الجمعة، 10 نوفمبر 2023

هل الله يتغير ويندم؟

 


لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ فَأَنْتُمْ يَا بَنِي يَعْقُوبَ لَمْ تَفْنُوا. (ملا 3: 6)، 

أَنَا الرَّبَّ تَكَلَّمْتُ. يَأْتِي فَأَفْعَلُهُ. لاَ أُطْلِقُ وَلاَ أُشْفِقُ وَلاَ أَنْدَمُ. حَسَبَ طُرُقِكِ وَحَسَبَ أَعْمَالِكِ يَحْكُمُونَ عَلَيْكِ, يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ».(حز24: 14)، 

ليْسَ اللهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَل يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلمُ وَلا يَفِي؟ (عد23: 19).

 

فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. (تك6: 6)، 

رَأَى اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيئَةِ نَدِمَ اللَّهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أَنْ يَصْنَعَهُ بِهِمْ فَلَمْ يَصْنَعْهُ. (يو3: 10)، 

وَلَمْ يَخْرُجْ إِشَعْيَاءُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْوُسْطَى حَتَّى كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَيْهِ: 5«ارْجِعْ وَقُلْ لِحَزَقِيَّا رَئِيسِ شَعْبِي: هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ دَاوُدَ أَبِيكَ: قَدْ سَمِعْتُ صَلاَتَكَ. قَدْ رَأَيْتُ دُمُوعَكَ. هَئَنَذَا أَشْفِيكَ. فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ تَصْعَدُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ. 6وَأَزِيدُ عَلَى أَيَّامِكَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَأُنْقِذُكَ مِنْ يَدِ مَلِكِ أَشُّورَ مَعَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَأُحَامِي عَنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَجْلِ نَفْسِي وَمِنْ أَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِي». (2مل20: 4- 6).

 

فهل الله يتغير ام لا؟

 

القول «ندم الرب» أو «حزن» معناه الشفقة والرقة والرحمة عند الرب. فلو أن أباً محباً أدّب ابنه لأنه خالفه، ثم رأى ألم ابنه بسبب التأديب، فإنه يتوجَّع لوجعه ويتألم لألمه ويتأسف ويحزن ويندم، مع أن الأب عمل الواجب في تقويم ابنه وتأديبه وخيره. إنما أسفه وندمه وحزنه كله ناشئ من الشفقة والرحمة. ولا يجوز أن نقول في مثل هذا المقام إن أباه رحمه أو أشفق عليه، بل نقول إن أباه ندم، بمعنى الرحمة والشفقة. فعلى هذا القياس يُقال إن الله ندم، بمعنى أنه أعلن شفقته ورحمته وجوده وكرمه، وكأنك تقول: «رحمهم بعد عقابه لهم». أو تقول: «ندم بعد العقاب والعذاب» دلالة على رحمته. والدليل على ذلك أن النبي داود قال: «وندم حسب كثرة رحمته».

وإستعمال مثل هذه الألفاظ البشرية في جانب الله جائز، ليقرّب لعقولنا الأمور المعنوية، فإنه لا يخاطبنا بلغة الملائكة بل بلغتنا واصطلاحاتنا لندرك حقائق الأمور. وعلى هذا فهو يقول لنا إن الله ندم، بمعنى أنه غيَّر قضاءه بسبب تغيير الشروط التي سبق ووضعها. ولو أن هذا الندم يختلف عن ندم الإنسان، فالإنسان يندم بسبب عدم معرفته لما سيحدث. وهذا لا ينطبق على الله، الذي ليس عنده ماضٍ ولا مستقبل، بل الكل عنده حاضر.

وعندما نقول إن الله يحب ويكره ويتحسّر ويندم، لا نقصد أن له حواس مثل حواسنا، إنما نقصد أنها مواقف لله إزاء ما يفعله البشر[1].

