتعدَّى فعل دم الذبيحة إلى خطية أخرى لاحقة.

ومن هنا جاءت كثرة الذبائح بلا عدد وهذا راجع لضعف قدرة الحيوان على رفع الخطية بأى حال: "لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا" (عبرانيين 10: 4). لهذا فإن نداء المعمدان واصفاً المسيح: "هوذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم"، كان حدثاً جديداً فائق القوة لا يعرف طقس العهد القديم معناه بعد.

4- وأخيراً فقدت الذبائح قيمتها الإلهية، إذ أصبح الشعب يستهين بها ويتشكك فى معناها وقوتها، وذلك بسبب ابتعاد الكهنة والمعلمين جميعاً عن روح العهد القديم وصدق عبادة الله. وهكذا دخلت الذبائح ومعها التدين كله فى مأزق انتهى بالضياع والبعد عن الله. وصارت الذبائح مخدراً للضمير وبديل البر الحقيقي[2].

(انظر ايضاً: إشعياء 1: 11-15، إرميا 7: 9-11و12 و31: 31-34، هوشع 6: 6و 7، عاموس 5: 21-27، ميخا 6: 7و 8).

ولذلك يقول لهم الرب أنه يبغض ذبائحهم لأنهم لوثوا مفهومها وكأنها هي التي ترفع خطاياهم لا قلبهم القريب من الرب ورحمتهم وحياتهم النقية مع الله هي التي تعطيهم توبة حقيقية. فعند قراءة نبوَّة إشعياء الأصحاح الأول نرى أن الله لا يعترض على تقديم الذبائح، بل على روح الذي يقدِّمها، فيقول لشعبه إنه قد ملَّ ليس فقط من محرقاتهم، بل من أعيادهم وصلواتهم أيضاً. فواضح أن عبادتهم كلها كانت مكروهة أمامه. والسبب في هذا أن أيديهم كانت مملوءة دماً، فكانوا جيلاً شريراً، وأكثروا من الذبائح لينجوا من القصاص الذي كانوا يستحقونه. وقصدوا في الوقت نفسه أن يتمادوا في خطاياهم، فكانوا يظنون أن مجرد تأدية الفرائض والطقوس الخارجية يكسبهم رضى الله، ويعطيهم (كما أرادوا) فرصة التمادي في شرورهم. ولا بد أن الله يرفض الذبائح متى قُدِّمت بهذه الروح.

لما أمر الله بالذبائح المختلفة المنصوص عنها في شريعة موسى ووعد بأن يبارك مقدِّميها، كان ينتظر أن تكون قلوبهم خاشعة طاهرة. ولكن في عصر إشعياء انحطت عبادة الشعب لله، وكانت قاصرة على ممارسة طقوس ظاهرية وفرائض خارجية. وقد أوصى الله شعبه بالصلاة، ولكن إن كانت الصلاة مجرد نفاق ورياء، فالله يبغضها. فلا تناقض بين إشعياء 1: 11 ولاويين 1: 9 لأن العبادة إن لم تصدر من قلب نقي فهي ليست عبادة بالمرة، ولا هي مقبولة عنده[3].

  



[1]  الحوار مع تريفون، فصل 22.

[2]  الذبائح، سلسلة دراسات في العهد القديم، للاب مرقريوس الانبا بيشوي، ص 33: 35.

[3]  ق. منيس عبد النور، شبهات وهمية، لا1: 9

هل الله يسكن في النور أم في الظلام؟



(الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ، الَّذِي لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ الأَبَدِيَّةُ. آمِينَ. 1 تي 6: 16)

في الأية السابقة نجد ان الله يسكن في النور، لكن في ايات أُخري نجده يسكن في الضباب والظلمة، مثل: (حِينَئِذٍ تَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ: «قَالَ الرَّبُّ إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي الضَّبَابِ. 1مل 8: 12)، (جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ. حَوْلَهُ مَظَلَّتَهُ ضَبَابَ الْمِيَاهِ وَظَلاَمَ الْغَمَامِ. مز 18: 11)، (السَّحَابُ وَالضَّبَابُ حَوْلَهُ. الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّهِ. مز 97: 2)

 

في الإيمان المسيحي الله غير محدود بمكان حتي يسكن في بيت أو ضباب أو نور أو أيٍ من خليقته (أش 6: 3، أر 23: 24)، ويُعلق ذهبي الفم علي النص قائلاً: "لم يقل بولس ذلك لكي تتخيل أن هُناك منزل أو مكان مُحيط بالله. بل بالحري هو يتمني أن يكون لك معرفة أعمق وأعلي عن الإلهيات حتي تعرف أن الله لا يُمكن إدراكه[1]".

