الجمعة، 1 سبتمبر 2023

علاقة الابن بالآب عند القديس أثناسيوس

 

الوحدة مع الآب:

          يقول الابن كما جاء في بشارة القديس يوحنا الإنجيلي" أنا في الآب والآب فيّ " (يو30:14). وهذا لا يتشابه مع ما نقوله عن القديسين وما يحدث معهم عندما يحل الله فيهم  ويقويهم، فالابن هو قوة الآب وحكمته.

          الابن في الآب والآب في الابن، فالابن هو من الآب وخاص به، مثلما أن الشعاع هو من الشمس، والكلمة من العقل، والنهر من الينبوع. ولذلك فإن مَن يرى الابن، ويرى ما هو خاص بجوهر الآب، يدرك أن الآب في الابن. وحيث إن الابن هو من جوهر الآب، لذلك فهو في الآب والآب فيه. لهذا السبب كان من الصواب أن يقول أولاً: " أنا والآب واحد " (يو30:10)، وبعد ذلك يضيف " أنا في الآب والآب فيّ " (يو30:14)، لكي يوضح وحدانية الألوهية من ناحية ووحدة الجوهر من الناحية الأخرى[1].

          هما واحد، ولكن ليس مثل الشئ الواحد الذي يمكن أن ينقسم إلى جزئين، كما أنهما ليسا مثل الواحد الذي يسمى باسمين، فمرة يُسمى الآب ومرة أخرى يُسمى هو نفسه ابنه الذاتي، هذا ما قاله سابيليوس، وبسبب هذا الأمر حُكم عليه كهرطوقي[2].

          الطبيعة واحدة، فالابن فقط هو صورة الآب. الابن مولود من الآب لذلك فهو متمايز عنه، إلاّ أنه بكونه إلهًا فهو واحد مع الآب. فالابن والآب كلاهما واحد من جهة الذات الواحدة والطبيعة الواحدة والألوهية الواحدة. فرغم أن الشمس والشعاع هما اثنان إلاّ أن نور الشمس، الذي ينير بشعاعه كل الأشياء، هو واحد ولا يستطيع أحد أن يقول إنه يوجد نوران.

          لاحظ أنه يُقال عن الابن (كما يقال عن الآب) إنه هو الله (يو1:1). وإنه ضابط الكل: " الذي كان والكائن والذي يأتي الضابط الكل " (رؤ8:1). وهو الرب: " رب واحد، يسوع المسيح " (1كو6:8). وهو النور " أنا هو النور" (يو12:8). كما أنه يمحو الخطايا كما خاطب اليهود قائلاً: " لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا " (لو24:5). كذلك هو الحقيقة " أنا هو الحق " (يو6:14). وهكذا في أقوال كتابية عديدة يمكننا أن نجمع مثل هذه الألقاب الإلهية المنسوبة للابن وتخصه.

          الابن نفسه يقول " كل ما للآب هو لي " (يو15:16). وأيضًا يخاطب الآب قائلاً: " وكل ما لي فهو لك " (يو10:17). " لأن مهما عمل ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك. لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضًا يحي مَن يشاء " (يو19:5، 21). فلا يمكن أن يقال عن الآب ما يقال عن الابن إلاّ إذا كان الابن هو مولود من جوهر الآب وصورته.

          والقديس بولس الرسول يقول عنه: " الذي إذ كان في صورة الله " (في6:2). فحيث إن ألوهية الابن وصورته ليست شيئًا آخر غير ألوهية الآب، لذا يقول " أنا في الآب ". ويقول أيضًا: "كان الله في المسيح مصالحًا العالم لنفسه" (2كو19:5). لأن الابن هو من ذات جوهر الآب ομοούσιος ، وبواسطة الابن تصالحت الخليقة مع الله. وهكذا فالأعمال التي عملها الابن هى أعمال الآب لأن الابن هو صورة ألوهية الآب الذي به عُملت الأعمال[3].

          إذًا فالابن هو كالآب لأن له كل ما هو للآب. لذلك فعندما يُذكر الآب يشار ضمنًا أيضًا إلى الابن معه. لأنه إن لم يكن هناك ابن فلا يستطيع أحد أن يقول إن هناك آب. لذلك فمن يؤمن بالابن يؤمن بالآب أيضًا. لأنه يؤمن بمَن هو من جوهر الآب ذاته. وهكذا يكون إيمان واحد بإله واحد. ومن يسجد للابن ويكرّمه، فهو ـ في الابن ـ يسجد للآب ويكرّمه. إذ أن الألوهية هى واحدة، ولذلك فالإكرام والسجود اللذان يقدمان إلى الآب وفي الابن وبه، هما واحد. ولهذا فالذي يسجد إنما يسجد لإله واحد[4].

          يستخدم ق. أثناسيوس تعبير نفس أو ذات Αὐτο عن الابن، فيقول في مقالته ضد الوثنيين فصل 46: حكمة (الآب) ذاتها Αυτοσοφία، قوة (الآب) ذاتها Αυτοδύναμις، النور ذاته Αυτοφώς، الحق ذاته Αυτο αλήθεια، البر ذاته Αυτοδικαιοσύνη وهكذا ...

          وحدة الذات أو الجوهر تؤدي إلى المعرفة الكاملة بين الآب والابن. وهنا ندرك كلام الكتاب: " وكما أن الآب يعرفني هكذا أنا أعرف الآب " (يو15:10). كذلك " ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن " (مت27:11). وأيضًا " ليس أن أحدًا رأى الآب إلاّ الذي من الله " (يو46:6). " المسيح المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم " (كو3:2). فيكون ذلك ناتجًا عن الوحدة في الإرادة والجوهر والطبيعة، ومتفقًا مع وجود الآب في الابن، والابن في الآب والكلام الذي قيل عن الابن كونه " الحكمة" و"الكلمة"، و"الفهم" و"المشورة الحية" و"المسرة"، و"الحق" و"النور، و"القدرة" التي للآب[5].

          الوحدة بين الآب والابن هى النموذج الأمثل لنا. ليكون الإنسان مدعوًا لكي يصير واحدًا متحدًا يستمد وحدته من الله الواحد، ويستمد اتحاده من الثالوث الواحد: " ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا .. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد " (يو21:17، 22).

          [ نحن لسنا أبناء كالابن، ولسنا آلهة مثله هو نفسه، ونحن لسنا مثل الآب، فنحن لن نصير واحدًا مثلما أن الآب هو في الابن بالطبيعة وكذلك الابن في الآب، بل بحسب ما يتفق مع طبيعتنا الخاصة ومن هذا يمكننا أن نتشكّل وأن نتعلّم كيف يجب أن نصير واحدًا ... الكلمة مختلف عنا، ولكنه مثل الآب، ولذلك فهو واحد مع أبيه بالطبيعة والحق. وأما نحن فلأننا من جنس واحد، فإننا نصير واحدًا بعضنا مع بعض بالنية الصالحة، واضعين أمامنا مثال الوحدة الطبيعية للابن مع الآب. " لكي يكونوا واحدًا، كما نحن ". أى بتعلمهم منا تلك الطبيعة غير المنقسمة، فإنهم بنفس الطريقة يحفظون الوفاق فيما بينهم ][6].