ويقول القديس أغسطينوس: غير المتغير (الله) يغير الأشياء وهو لا يتأسف كالإنسان علي أي شيء عمله، لأن قراره في كل شيء ثابت ومعرفته للمستقبل أكيدة، لكنه لو لم يستخدم مثل هذه التعبيرات لما أمكن إدراكه بواسطة عقول الناس المحتاجين أن يحدثهم بطريقة مألوفة لهم (بلغة تناسبهم) لأجل نفعهم، حتى ينذر المتكبر ويوقظ المستهتر ويدرب الفضولي ويرضي الإنسان المتعقل. فما كان يمكن أن يتحقق هذا إن لم ينحنِ أولاً وينزل إليهم إلي حيث هم (يحدثهم بلغتهم) وبإعلانه موت كل حيوانات الأرض والجو المحيط ليكشف عن عظم الكارثة التي كادت تقترب؛ فهو لا يهدد بإبادة الحيوانات غير العاقلة كما لو كانت قد ارتكبت خطية[2].  ويكتب الاب تادرس يعقوب: قديمًا تعثر البعض من تعبير الكتاب "ندم الرب" فهل يُغير الله رأيه؟ يستخدم الله التعبير البشري لتقريب المعنى إلينا، فالله لا يندم بمعنى تغيير رأيه، إنما الإنسان هو الذي يُغير وضعه بالنسبة لله فيصير الحكم بالنسبة له مختلفًا. فعندما يُعاند الإنسان يسقط تحت التأديب، وإذ يرتد عن شره ويرجع إلى الله يجده فاتحًا أحضانه له. هذا ما ندعوه ندمًا! الله حينما يصدر حكمه بالتأديب لا يصر على التنفيذ إنما يصدر الحكم لكي يرجع الإنسان عن شره فيعفى عنه[3]. ويقول الاب انطونيوس فكري: ندم الله هو تعبير بحسب مفهوم البشر معناه : ليس أن الله يغير رأيه ويندم بل أن الإنسان هو الذي يغير وضعه بالنسبة لله فيصير الحكم بالنسبة له مختلفاً. فعندما يعاند الإنسان يسقط تحت التأديب، وإذ يرتد عن شره ويرجع إلى الله، يجد الله فاتحاً أحضانه[4].

 



[1] شبهات وهمية، علي تك 6: 6

[2] City of God 15: 25.

[3]  من تفاسير وتأملات الاباء الاولين، سفر يونان 3: 10

 [4] تفسير سفر يونان3: 10

هل يمكن سماع الله ورؤيته؟

 


يُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهاً لِوَجْهٍ كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ. (خر 33: 11)،

 ثُمَّ صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونُ وَنَادَابُ وَأَبِيهُو وَسَبْعُونَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ 10وَرَأُوا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهُ صَنْعَةٍ مِنَ الْعَقِيقِ الأَزْرَقِ الشَّفَّافِ وَكَذَاتِ السَّمَاءِ فِي النَّقَاوَةِ. 11وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَرَأُوا اللهَ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا. (خر 24: 9- 11)، 

فَنَادَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». 10فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ». (تك 3: 9- 10)، 

دَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ وَنُجِّيَتْ نَفْسِي». (تك 32: 30)، 

رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلَأُ الْهَيْكَلَ. (أش 6: 1).


النصوص السابقة تُخبرنا أن الله يُمكن رؤيته وسماعه، بينما هناك نصوص أُخري تؤكد أن الله لا يُمكن رؤيته، مثل: ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي. وَأَمَّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى». (خر 33: 23)، وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي لأَنَّ الْإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ». (خر 33: 20)، وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ. (يو 5: 37)، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ. (1تي 6: 16)، اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. (يو 1: 18).

 

تساءل الأب توما الإكويني[1]: هل يمكن للخلائق العاقلة أن ترى الله في الجوهر؟ بدأ إجابته بالاعتراض، مقتبسًا نصين، أحدهما للقديس يوحنا الذهبي الفم[2] حيث يقول فيه إنه لا يقدر أحد أن يرى الله. لا يراه الملائكة ولا كل الطغمات السمائية، ولا الأنبياء؛ لأنه كيف يُمكن للطبيعة المخلوقة أن ترى الطبيعة غير المخلوقة؟ والنص الثاني الذي اعتمد عليه الأب توما الأكويني مقتبس من ديوناسيوس الأريوباغي: ]لا يمكن أن يُعرَفَ بواسطة الحواس، ولا في صورة، ولا بواسطة فكره، ولا بالفعل، ولا بالمعرفة[3].[

وقد قيل إنه لا يقدر أحد أن يرى الله ويعيش (خر 33: 20-23؛ قض 6: 22؛ 13: 22؛ إش 6: 5؛ 1 مل 9: 13).