  ولذلك يقول العالم نورمان جيسلر: 

"يجب أن نتذكر  قبل كل شئ، أن الكلمات (نور) و(ظلمة) هي إسلوب رمزي في الحديث عن إله لا يسبر غوره أو لا يُمكن إدراكه (رو 11: 33)"[2].

فكلا المعنيين ليس المقصود منهما وصف حالة سُكني الله أو المكان الذي يسكن فيه، بل الهدف من هذه النصوص التعريف بأن الله غير مُدرك ولا يُمكن لأحد أن يراه كما هو في ذاته أو يتحدث عنه وكأنه يملك كل المعرفة عن الله، كما لا يُمكن أن ينظر أحد إلي نور الشمس، أو أن يري في الظلام. وقد أوضح النص ذلك بقوله: (الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ)[3]. وهذا المفهوم عن الضوء الذي يحجب الرؤية نراه في اليهودية أيضاً مُنعكساً علي تفسير نص (خروج 24: 17) عند كل من الفيلسوف اليهودي فيلو[4] والمؤرخ اليهودي يوسيفوس[5] والرابيين[6]. ولهذا ايضاً يكتب القديس ثيئوفيلوس الانطاكي قائلاً: "إن كان لا أحد يستطيع أن ينظر إلي الشمس، والتي هي جزء صغير من الخليقة، بسبب قوة حرارتها وضوءها، فكيف يمكن لإنسان مائت أن يُحدق في المجد الغير موصوف لله![7]". ويقول أغسطينوس: "الله لم يره أحد ولا يُمكن لأحد أن يراه، لأنه يسكن في نور لا يُدني منهُ، وطبيعته غير منظورة[8]".

 



[1] On the Incomprehensible Nature of God 3.2

[2] When critics ask. P.  501.

[3]  راجع ايضاً: مز 104: 2، 1يو 1: 5، خر 33: 20، يو 1: 18، كلوسي 1: 15، عب 11: 27، 1يو 4: 12، 1كو 13: 12.

[4] Philo Mos. 2.70 [3.2, in the account of Moses on Sinai]

[5] Josephus Ant. 3.5.1 §76

[6] Str-B 3:656

[7] Critical and explanatory commentary. (1 Ti 6:16). Theophylact, To Autolycus

[8] Letters 147.15.37.

الجمعة، 10 نوفمبر 2023

هل الله يعطي بسخاء لنعرفه أم يضل البشر؟

 


وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. (يع1: 5)، 

لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. (لو 11: 10).

 

«قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ، وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». (يو12: 40)، 

لأَنَّهُ كَانَ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ يُشَدِّدَ قُلُوبَهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا إِسْرَائِيلَ لِلْمُحَارَبَةِ فَيُحَرَّمُوا, فَلاَ تَكُونُ عَلَيْهِمْ رَأْفَةٌ, بَلْ يُبَادُونَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى. (يش11: 20)، 

لِمَاذَا أَضْلَلْتَنَا يَا رَبُّ عَنْ طُرُقِكَ قَسَّيْتَ قُلُوبَنَا عَنْ مَخَافَتِكَ؟ ارْجِعْ مِنْ أَجْلِ عَبِيدِكَ أَسْبَاطِ مِيرَاثِكَ. (اش63: 17).

 

فهل الله يُعطي بسخاء لنعرفه أم يُضلنا؟

 

ليس معني هذا ان الله يشاء هلاك البشر و يسر بموتهم، وإنما هذا يعني النتيجة الطبيعية لعناد الإنسان وقسوة قلبه. فالله هو الكائن الأكثر عظمة والأكثر خيرية وكرماً، وعندما يري أن إنسان لا يُريده فهو يسمح له بأن يخرج مبتعداً عنه ويسقط من نعمته التي كانت تعطيه استنارة ومعرفة وسط ظلمة الشر. وكما يقول د/ مورلاند: الله هو الكيان الاكثر كرماً وحباً وروعة وجاذبية في الكون. لقد خلقنا بإرادة حره وخلقنا لهدف، أن ننتمي إليه وللأخرين بحب. نحن لسنا اموراً عارضة، ولسنا قروداً مُعدلة، ولسنا أخطاء عشوائية، ولو خبنا مراراً وتكراراً عن الحياة من اجل الهدف الذي خُلقنا لأجله – الهدف الذي سيسمح لنا ان ننمو اكثر من ان نحيا بأية طريقة اُخري– فإن الله لن يكون بوسعه علي الإطلاق إلا أن يمنحنا ما طلبناه طوال حياتنا، وهو الإنفصال عنه[1].