          " أنا فيهم وأنت فيّ، ليكونوا مكمّلين إلى واحد " (يو23:17). ولذا فالرب هنا يطلب لأجلنا شيئًا أعظم وأكمل. لأنه واضح أن الكلمة قد جاء لكي يكون فينا لأنه قد لبس جسدنا. وبقوله: " وأنت أيها الآب فيّ " فهو يعني: لأني أنا كلمتك، وحيث إنك أنت فيّ، سبب كوني كلمتك، وأنا فيهم بسبب الجسد، ومنك يتحقق خلاص البشر فيّ، لذلك أسألك أن يصيروا هم واحدًا، بسبب الجسد الذي فيّ، وبحسب كماله لكي يصيروا هم أيضًا كاملين إذ يكون لهم وحدة مع الجسد، ولأنهم قد صاروا واحدًا في هذا الجسد، فإنهم كما لو كانوا محمولين فيّ، يصيرون جميعًا جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا. لأننا جميعًا باشتراكنا فيه نصير جسدًا واحدًا، لأننا نحصل على الرب الواحد في أنفسنا[7]، وبالطبع يتم ذلك عن طريق الروح القدس.

 

المساواة في الأزلية:


          الابن أزلي كالآب، فلم يكن هناك وقت ما لم يكن الابن فيه كائنًا. إن الوقت بالمعنى الذي نعرفه نحن من زمن محدد بساعات وأيام وسنين لا ينطبق على الله الأزلي، فمن غير اللائق أن يشار إليه بكلمة "وقت"، لأنه كائن دائمًا. فلم يكن هناك زمن سابق على وجود الكلمة[8].

          فالكتاب واضح في قوله " في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله " (يو1:1) ويقول عنه في سفر الرؤيا: " الكائن والذي كان والآتي " (رؤ4:1). لقد كتب الرسول بولس وهو يتكلم عن اليهود، في الرسالة إلى أهل رومية قائلاً: " ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن فوق الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد ". وحين كان يتكلم عن الأممين قال: " لأن أموره غير المنظورة تُرى بوضوح منذ خلق العالم مدركة بواسطة المصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته " (رو20:1). وهو يشير بذلك للابن، لأنه يقول: " المسيح هو قوة الله وحكمة الله " (1كو24:1). وحينما سأله فيلبس " أرنا الآب " لم يقل له، انظر الخليقة، بل قال له: " من رآني فقد رأى الآب "[9].

          عن الخليقة يقول على فم سليمان: " قبل خلق الأرض. قبل صنع الأعماق، وقبل تدفق ينابيع المياه، وقبل أن ترسخ الجبال، وقبل جميع التلال، ولدني " (أم23:8ـ25س).

          فالابن الصانع كل الدهور لا يمكن أن يكون هناك وقت لم يكن موجودًا فيه، لأنه كيف يكون هناك دهر أو زمن إطلاقًا، بينما لم يكن الكلمة قد ظهر بعد، وهو الذي " به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ مما كان " (يو3:1)؟

          فأزلية الابن من أزلية الآب وهكذا فهو أبدي كالآب أيضًا. الابن غير متغير أو متبدل مثل الآب نفسه. لأنه ليس من العدل أن يقول أحد إن من جوهر غير المتغير يولد كلمة متغير، وحكمة قابلة للتحول. إذًا كيف يمكن أن يكون هو الكلمة إن كان قابلاً للتغير؟ أو كيف يمكن أن تكون حكمة تلك التي تكون قابلة للتحول؟[10].

          إن لم يكن الكلمة دائمًا أزليًا مع الآب، فلا يكون الثالوث أزليًا، بل واحد مفرد هكذا كان من قبل، وفيما بعد صار ثالوثًا بالإضافة. وأيضًا إن لم يكن الابن مولودًا ذاتيًا لجوهر الآب، بل قد خُلق من العدم، إذًا يكون الثالوث قد تكوّن من العدم، وكان هناك وقت ما لم يكن هناك ثالوثًا، بل واحد مفرد. وهكذا يكون الثالوث في وقت ما ناقصًا، ثم في مرة أخرى يكون كاملاً، فيكون ناقصًا قبل صيرورة الابن، ويكون كاملاً حينما صار الابن، وهكذا تحسب الخليقة مع الخالق، والذي لم يكن موجودًا في وقت ما يحسب مساويًا مع الله الذي هو كائن على الدوام، ويمجد معه. وما هو أسوأ من هذا حقًا، أن الثالوث يوجد غير متماثل مع ذاته، إذ يكون مكونًا من طبائع وجواهر غريبة ومختلفة عن بعضها[11].

          وهكذا يكون طبيعيًا أنه يمكن أن ينال إضافة جديدة، ويستمر في ذلك، بلا نهاية، كما حدث مرة في البدء وأتخذ أصله بطريقة الإضافة. فلا يكون هناك إذًا شك أنه يمكن أن يحدث فيه تناقص. لأن الأشياء التي تضاف وتزاد، من الواضح أنها يمكن أيضًا أن تطرح وتنقص.

          حاشا لله، أن يكون الأمر هكذا. فالثالوث ليس مخلوقًا، بل هو أزلي، بل يوجد لاهوت واحد في ثالوث، وهناك مجد واحد للثالوث القدوس. الثالوث غير قابل للتغير، وهو كامل أزلي وعلى الدوام هو هكذا. والإيمان المسيحي يعرف الثالوث بصورة نقية، ولا يخلطه مع المخلوقات، مقدمًا السجود للثالوث غير المنقسم، وحافظًا له وحدته اللاهوتية.

          ويعرف الإيمان المسيحي أن الابن موجود على الدوام لأنه أزلي كالآب وهو كلمته الأزلي أيضًا. الحقيقة تشهد بأن الله هو الينبوع الأزلي لحكمته الذاتية، ولما كان الينبوع أزليًا، فبالضرورة يجب أن تكون الحكمة أزلية أيضًا، لأن من خلال هذه الحكمة خُلقت كل الأشياء، كما يرتل داود في المزامير "كلها (أى الأعمال) بحكمة صُنعت " (مز24:103س) ويقول سليمان " أسس الله الأرض بالحكمة، وبالفهم هيأ السموات " (أم10:3),

          ونفس هذه الحكمة هى الكلمة، و "به" كما يقول يوحنا " كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان " (يو3:1). والكلمة هو المسيح، لأنه " يوجد إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن به " (1كو6:8) فإن كانت كل الأشياء قد خُلقت به، فهو لا يمكن أن يكون بين جميع هذه الأشياء[12]. متى إذا كان الله موجودًا بدون ما هو خاص به ذاتيًا؟ أو كيف يظن أحد أن ما هو خاص به ذاتيًا هو غريب ومن جوهر مختلف؟ لأن الأشياء الأخرى كمخلوقات ليس لها مشابهة فقط مع الخالق حسب الجوهر، بل هى من خارجه، قد خلقت بنعمته ومشيئته بالكلمة ولأجل الكلمة، ولذلك فإنها يمكن أيضًا أن تتوقف (عن الوجود) يومًا ما، إن أراد الخالق ذلك، لأن هذه هى الطبيعة الخاصة بالمخلوقات. أما هو من ذات جوهر الآب، فكيف لا يكون من الجسارة والكفر أن يقول أحد عنه إنه جاء من عدم، وأنه " لم يكن موجودًا قبل أن يولد " بل أضيف عرضًا، ويمكن ألا يكون موجودًا في وقت ما في المستقبل؟[13].