وقيل عن الله إنه يسكن في ظلمة (مز 18: 11)، وإنه يسكن في السحاب (مز 97: 2)، حيث يُعبِّر السحاب عن طبيعة الله غير المُدْرَكة. وقد أكد العهد الجديد نفس الفكرة (1 تي 6: 16؛ 1 يو 4: 12؛ يو 1: 18؛ 6: 46؛ مت 11: 27؛ لو 10: 22).

 

فماذا إذاً عن رؤية موسي وشيوخ إسرائيل ويعقوب وأشعياء ودانيال وحزقيال وغيرهم؟

 

يجب أن نعرف أن بعض هذه المُشاهدات هي مجرد رؤي، مثل حالة  اشعياء ودانيال فقد اختبروا رؤي إلهية وليس واقع مادي، ويعقوب ومنوح وزوجته أختبروا ظهور مسياني أو ظهور إلهي (ثيؤفانيا- theophany) مما يعني ان الله يمكن ان يظهر من خلال هيئة مرئية[4] لأجل إيصال رسالة مُعينة أو لتحقيق غرض مهم كما فعل مع شيوخ إسرائيل إذ تُحَّتم أن يُريُهم ذاته، ولكن ليس في جوهره الإلهي بل في شئ مرئي يتخذه من خليقته حتي تستطيع الطبيعة البشرية ان تقبله وتتفهمه (عدد 12: 8)، (1كورنثوس 13: 12)، (تث 4: 12، 15)، فالجوهر الإلهي غير مُدرك ولا يُمكن لأعين الجسد أن تراه. ويعلق القس منيس عبد النور قائلاً: عندما يراه الناس بهذه الكيفيات يكونون صادقين أنهم قد رأوا الله، مع أنهم لم يروا هذا الروح المبارك الكامل في علمه وحكمته، غير أنهم رأوه بهيئة خاصة، أو في صورة اتخذها لنفسه وقتياً. ولنضرب مثلاً: إذا رأينا شرارة تتطاير من سلك كهربائي، أو إذا شهدنا البرق عند المطر نقول: قد رأينا الكهرباء، مع أننا في الواقع لا يمكن أن نرى الكهرباء، بل كل ما رأيناه هو علامة تثبت وجود هذه القوة السرية المحيطة بنا. فبمعنى كهذا يرى المؤمنون الله كلما تنازل بإعلان نفسه في هيئة منظورة. ولكنه لا يمكن أن يُرى في جوهره غير المحدود بصفته روحاً[5].

 

ويقول العالم نورمان جيسلر: من الواضح ان ما رآه هؤلاء لم يكن جوهر الله، لكن صورة مرئية تُمثل مجد الله[6].

ويكتب يوسابيوس القيصري: لو فهموا (النقاد) هذه النصوص بناء علي أن الله الكلمة قد ترآي للأباء بأنواع وطرق كثيرة (عب 1: 1) لما وجدوا أي تناقض[7]. وذلك لأن هذا يعني أن الله أستخدم أساليب كثيرة وطرق متنوعة لكي يُظهر ذاته للأباء، ولكن ليس كما هو في مجده، بل في صورة أحدي مخلوقاته.

ويكتب ثيؤدوريت أسقف قورش: نقول أنهم رآوا، ليس الطبيعة الإلهية، بل رؤي مُحددة تتناسب علي قدر طاقتهم البشرية[8]

ويري القديس اغسطينوس أن هذه كانت مجرد ظهورات رؤيوية للإشارة لطبيعة الله الغير منظور[9].

 

فكما أوضحنا أن هذه كانت مُجرد رؤي، فالله روح، ولا يقدر الجسد على معاينته، لذا تجسد الابن ليهبنا الميلاد الجديد الروحي، فنرى ذاك الذي لا يُرَى (عب ١١: ٢٧)، ونحيا به. هو وحده يفتح الختوم (رؤ ٥: ٩) لنتعرف على أسرار الله[10]. 