وبترك الإنسان لنعمة الله وسقوطه في ظلمة الشر تظلم عيناه فلا يقدر أن يُميز بعد الحق من الباطل والخير من الشر، وهكذا فَيَضل الطريق كالأعمي إذ ترك النور. وهذا ما يدعوه الكتاب المُقدس بتعبيرات مثل (أسلمهم لذهن مرفوض. رو 1: 28)، (قسي او شدد قلب فرعون. خر10: 20)، فهم الذين أختاروا ذلك لأنفسهم وليس الرب هو من فعل بهم ذلك، وبالعودة لقصة تشديد قلب فرعون نري أن الكتاب المُقدس أعلن أيضاً أن فرعون هو صاحب القلب القاسي بطبيعته وليس الله هو من قساه فيقول الكتاب : (قلب فرعون غليظ. خر7: 14)، ويقول ايضاً أن فرعون(أغلظ قلبه. خر8: 19). فهذا يُرينا أن الله يترك من يُقسي قلبه ويرغب في الإبتعاد عنه لإرادته، حيث يسقط من نعمة الله معطية الإستنارة المرشدة في الطريق، فيضل، لا لأن الله فعل به هذا الضلال –حتي وأن وضع كتبة الكتاب المُقدس مثل هذه التعبيرات- بل لأنه هو من أراد الحياة في الظلمة (وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. 20 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ.. يو3: 19).

ويقول القديس يوحنا فم الذهب: إن اختار احد ان يغمض أعين عقله ولم يرد ان يستقبل النور واشعته، ظلمة هذا الإنسان لا تأتي بسبب طبيعة النور، ولكنها تأتي بسبب شره الشخصي الذي، بإرادته الحرة، يحرمه من هذه النعمة[2]. ويقول ايضاً:  كما أن الشمس تبهر العيون الضعيفة ليس بسبب طبيعتها اللائقة بها، هكذا أيضًا بالنسبة للذين لا يبالون بكلمة الله. هكذا قيل في حالة فرعون أن (الله) قسى قلبه. هكذا يكون حال من هم مصرون تمامًا على مقاومة كلمات الله.

هذا هو أسلوب الكتاب، كما قيل: "أسلمهم إلى فكرٍ مرفوض" (رو ١:٢٨)... فإن الكاتب هنا لا يقدم الله بكونه هو نفسه يفعل هذه الأمور إنما يظهر أنها تحدث خلال شر الآخرين. فلكي يرعب السامع لذلك يقول الكاتب: "قسى الله"، "أسلمهم".

ولكي يُظهر أنه لا يسلمنا ولا يتركنا إلاَّ إذا أردنا نحن ذلك اسمع ما يقوله: "أليست شروركم قد فصلت بيني وبينكم؟" (إش ٥٩: ٢ LXX). ويقول هوشع: "أنتم نسيتم ناموس إلهكم، وأنا أيضًا أنساكم" (هو ٤: ٦ LXX). وهو نفسه يقول: "كم مرة أرد أن أجمع أبناءكم... وأنتم لا تريدون؟" (لو ١٣: ٣٤)...

إذ نعرف هذا ليتنا نبذل كل الجهد ألا نترك الله، بل نتمسك بالاهتمام بنفوسنا ومحبة بعضنا البعض. ليتنا لا نبتر أعضاءنا، فإن هذا عمل من هم مجانين، بل كلما رأيناهم في وضع شرير نترفق بهم بالأكثر[3].

 



[1]  د/ ج. ب. مورلاند، دكتور في الفلسفه من جامعة كاليفورنيا الجنوبيه  واللاهوت من معهد دالاس وقد أصدر اكثر من 12 كتاباً في قضايا لاهوتيه مختلفه.. عن كتاب القضيه الايمان. لي استروبل. ترجمة حنا يوسف، إصدار مكتبة دار الكلمه.  ص 223.

[2] The faith of the early fathers , vol II . p 106

[3] Homilies on St. John, 68: 2 – 3.