          لقد كُتب عنه: " لذلك رّفعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم" (في9:2) فماذا تعني هذه العبارة؟ يقول القديس أثناسيوس [ إنه حينما تُقال عنه هذه العبارة إنما تُشير إلى إنسانيته. فالإذلال والرفعة تقال عنه بسبب الجسد. فالإنسان كان في مسيس الحاجة إلى هذا (التمجيد) وبسبب وضاعة الجسد، وسبب الموت. فإن كان المسيح قد دخل الآن إلى السماء عينها لأجلنا رغم أنه من قبل هذا الحدث، كان هو دائمًا الرب وخالق السموات، فتبعًا لذلك تكون هذه الرفعة الحالية قد كتبت أيضًا من أجلنا نحن[14].

          هناك عبارات إنجيلية هامة تبين لنا كيف أن الأمور على هذا النحو، أن هذه الأقوال تقال عن بشريته وليس عن ذاته الإلهية التي لا تحتاج إلى رفعة أو مجد أو أى إضافة. يقول: "أنا قد أرسلتهم إلى العالم ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق " (يو18:17ـ19). وقد أوضح بقوله هذا أنه ليس هو المقدَس بل المقدِس، لأنه لم يُقدَس من آخر بل هو يقدس ذاته، حتى نتقدس نحن في الحق. وهذا الذي يُقدس إنما هو رب التقديس.

          الآب هو أزلي، غير مائت، قدير، نور، ملك، ضابط الكل، إله، رب، خالق، صانع. هذه الخصائص هى التي يجب أن تكون في الصورة، حتى يكون حقيقيًا أن من يرى الابن يرى الآب أيضًا. فإن لم تكن هذه الخصائص موجودة (في الصورة) ـ كما يظن الآريوسيين ـ ففي هذه الحالة لن تكون هذه هى صورة الآب الحقيقية، ولن يكون أمامهم سوى أنهم يرفعون برقع الحياء، ويقولون، إن كلمة الصورة التي تطلق على الابن ليست علامة مميزة لجوهر مماثل، إنما هى فقط مجرد اسم[15].

 

الابن الوحيد:


          البنوة الإلهية لا يمكن تصورها بالولادة البشرية، كما يولد إنسان من إنسان. ولكن البنوة الإلهية هى ولادة غير بشرية وغير جسدية من الآب منذ الأزل. فهو الابن، لأنه المولود من الآب، والمولود من الآب هو كلمته وحكمته وبهاؤه. والذين يعتقدون أنه كان هناك وقت ما لم يكن الابن موجودًا فهم يسلبون الله كلمته، ويعلّمون بمذاهب معادية لله معتبرين أن الله كان في وقت ما بدون الكلمة الذاتي وبدون الحكمة، وكان النور في وقت ما بدون البهاء وكان النبع جافًا مجدبًا[16].

          من الممكن أن يدعوه أحد ابنًا ولكنه يعني بذلك الاسم فقط حتى لا يدان، ولكنه بذلك ينكر الله. فهو يقول " هذا هو ابني الحبيب " (مت5:17). والابن يقول إن الله أبوه (يو18:5). فهنا ليست شركة خارجية، وإنما علاقة جوهرية بين الآب والابن.

          فإن كان المولود من جوهر الآب، هو الابن، فليس هناك أدنى شك، بل قد ظهر جلي للكل أن هذا المولود هو نفسه، حكمة الآب وكلمته والذي به ومن خلاله خلق (الآب) كل الأشياء وصنعها. وهذا المولود بهاء الآب الذي ينير به كل الأشياء، والذي به يعلن نفسه لأولئك الذين يريد أن يعلن لهم. وهو صورته، التي فيها يُرى ويُعرف، لذا فإنه " هو والآب واحد "، ولأن من يرى الابن فإنه يرى الآب أيضًا[17].

          والمخلوقات يقال عنها تلتصق بالرب " وأما أنتم الملتصقون بالرب إلهكم، فجميعكم أحياء اليوم " (تث4:4) فهنا نجد أن هناك فارقًا، فالمخلوقات حين تنمو (في الفضيلة) فإنها تكون ملتصقة بالرب، أما الكلمة فهو في الآب باعتباره من ذاته، لكن المخلوقات كائنات خارجة (عن الآب)، إذ هى بالطبيعة غريبة عنه. لأن أى ابن طبيعي هو واحد مع من ولده، أما الذي هو من خارج وقد جعل ابنًا (بالتبني) فإنه يصير متصلاً بالعائلة[18].

          لقد أتى الابن لخلاص العالم، ومن لم يؤمن بأنه الابن الإلهي فإنه يدان ولا يستحق الحياة الأبدية. " لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لأن الله لم يرسل ابنه إلى العالم، ليدين العالم، الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن به قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد. وهذه هى الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة " (يو16:13ـ19).

          فكيف لكائن أن يجعل الآخرين أبناء مع كونه هو نفسه ليس ابنًا؟! يقول القديس أثناسيوس في تجسد الكلمة 1:20 [ لم يكن ممكنًا أن يُعلّم البشر عن الآب ويقضي على عبادة الأوثان إلاّ الكلمة الذي يضبط كل الأشياء وهو وحده الابن الوحيد الحقيقي].

          الولادة هنا بلا ألم أو شهوة، أزلية ولائقة بالله. فأى تغيير أو شهوة هناك، أو أى جزء في الآب أيضًا يكون الكلمة والحكمة والبهاء؟ فإن كانت كلمة البشر بمثل هذه الكيفية، رغم أنهم يخضعون للتغيير والشهوة، ورغم كونهم متجزئين، فلماذا يفكرون في التغيير والإنقسام بالنسبة لله غير الجسدي وغير المنقسم، لكن عن طريق التظاهر بتوقير الله، ينكرون ولادة الابن الحقيقية والطبيعية؟ الله ليس مثل الإنسان، ولا يتخيلوا عنه شيئًا بشريًا. لأن البشر خُلقوا لتقبل الحكمة، أما الله، فهو لا يشترك في شئ، بل هو نفسه آب لحكمته الخاصة، التي يلقب المشتركون فيها عادةً بلقب حكماء. والحكمة أيضًا نفسها ليست شهوة أو تغييرًا وهى ليست جزءًا، ولكنها المولود الذاتي للآب. لذلك فهو دائمًا آب. وخاصة الآب ليست خاصية أضيفت لله فيما بعد، وذلك لكي لا يُعتبر خاضع للتحول[19].