 



[1] Summa contra Gentiles, Book 1, Question 12.

[2] In Joan. hom 15.

[3] De divinis nominibus, ch. 15.

[4] Hard sayings of the Bible, p. 155.

[5]  شبهات وهمية حول الكتاب المُقدس، تك 32 ص 65

[6] When critics ask. P, 83.

[7] Proof of the Gospel 5.18.3.

[8] Dialogue 1.

[9] The Trinity 2.15.25.

[10] الاب تادرس يعقوب ملطي، رؤية الله عند اباء الكنيسة، ص 10.

السبت، 28 أكتوبر 2023

الوحي ومفهومه للدكتور موريس تاوضروس

 


لا يتم الوحي بطريقة آلية كما يزعُم هؤلاء الذين يأخذون بما يُعرف بالنظرية الآلية mechanic theory والتي بحسبها، فإن من يكون واقعاً تحت تأثير الوحي الإلهي، يَتَحَوَّل إلى أداة سلبية لا فاعِلية لها، إلى الدرجة التي ننظُر فيها إلى الكُتَّاب المُقدسين كأن عملهم لا يتجاوز مُجرَّد التوقيع، وهم يكتبون ما يُملى عليهم أو يُلقَّن لهم من الروح القدس، ويمتد تأثير الروح القدس – حسب هذه النظرية – إلى الأسلوب والكلمات، بل بالنسبة للبعض، يمتد حتى إلى علامات الترقيم.

على أن هذه الصورة التي تقدمها هذه النظرية للوحي، لا تتفِق مع الصورة الحقيقية التي كان عليها رجال الوحي عندما كتبوا الكتاب المقدس، ومهما كان الأمر، فإنه يستحيل على كاتِب مهما كان، أن يكتُب بإملاء الروح القدس رسالة مثل الرسالة إلى رومية، أو إنجيلاً مثل الإنجيل للقديس يوحنا، كما كُتِب هذان الكتابان الأول بواسطة الرسول بولس، والثاني بواسطة الرسول يوحنا.

ويتبين لنا من قراءتنا للكتاب المقدس أن الوحي قد ترك للكتبة أن يستعملوا المعارف والثقافة التي اكتسبوها. ثم إن الوحي لا يعفي الكتبة من بذل الجُهد للتعَرُّف على بعض المعلومات والمعارف التي يتضمنها الكتاب المقدس في أجزاء أخرى منه. فمثلاً في (2مل12: 19)، أشير إلى مصادر لابد أن يكون الكاتِب على معرفة بها “وَبَقِيَّةُ أُمُورِ يُوآشَ وَكُلُّ مَا عَمِلَ، أَمَا هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي سِفْرِ أَخْبَارِ الأَيَّامِ لِمُلُوكِ يَهُوذَا؟”. (2مل12: 19).

وبلا شك فقد استعان كل من القديسين متى ولوقا في سلسلتي النسب بجداول الأنساب التي كان يستعملها اليهود في ذلك الوقت. والقديس لوقا في افتتاحية انجيله، يُشير إلى الكتابات الأخرى التي كان يعرفها، فيقول:

“إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَيوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ.” (لو1: 1ـ 4).

وفى بعض الأحيان، يبدو الكُتَّاب، كمن يكتبون من واقِع خِبراتهم الخاصة، فالقديس يوحنا مثلاً يقول:

وَكَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ يَتْبَعَانِ يَسُوعَ، وَكَانَ ذلِكَ التِّلْمِيذُ مَعْرُوفًا عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَدَخَلَ مَعَ يَسُوعَ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ وَاقِفًا عِنْدَ الْبَابِ خَارِجًا. فَخَرَجَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَكَلَّمَ الْبَوَّابَةَ فَأَدْخَلَ بُطْرُسَ. (يو18: 15ـ 16)

ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ:”هُوَذَا أُمُّكَ“. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ.” (يو 19: 27)

وفي سفر الأعمال الذي كتبه القديس لوقا، يشير إلى أنه كان يصحُب الرسول في رحلاته، ويتكلم بضمير المُتكلم الجمع.

هذا بالإضافة إلى اختلاف الأسلوب واللغة من كتاب لآخر.

وفي القصص الواحدة في الإنجيل، للكُتَّاب الأربعة، يختلف العرض بين الإسهاب والإيجاز واستعمال كلمات خاصة لا تَرِد في المواضِع المُقابلة.

 

2ـ وهناك نظرية أخرى تُسمى بالنظرية الطبيعية natural theory، وبحسب هذه النظرية، يكفي كعنصر للوحي، شركة الرُسُل الشخصية مع المسيح، التي طَبَعَت بدرجة حية وعميقة فيهم أثر حياة الرب يسوع، حتى أنهم استطاعوا أن يدركوا شخص المسيح ومقاصِده أكثر من جميع الأشخاص الآخرين، ومن هنا فإن العقول الأكثر نمواً بين المسيحيين في تلك الأيام، أخذت كتاباتهم وضعاً خاصاً، وهناك أيضاً آخرون، عرفوا عملاً من أعمال الروح القدس، وهو ما يُسمَّى بالميلاد الثاني، وزعموا أن بين هؤلاء الذين وُلدوا هذا الميلاد الثاني وُجِدَ البعض الذين تَمَيَّزوا بعُمق أكثر من غيرهم بعمل الروح القدس هذا، مما مَكَّنهم لأن يكونوا أقدر من غيرهم على كتابة الكُتُب المقدسة.

على أن هذه النظرية، تسلب كُتَّاب الوحي من عمل الروح القدس الخاص بهم، الذي يُمكِّنهم من أن يصيروا أصواتاً للروح القدس يتكلم على لسانهم.

 وكذلك فإن هذه النظرية تصل إلى القول بأن سُلطة الكتاب المقدس لا تُستَمَد مُباشرةً من الله. بل من الكنيسة وكذلك فهي لا تُقدِّم الكتاب المقدس كقانون إلهي سام يجب على الكنيسة أن توجِّه تعاليمها وحياتها في ضوئه، بل كما لو كان انعكاساً ونتاجاً لحياة وروح الكنيسة.

وأكثر من ذلك، فإنها تنتهي إلى وضع الكُتُب المُقدسة على مستوى كتابات الكُتَّاب الكنسيين لا تتميز عنها إلا بالدرجة فقط. وهذه النظرية تُعارض التأكيد الكنسي العام الذي بحسبه تكون الكُتُب المقدسة قد كُتِبت بالروح القُدس الذي تكلَّم على لسان الأنبياء والرُسُل، وأن هؤلاء لم يتكلموا من أنفسهم أنظر:

2 Tim. M. 82, 849.

Justin 1, Apol, 36.

Autol. II 10.

Clement of Rome, 1 cor ch. 45, 2 – 3

Basil, Psal. 1, 1.

Origen, in Cantic. II

Gregory of Nyssa, anti Eunom. VII.

Chrysost, Psalm 145, 2 + Genes. Hom. 7, 4, M. 6, 386, 1065 + 29, 209 + 13, 121 – 122 + 45, 741 + 55, 520 + 53, 65.


3ـ وشبيه بهذه النظرية، النظرية الأخلاقية moral theory والتي بحسبها، فإنه بتجسُّد الكلمة، قد خُلِقَ نمط جديد من الحياة يُشارك فيه جميع المؤمنين، فتتغيَّر ضمائِرهم وتستنير وتتقدَّس. وهنا فإن عيونهم الروحية يحدُث لها جلاء بصري حتى أنها ترى من العالم الروحي ما لا تدركه عيون غير المؤمنين.. على أن قدرة هذه العيون تختلف بين المؤمنين من حيثُ الدرجة، فإن الذين يكونون على درجة أعلى من الجلاء يُمكنَهم أن يُدركوا الرَّوحِيَّات بصورة أكثر وُضوحاً وتَمَيُّزاً، وهؤلاء هم الرُسُل، وحسب هذه النظرية، فإن الوحي هو نصيب مُشترك يُقاسِم جميع المؤمنين، ولا يختلف المؤمنون عن الكتبة القديسين إلا من حيثُ الدرجة لله.