          الخليقة هى من خارج الخالق، في حين أن الابن هو المولود الذاتي من الجوهر، لذلك فليس هناك حاجة لوجود الخليقة دائمًا، لأن الخالق يصيغها حينما يشاء، أما المولود (الأزلي) فلا يخضع في وجوده للمشيئة، بل هو خاص بذات الجوهر. فالصانع يلقب صانعًا ويكون كذلك، حتى لو لم تكن له مصنوعات بعد، أما الأب فلا يلقب أب ولا يكون كذلك ما لم يكن له ابن موجود.

          الخلائق، وإن لم تكن قد وُجدت بعد، فإن هذا لا ينقص من شأن الخالق. لأن له القدرة أن يخلق عندما يشاء. أما المولود فإن لم يكن موجودًا على الدوام مع الآب، فإن هذا ينقص من كمال جوهره. ولأجل هذا فإن المخلوقات قد خُلقت عندما شاء هو من خلال كلمته، أما الابن فهو ـ على الدوام ـ المولود الذاتي لجوهر الآب[20].

          وفي إجابته على التساؤل لماذا يُسمى باسم الابن مع الآب عند إتمام المعمودية؟ يقول إن اسم الابن يسمى مع الآب ليس ببساطة ولا مصادفة. وذلك ليس لأن الآب غير كاف بذاته، بل حيث إن الابن هو كلمة الآب وحكمته فإنه موجود دائمًا مع الآب، لأنه هو بهاؤه. لهذا فمن المستحيل عندما يعطي الآب نعمة ألا يعطيها بالابن، لأن الابن موجود في الآب مثلما يوجد الشعاع في الضوء. وذلك ليس لأن الله معوز أو ضعيف، بل كأب: " قد أسس الأرض بحكمته " (أم19:3)، وضع كل الأشياء بالكلمة المولود منه، ويختم على المعمودية المقدسة بالابن. وحيث يكون الآب، هناك يكون الابن أيضًا، كما أنه حيث يكون النور هناك يكون الشعاع. وأى عمل يعمله الآب فإنه يعمله بالابن. وهكذا أيضًا عندما تعطى المعمودية فإن من يعمده الآب، يعمده الابن أيضًا، ومن يعمده الابن فهذا يتم بالروح القدس[21].

          " لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله " (يو23:5). " لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته وأعطاه سلطانًا أن يدين أيضًا، لأنه ابن الإنسان " (يو26:5ـ27).


المقال للباحث الدكتور: جورج ميشيل أندراوس، المؤتمر السنوي السادس عشر لمؤسسة القديس أنطونيوس.



[1] انظر القديس أثناسيوس الرسولي، ضد الآريوسيين، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية 3:3.

2 المرجع السابق 4:3.

3 ضد الآريوسيين 6:3.

4 ضد الآريوسيين 6:3.

5 ضد الآريوسيين 65:3.

6 ضد الآريوسيين 20:3.

7 ضد الآريوسيين 22:3.

8 ضد الآريوسيين 11:1.

9 ضد الآريوسيين 12:1.

10 ضد الآريوسيين 36:1.

11 ضد الآريوسيين 17:1.

12 ضد الآريوسيين 19:1.

13 ضد الآريوسيين 20:1.

14 ضد الآريوسيين 41:1.

15 ضد الآريوسيين 21:1.

16 ضد الآريوسيين 14:1.

17 ضد الآريوسيين 16:1.

18 ضد الآريوسيين 5:4.

19 ضد الآريوسيين 28:1.

20 ضد الآريوسيين 29:1.

21 ضد الآريوسيين 41:2.

عقيدة الثالوث القدوس، دكتور نصحي عبد الشهيد

     


        الثالوث القدوس ليس فلسفة ولا شرحًا فلسفيًا ولذلك فهو ليس تعليمًا خاصًا بالفهماء والحكماء . لكنه حياة تعطى لجميع الناس . وجميع الناس يمكنهم أن يشتركوا فى حياة الثالوث . الحياة تكون مختلفة تمامًا إذا كان هناك ثالوث أو لم يكن . والإيمان المسيحى ليس فلسفيًا أى أن هذا الإيمان لا يتكون من عنصر أرضى . والثالوث القدوس هو الألف والياء فى المسيحية .

1 ـ الكلام عن الله غير الكلام عن الإنسان :

            لكى نتكلم فى عقيدة الثالوث يلزم أن نقرر منذ البداية أن الحديث عن الله يكون للكلمات فيه معانٍ غير المعانى المألوفة . وهذا الكلام عن الله نسميه التكلم بالإلهيات . وعندما نتكلم عن الله فنحن نعطى للكلمات معانى غير المعانى المعروفة والشائعة . فمثلاً إذا قلنا أن هذا الإنسان واحد وليس أثنين فهذا له معنى مختلف عن قولنا إن الله واحد . فعندما نقول عن إنسان إنه واحد فنحن لا نعنى نفس الشئ الذى نعنيه عندما نقول كلمة واحد عن الله. فليس هناك مدلول واحد لنفس الكلمة عن الله وعن الإنسان.

            [مثل عن وصف الإنسان بأنه جميل وما معنى القول إن الله جميل ونخلص فى النهاية، إلى أن جمال الله يدرك فى الصلاة ، التأمل الروحى].

            الله هو الذى نتصل به ونعبده وهو لا يُتكلم عنه. لكن لابد من الكلام. إذًا سيكون كلامنا منزهٌ عن الكلام البشرى . نقول عن الله ما ليس هو ، ولا نقول عنه ما هو (فمثلاً نقول إن الله ليس بواحد، وليس بجميل... إلخ) [هنا يشرح الاختلاف بين وجود الإنسان ووجود الله].

            ولذلك لا يمكننا أن نتكلم عن الله مثلما نتكلم عن الإنسان فهناك دائمًا نفى عندما نتحدث عن الله مقارنة بحديثنا عن الإنسان .

هل لله جوهر ؟ إذا كان للإنسان جوهر فهل يكون لله جوهر ؟ نجد الإجابة فى نشيد الميلاد : " العذراء تلد الفائق الجوهر " فهنا لا يقول الآباء إن له جوهرًا بل إنه يفوق الجوهر . إذًا فإن كان للإنسان جوهر فالله ليس له جوهر . وهكذا فإن ما يُنسب للإنسان لا يُنسب لله . فالله يُنَزه دائمًا ويُرفَع ويُعَلّى .

            وعلى هذا الأساس ، إذا قلنا إن الله ثلاثة أقانيم وإذا قلنا إنه واحد فى الجوهر فهذا ليس معناه بالمرة ، أنه هو ثلاثة أو أنه واحد . فهو ليس ثلاثة بمعنى العدد. العدد لا علاقة له بالله . الإنسان بطبيعته يعد المحسوسات ، أما الله فلا يُعد لأن من عده فقد حده ... الله لا يُحد وعلى ذلك فواحد ليس أقل من ثلاثة. فإذا كان ثلاثة عددًا فواحد عددًا أيضًا . فالله ليس واحد إن كنا نقصد بهذا أنه ليس أثنين . نعم ، إن الله واحد : فهكذا تكلم عن نفسه :

" الرب إلهنا رب واحد " (تث4:6) . " أنا الرب وليس آخر " (إش5:45، 18،14،21) وأيضًا أنظر(إش8:44) ، و(إش9:46) " أنا الله وليس آخر. الإله وليس مثلى " . هكذا تكلم الله عن نفسه بمعنى لا استطيع أن أعرفه بعقلى . ولكن هكذا كشف هو عن نفسه . ويمكننا بالاتصال الروحى ، وبالصلاة ، وبخبرة القديسين ، واختبار الجماعة. بهذه معًا يمكن أن نتذوق كيف أن الله ثلاثة وكيف هو واحد . ولكن خلاصة هذه النقطة أن معرفة الثالوث ليست عملية أحصائية .

 

 

2 ـ الثالوث لا يُعرف بالحساب بل بالاختبار الروحى :

            إذًا فلا يمكن أن نعرف الله بالطرق الحسابية ، لأننا نحن البشر لا نستوعب الله بل هو الذى يستوعبنا. ولذلك فلا مبرر للتساءل البشرى كيف أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة ، فلا يمكننا ان نفهم هذا بعقلنا . وبل لا يمكننا أن نفهم كيف أن الله واحد

[الواحد عقليًا ليس أبسط من ثلاثة وبذلك يبقى فهمنا للواحد بنفس صعوبة فهمنا للثلاثة] .

            وجود الله فى الأساس ليس عقليًا فالعقل البشرى يمكن أن يستريح كليًا سواء بوجود الله أو بعدم وجوده . ولا يستطيع العقل البشرى بقدرته المحدودة إلاّ أن يحسب ويعد . فعند العقل كل ما هو ليس حسابًا ليس معرفة . الله ليس حسابًا ولذلك لا يعرف ولا يستدل عليه بالعقل وحده وعلى ذلك نخلص إلى أن إله اليهود وشهود يهوه والآريوسيين وغيرهم ليس هو الإله المسيحى أو ليس هو الإله الذى أعلنه الإنجيل بتجسد المسيح.

3 ـ من هو الإله المسيحى ؟

الله محبة :

            هكذا يقول لنا الإنجيل " الله محبة ومن يثبت فى المحبة يثبت فى الله والله فيه " (1يو16:4) " من لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة " (1يو8:4) . فى سفر الرؤيا نقرأ عن المسيح أنه الحمل المذبوح قبل تأسيس العالم (رؤ8:3) وهذا معناه أنه قبل إنشاء العالم كان الآب عنده فى داخله حمل مذبوح وهو الابن الذى أعده لخلاص العالم . وهذا يدلنا على وجود عملية حب داخل الثالوث. لقد أعد الله الآب ابنه مذبوحًا حبًا قبل إنشاء العالم ليكشف لنا نحن البشر أننا محبوبون .

            [الفرق بين معرفة الله فى ذاته أو ما يسميه الآباء "ثيؤلوجيا" وبين التدبير أى الأيكونومية أى تدبير الله للعالم والبشر عن طريق الخلاص] .

            ولكن ما نفعله الآن أننا نبحث فى الثالوث أو نتحدث عن الثالوث فى علاقته بالخلاص لكى نستدل من كون أن الله عنده ابن يهيئه للذبح ، نستدل من هذا على طبيعة الله نفسها أو على ما يجرى فى الله أزليًا وما يجرى فى الله أزليًا هو المحبة .

            [ تعليق على الإله الواحد الأحد ] .

            فالإله الواحد الأحد المنغلق على نفسه المحدود بأحديته هو لا يلد ولا يولد أى أنه لا يحب ولا يُحب فالذى هو واحد فقط لا يستطيع أن يصير أثنين وأن يحاور شخص أمامه فهو ليس منفتحًا ...

            ليس هناك إنسان منحوت من صخر فكل إنسان يحاور حتى يوجد وقبل أن يحاور هو ليس موجودًا . فالله موجود لأنه يحاور ، لأنه غير منغلق على نفسه ، لأنه فاتح نفسه، أى هذا الإله الفاتح نفسه لحديث الحب ـ هذا الإله هو الآب وهو ينبوع الوجود الإلهى أى هو ينبوع اللاهوت ، أى مصدر الألوهة . الله موجود وكائن قبل أن يكون العالم . العالم يمكن أن يفنى فوجوده عرضى والعلماء يقولون إنه سيفنى .

4 ـ جوهر واحد لثلاثة أقانيم :

            هذا الإله الموجود الذى لا بداية له ولا نهاية ولكنه هو بداية الكل ونهاية الكل ، هذا الإله قبل الزمان وفى الأزل جاء منه أو فاض منه الابن الكلمة ، وفاض منه أيضًا الروح القدس . والكلمات المستعملة فى التراث المسيحى منذ عصور الآباء القدماء هى أن :

            الآب غير مولود وغير منبثق ، هذه صفته الخاصة به والتى تميزه عن الابن والروح .

            الابن مولود من الآب .

            والروح القدس منبثق من الآب .

            الفرق بين الابن والروح هو أن الابن مولود بينما الروح القدس منبثق . والسؤال ما هو الفرق بين المولود والمنبثق . هذا يعلو على الإدراك ولا نستطيع معرفته ، ولكن نعرفه من الوحى الإلهى بلسان الرب عندما قال "روح الحق الذى من عند الآب ينبثق" (يو26:15) .

            شرح ولادة الابن من الآب وانبثاق الروح من الآب إنه نشوء أزلى: أى بدون فرق زمن ولهذا السبب فهو مختلف، فالولادة الإلهية تختلف عن الولادة الجسدية. فمنذ كان الآب فى الأزل كان معه ابنه ومعه روحه أيضًا. فليس بينهم انفصال أو فارق زمنى أو فجوة أو بُعد . ولكن فى الوقت نفسه الواحد ليس هو الآخر، الآب ليس الابن ، والابن ليس الروح القدس ، والروح القدس ليس الآب . فهناك تمايز بينهم بلا أفضلية .

            العلاقة بينهم هى علاقة الصدور . الابن صدر عن الآب ، والروح القدس صدر عن الآب . الابن صدر بالولادة . والروح صدر بالانبثاق، وما يجمعهم هو الجوهر الواحد . أى أن كل ما بينهم مشترك ما عدا الصفات التى تخص الأقنومية . فالملوكية واحدة أى الربوبية واحدة . والخالقية واحدة . كل هذه العبارات تأتى تحت كلمة الربوبية . الأزلية ، الأبدية ، الرحمة ، المحبة ، ... إلخ ، كل الصفات مشتركة ما عدا الصفات الخاصة بكل منهم .