لكن هذه النظرية تفتقد الضمانات التي تهب هذه الكُتُب المُقدسة خصائص مُعيَّنة بين الكُتُب المسيحية تعطيها أن تكون وحدها هي كلمات وصوت الروح القُدُس.

 

4ـ أما النظرية الرابعة وهي أرجح النظريات وأصحَّها، لأنها النظرية الوحيدة التي تعرض عرضاً صحيحاً طبيعة الوحي والتي تُعَبِّر عن التعليم الأرثوذكسي، ويأخذ بها آباء الكنيسة، فهي التي تُعرف بالنظرية الديناميكية dynamic theory. وحسب هذه النظرية، فإن الوحي هو عمل خاص وخارِق للطبيعة، من قِبَل الروح القُدُس، وبموجبه ترتوي وتمتلئ إرادة الكاتِب وفِكره، وكل ملكات الإنسان الباطنة، ولكن مع ذلك، فإن الروح القُدُس لا يلغي شخصية الكاتِب ولا يفقدها حُريتها وعملها الخاص(1). وإنما يرفعها ويُنهِضها ويُشَكِّلها لكي تعمل مع الروح القُدُس هذا العمل الإلهي المُتمَثِّل في كتابة هذه الكُتُب الموحى بها من الله.

إن الوحي، هو هذا الدخول والتغَلغُل للروح القُدُس في كل الشخصية الإنسانية للكاتِب، وليس في هذا فُقدان لشخصيته أو ضياع لها، وكذلك ليس فيه أي إقلال أو إنقاص لها، بل يَتَقَدَّم بها ليكسب النفس لتكون أكثر تَبَصُّراً وفِطنة وحذقاً، وليجعل العقل أكثر إشراقاً وتلألؤاً ولمعاناً(2). وهنا، فإن كل كاتِب من هؤلاء الكُتَّاب يتكلَّم لُغته الخاصة ويُعبَّر وِفقاً لتعبيره وأسلوبه الخاص، ذلك لأن الروح القُدُس في وَحْيِهِ يستخدِم الكِتاب، ككائنات شاعِرة عاقِلة وليس كآلات سلبية. على أن ما يصدُر عنهم لا يكتبونه كأنه من أنفسهم، ولكن من خلال تَغَلغُل الروح القُدُس فيهم يكتبون حسبما يُوجَّهون ويُرشَدون، وكما تكتُب اليد بتوجيه الرأس الذي هو المسيح(3).

ومِما يدُل على أن الوحي لا يلغي شخصية الكاتِب، وأن الكاتِب يكتُب مُتأثِّراً بثقافته وبيئته، هو ما نُلاحِظه من اختلاف الأسلوب بين كُتُب الكتاب المُقَدَّس المُختلفة، وكذلك عدم التزام الكاتِب بالحرفية فيما يُكتَب، ففي قصة عِماد السيد المسيح لم يذكُر القديس متى أن صوتاً من السماء قال حسب رواية القديس لوقا: “أنت ابني الحبيب الذي به سُرِرت” (لو 3: 22). كذلك يختلف الأمر بين البشائر الأربع فيما ذكروه عن النص الذي كُتِب على صليب السيد المسيح. فهو بحسب القديس متى: “هذا هو يسوع ملك اليهود” (مت 27: 27) وهو بحسب القديس مرقس “ملك اليهود فقط” (أنظر مر 15: 26) وفي القديس لوقا: هذا هو ملك اليهود (لو23: 38)، وأما في بشارة القديس يوحنا فهو: يسوع الناصري ملك اليهود (يو19: 19).

—————————————————————————

Chrysost John hom. 1, 1-2, 1 + 1 Cor. Hom. 29,2 M. 59, 25- 26 + 61, 241.

Origen,

anti Celsus VII 4, M. 11, 1425.

Psal. 142, 2, Agust. De Consensu evangelistraum, 1,35.

 

المصدر: كتاب علم اللاهوت العقيدي لدكتور موريس تاوضروس مراجعة وتقديم نيافة الأنبا موسي، الجزء الأول ص 81 وما بعدها