            فالصفة الخاصة بالآب هى الأبوة ، أى هو غير مولود وغير منبثق ، هذه هى صفته الأقنومية .

            والصفة الأقنومية للابن هى المولودية أى أنه مولود .

            والصفة الأقنومية للروح القدس هى الانبثاق أى أنه منبثق .

            أحاديث الإنجيل بعضها يدور حول ولادة الابن من الآب وبعضها حول التساوى بينهما . والخلاصة أن الابن والروح القدس صادران من الآب أزليًا والآب وحده هو مصدر اللاهوت .

+ الحديث عن التساوى بين الأقانيم وعن الصلة بينهم :

            علينا أن نستوعب إذًا فى نفوسنا المؤمنة أن بين الأقانيم الثلاثة تساويًا ولذلك فهناك أحاديث تدور حول التساوى وأن بينهم تسلسل أو ارتباط ولذلك فهناك أيضًا أحاديث تدور حول الصلة أوالارتباط .

            الابن مساوٍ للآب فى الجوهر وهو من نفس جوهره ولكنه فى نفس الوقت هو ابنه المولود منه بلا زمان . ولأن الابن من الآب لذلك فهو متجه إلى الآب وموجود معه وفيه كما أن الآب موجود فى الابن (أنظر يو10:14) وفى النهاية عند اكتمال تدبير التجسد سيخضع المسيح ابن الله لأبيه لأنه سيأتى بالإنسانية كلها إلى الله الآب (1كو28:15) فتخضع الإنسانية كلها للآب  فى شخص المسيح وهكذا يصل اتجاه الابن نحو الآب إلى غايته النهائية جامعًا البشرية التى أتى بها من خارج الله إذ وحدها بنفسه بتجسده الإلهى العجيب وبعمل الروح القدس .

5 ـ الثالوث ـ المحبة :

            كما نعرف من الآباء وكما سبق أن ذكرنا ، الآب هو مصدر الابن والروح القدس .

            الله الثالوث محبة ، فالآب هو أصل الحب الإلهى ومنبعه . الآب هو المحب الأول ، هو الحنان الأبدى غير المخلوق ، هو القلب الذى ينبع منه كل شئ . هذا المحب الأول لكونه محبة بطبيعته صدر عنه ابنه وروحه القدوس صدور حب ، صدورًا غير زمنى بل صدورًا حبيًا (م.م.) . وهذا معناه أن جوهر الآب أو طبيعة الآب أو حياة الآب التى فيه انسكبت كليًا فى الابن أزليًا وكذلك انسكبت حياة الآب كليًا فى أقنوم ثالث هو الروح القدس حتى تكتمل دورة المحبة .

            الابن هو المحبوب الأول أو هو الأقنوم المحبوب كما أن الآب هو الأقنوم المحب وينبوع الحب . ولكن إن كان من السهل أن ندرك الإله المحب والإله المحبوب (أى الآب والابن) كأقانيم أو كأشخاص ، فمن الصعب أن ننظر إلى المحبة الإلهية على أنها شخص أو أقنوم وهذا يدعونا إلى إدراك وجود أقنوم ثالث يكون " شريك المحب " ، " وشريك المحبوب " بحيث يكون موقفه بالنسبة للأقنومين الآخرين هو علاقة " مشاركة محبة ".

            [ الأقنوم المُعطى والموهوب أى الروح القدس أى العطية ] .

            فالروح القدس العطية جاء من الآب حتى يكون الابن محبًا للروح القدس ويكون الابن محبوبًا من الروح القدس وهذا يكشف حب الآب للابن ( ريتشارد دى سان فيكتور) .

            ويبدو أن هذه هى فلسفة الحب أنك إن كنت تحب إنسانًا ما فيجب أن تحبه ، أولاً ، ثم يجب أن تجعل شخصًا آخر يحبه . أى يجب على الإنسان أن يحب وأن يكون محبوبًا وهكذا تكتمل المحبة . هكذا أحب الآب الابن حتى أن الروح القدس صدر من الآب ليحب الروح القدس الابن ويحب الابن الروح القدس ، فيكتمل هكذا حوار المحبة فى الثالوث القدوس . وهكذا فالمحبة ، فى النهاية ، هى التى تُشكِّل الثالوث القدوس .

6 ـ الثالوث فى التجسد :

            هذا الحب الإلهى داخل الثالوث ينكشف بعد ذلك فى التجسد . فالحب الذى به يحب الآب الابن، يأتى الابن بالجسد إلى العالم لكى يعطى للناس الذين يقبلونه أن يكون فيهم هذا الحب نفسه الذى أحبه الآب به " ليكون فيهم الحب الذى احببتنى به وأكون أنا فيهم " (يو26:17) .

            المسيح جاء ليخطب البشر بحبه وحب الآب، وهكذا بذل نفسه بالحب للناس حتى يخضع الناس لهذا الحب . المسيح احب البشر بحب الآب الذى فيه لكى يدرب الإنسانية حتى يفتح قلبها على الله .

            وعلى هذا فإن من لا يقبل الثالوث لا يقبل المحبة . فالإنجيل يخبرنا أن الآب بذل ابنه الوحيد لأجلنا لأنه هكذا أحب العالم (انظر يو16:3) . فإن كان المسيح ابن الله هو المحبوب الأول للآب فنحن بالمسيح وبعمل الروح القدس نصير محبوبين فى المحبوب " أنا فيهم وأنت فىّ ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم أنك أرسلتنى وأحببتهم كما أحببتنى " (يو23:17) وأيضًا انظر(يو26:17) .

            وهكذا فالثالوث هو الكشف الكامل والتعليم الكامل والسليم عن الله فالثالوث ليس رياضة عقليه ولا أن الآباء تكلموا فى الثالوث لأنهم درسوا الفلسفة اليونانية وأرادوا أن يتسلوا بهذه الرياضة العقلية . فقضية الثالوث وصلنا إليها أو هى كُشفت لنا ، فى النهاية ، على الصليب .

            فالحمل المذبوح قبل إنشاء العالم والذى رأيناه مذبوحًا على الصليب ، هذا الحمل كشف لنا أن عملية موته وحبه لا تُفهم ولا تُدرك إلاً لأنها عملية تامة منذ الأزل فى الله . فالله أحب البشر منذ الأزل (قبل أن يخلقهم) وارسل ابنه الوحيد لخلاصنا . والله أحب لأن المحبة طبيعته فهو محبة وهو محب قبل كل الوجود قبل كل خليقة ، ولذلك فهو كإله محب يحاور نفسه أى يحاور ابنه المحبوب وروحه القدوس . ويحرك الحب فى نفسه لكى يكشفه للناس حبًا مجسمًا ومجروحًا وغالبًا وممجدًا بالمسيح وتدبيره وبعمل الروح القدس .

مفهوم التجديف على الروح القدس كما يراه القديس أثناسيوس


 

الرسالة الخامسة لسيرابيون:

+ «هذا (المسيح) لا يُخرج الشياطين إلاَّ ببعلزبول رئيس الشياطين» (مت 24:12).

+ «إن كنت بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله.» (مت 28:12)

+ «كل خطية وتجديف يُغفر للناس. وأمَّا التجديف على الروح القدس ... فلن يُغفر له ... لا في هذا العالم ولا في الآتي.» (مت 31:12و32)

يقول القديس أثناسيوس مفسِّراً هذا الكلام هكذا:

[لماذا يُغفر التجديف على الابن ولماذا لا يُغفر التجديف على الروح القدس لا في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي أيضاً؟

لقد قرأت ما كتبه الآباء وبالذات الحكيم المجاهد أوريجانوس والعجيب المجاهد ثيئوغنسطس([2]) (تُوفِّي سنة 282م) واطَّلعت على كتبهم لأرى ماذا قالوا بخصوص هذا الموضوع.

وكلاهما قال إن التجديف على الروح القدس يحدث عندما يعود الذين حصلوا على نعمة الروح القدس في المعمودية إلى الخطية. ولذلك يتفق كلاهما مع الآخر على عدم وجود مغفرة، مستندين إلى ما ذكره بولس في رسالته إلى العبرانيين (4:6-6). عند هذه النقطة كل منهما يتحدَّث مثل الآخر تماماً. ولكن بعد ذلك كل منهما له رأيه الخاص.

يشرح أوريجانوس سبب دينونة هؤلاء بهذه الكلمات: “الله الآب يحل في كل شيء ويضبط كل الكائنات الحية وغير الحية، أي التي لها نعمة العقل والتي ليس لها نعمة العقل. أمَّا الابن فهو يشمل بقوته الذين لهم نعمة العقل فقط، مثل الموعوظين والوثنيين الذين لم يأتوا بعد إلى الإيمان. أمَّا الروح القدس فهو يسكن فقط في الذين قبلوه في المعمودية. ولذلك عندما يخطئ الموعوظون أو الوثنيون فإن خطيتهم هي ضد الابن فقط، لأنه هو فيهم كما ذكر - أوريجانوس - ولذلك يمكنهم الحصول على المغفرة عندما يكرمون بنعمة الميلاد الثاني. ولكن عندما يخطئ المعمد فإن الخطية بعد المعمودية موجَّهة ضد الروح القدس الذي يسكن في الذين عُمِّدوا، ولذلك لا مناص من العقاب”.

 أمَّا ثيئوغنسطس فهو كما ذكرت يتبع شرح أوريجانوس ويقول: إن الذي يتخطَّى الحاجزين الأول والثاني يستحق عقوبة أقل. ولكن الذي يتخطَّى الحاجز الثالث لا يمكن أن يحصل على مغفرة. وهو يدعو التعليم الخاص بالآب والابن بالحاجزين الأول والثاني. أمَّا الحاجز الثالث فهو التعليم الذي يُقال في المعمودية الخاص بالروح القدس، ولكي يؤكِّد ثيئوغنسطس هذا الشرح اقتبس كلمات الرب للتلاميذ «إن لي أُموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأمَّا متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يُرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من نفسه، بل كلُّ ما يسمع يتكلَّم به ويُخبركم بأمور آتية» (يو 12:16-13). وقد قال ثيئوغنسطس عن هذه الكلمات إن المخلِّص تحدث مع أُناس لا يمكنهم أن يقبلوا التعاليم الكاملة، ولذلك نزل إلى مستواهم غير الكامل. أمَّا الذين تكمَّلوا فهم الذين قبلوا الروح القدس في المعمودية، والتعليم الكامل هو من نصيب الذين حلَّ فيهم الروح القدس.

لكننا نحذِّر كل مَنْ يقرأ هذه الكلمات من عدم فهمها بصورة سليمة، إذ لا يجب أن يظن أحد أن التعليم عن الروح القدس هو “ختم الكمال”. كما علينا أيضاً أن نحذِّر من الظن بأن الروح القدس أسمى من الابن طالما أن التجديف على الروح بلا مغفرة. ولكن المغفرة لغير الكاملين (غير المعمَّدين)، أمَّا الذين ذاقوا الموهبة السماوية وصاروا كاملين فلا مغفرة لهم ولا صلاة يمكنها أن تسهِّل لهم المغفرة. هذا ما ذكره هذان الكاتبان المجاهدان.

أمَّا عن نفسي فحسب ما تعلَّمت، أعتقد أن رأى كلٍّ منهما يتطلَّب فحصاً ومراجعة دقيقة لأن كلمات الإنجيل الخاصة بالتجديف عميقة.

في الحقيقة واضح أن الابن في الآب، وبالتالي فهو في الذين فيهم الآب أيضاً. والروح القدس ليس غائباً عن الآب والابن، لأن الثالوث القدوس المبارك غير منقسم. وزيادة على ذلك إذا كان كل شيء قد خُلق بالابن (يو 3:1) وفيه كل الأشياء توجد (كو 17:1)، فهو ليس كائناً خارج الأشياء التي جاءت إلى الوجود بواسطته. فكل المخلوقات ليست غريبة عنه. هو بالطبيعة في كل شيء، وبالتالي كل مَنْ يخطئ ويجدِّف على الابن يخطئ ويجدِّف على الآب والروح القدس. ولو كان حميم الميلاد الثاني قد أُعطي باسم الروح القدس فقط، لكان من المعقول أن نقول إن الذي عُمِّد إذا أخطأ بعد المعمودية يخطئ ضد الروح القدس وحده. ولكن لأن المعمودية تُعطى باسم الآب والابن والروح القدس، فكل معمَّد يقبل المعمودية باسم الثالوث، وبذلك يصبح واضحاً أن كل مَنْ يجدِّف بعد المعمودية يكون قد جدَّف على الثالوث الأقدس، وهذا هو التعليم الحقيقي الذي يجب أن نقبله.

ولو كان هؤلاء الذين تحدَّث معهم الرب، أعني الفريسيين، قد قبلوا حميم الميلاد الثاني وحصلوا على نعمة الروح القدس، لكان التفسير السابق لكل من أوريجانوس وثيئوغنسطس مقبولاً، لأن الرب لم يكن يتكلَّم مع أُناس ارتدوا وجدَّفوا على الروح القدس، لأننا إذا تذكَّرنا، لم يكن هؤلاء الناس - أي الفريسيُّون - معمَّدين، بل حتى معمودية يوحنا احتقروها ورفضوها (مت 25:21-27). فكيف يمكن اتهامهم بالتجديف على الروح القدس وهم لم يحصلوا عليه بعد؟! ولذلك لم ينطق الرب بهذه الكلمات لكي يعلِّم عن الخطية بعد المعمودية، كما أنه لم يكن كذلك يهدِّد بعقوبة أُولئك الذين سيخطئون في المستقبل بعد المعمودية، بل قال هذه الكلمات بطريقة مباشرة وصريحة ضد الفريسيِّين لأنهم أذنبوا فعلاً وسقطوا في هذا التجديف الفظيع. لقد اتهمهم الرب بطريقة واضحة بالتجديف وهم لم يقبلوا المعمودية. فإن هذه الكلمات ليست موجَّهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية، خصوصاً وأن الرب لم يكن يشتكيهم بخطايا عامة ولكن بالتجديف بالذات، وهناك فرق بين الذي يخطئ ويتعدَّى الناموس والذي بسبب عدم تقواه يجدِّف على الله نفسه.

وقبل ذلك اتهم الرب الفريسيِّين بخطايا أُخرى مثل محبة المال التي من أجلها أبطلوا الوصية الخاصة بالوالدين، ورفضوا كلمات الأنبياء وجعلوا بيت الله بيت تجارة، وفي كل هذا انتهرهم المخلِّص لكي يتوبوا. أمَّا عندما قالوا إنه ببعلزبول يُخرج الشياطين لم يقل لهم ببساطة إنهم يخطئون بل إنهم يجدِّفون بصورة شنيعة تستوجب العقاب وتجعل المغفرة مستحيلة، لأنهم تمادوا إلى حيث لا حدود لخطئهم.

وزيادة على ذلك، لو كانت هذه الكلمات موجَّهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية وهؤلاء لا مغفرة لهم، فكيف أظهر الرسول محبة نحو التائب في كنيسة كورنثوس؟ (2كو 8:2). وماذا عن الغلاطيين الذين ارتدُّوا (غل 9:4)، والذين تألَّم الرسول لكي يولدوا ويتكوَّن فيهم المسيح مرَّة ثانية (غل 19:4)؟ وكيف نلوم نوفاتس (249-250م Novatian) الذي يمنع التوبة ونعترض على قوله بأن الذين يخطئون بعد المعمودية لا مغفرة لهم طالما أن هذه الكلمات الإنجيلية تؤيِّد تعليم نوفاتس وهي موجَّهة إلى الذين يخطئون بعد المعمودية.

وحتى كلمات الرسالة إلى العبرانيين (4:6-6) لا تمنع توبة الخطاة بل تشير إلى أن معمودية الكنيسة الجامعة تُعطَى مرَّة واحدة، ولا يمكن أن تتكرَّر. ويجب أن نلاحظ أنه للعبرانيين بالذات كتب الرسول هذه الكلمات لأنه خاف عليهم من التظاهر بالتوبة وأنهم بسبب تمسكهم الشديد بالناموس الموسوي وشريعة التطهير سيظنون أنه توجد فرصة لمعموديات يومية متكرِّرة كما في مرقس 3:7-4، ولذلك يشجِّعهم على التوبة ويعلن أن التجديد في المعمودية هو تجديد فريد لا يعاد. وفي رسالة أخرى يقول: «إيمانٌ واحِدٌ، معموديةٌ واحِدةٌ» (أف 5:4). وهو لا يقول إنه من المستحيل أن يتوب الساقط بل من المستحيل أن نصنع نحن تجديداً لأنفسنا بالتوبة، والفرق كبير، لأن مَنْ يتوب يكف عن الخطية ولكن آثار جروحه تظل ظاهرة بعكس مَنْ يعتمد يخلع العتيق ويتجدَّد (كو 9:3-10)، بل ويولد مرَّة ثانية بنعمة الروح القدس (يو 3:3).

وعندما أفكِّر في هذه الأشياء أجد في الكلمات السابقة عمقاً عظيماً. ولذلك بعد أن صلَّيت بلجاجة للرب الذي جلس عند البئر (يو 6:4) ومشي على المياه (مت 25:14)، أعود إلى تدبير الخلاص الذي تمَّ راجياً أن أكون قادراً على أن أملأ دلوي من معاني الكلمات الإنجيلية التي نبحثها.

كل الكتب الإنجيلية، وبالذات إنجيل يوحنا، تخبرنا عن التدبير الإلهي: “الكلمة صار جسداً وسكن فينا” (يو 14:1). وبولس عندما يكتب: «الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب (مساواته) خُلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبدٍ، صائراً في شبه الناس» (في 6:2-8). ولأنه الإله الذي أخلى ذاته وصار إنساناً، أقام الموتى وشفى المرضى، وبكلمته حوَّل الماء خمراً ... وهذه كلها أعمال ليست من قدرة البشر، ولكنه جاع وعطش وتألَّم لأنه أخذ جسداً وكل أعمال الجسد ليست من صفات اللاهوت. كإله قال: «أنا في الآب والآب فيَّ» (يو 10:14)، ولأنه أخذ جسداً حقـًّا وبكل يقين، انتهر اليهود قائلاً: «الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلَّمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يو 40:8). ورغم كونه إلهاً إلاَّ أنه لم يقم بهذه المعجزات مرَّة واحدة لأنه تجسَّد وكان عليه أن يواجه الاحتياجات والظروف المرتبطة بحياته كإنسان.

لكن لم تكن أعمال الجسد تتم بدون اللاهوت ولا أعمال اللاهوت كانت تتم بدون الجسد، بل على العكس، فإن كل أعماله صنعها الرب الواحد، الذي أكمل كل شيء في سر نعمته. وعلى سبيل المثال، بصق على الأرض كما يبصق كل الناس، لكن لعابه وحده كان فيه قوة إلهية لأنه وهب به البصر لعيني المولود أعمى (يو 6:9). ورغم أنه الإله إلاَّ أنه تكلَّم بلغة بشرية وقال: «أنا والآب واحد» (يو 30:10)، وبإرادته منح الشفاء (مت 3:8). ولكن عندما مدَّ يده الإنسانية، أقام حماة سمعان بطرس من الحُمَّى (مر 31:1) وبنفس اليد أقام من الموت ابنة رئيس المجمع (مر42:5).

وقد أخطأ الهراطقة كلٌّ حسب مقدار جهله، البعض منهم نسب كل ما حدث من الرب لجسده (أي كإنسان) وتعاموا عن القول الإلهي: «في البدء كان الكلمة» (يو 1:1)، والبعض نسب ما حدث إلى لاهوته فقط، ولم يفهموا القول: «والكلمة صار جسداً» (يو 14:1). لكن المؤمن الذي يتبع تعليم الرسل يعرف غنى الرب ومحبته للبشر. وعندما يرى أعماله العجيبة الإلهية يمجِّد الرب الذي ظهر في الجسد. وعندما يرى أعمال الجسد يتعجَّب ويرى فيها القوة الإلهية التي تعمل. هذا هو إيمان الكنيسة، ولذلك إذا ثبَّت البعض عيونهم على الجانب الإنساني في حياة الرب، وشاهدوه يختبر الجوع والتعب والألم، يتحدَّثون عنه بدون تقوى كمن يتحدَّث عن إنسان فقط، فيخطئون بذلك خطية عظيمة. وبلا شك إن لم يتأخَّروا في التوبة يمكنهم الحصول على المغفرة، لأن ضعفهم الإنساني هو عذر لهم. وحتى الرسول يمنحهم المغفرة، وبطريقة ما يمد يده إليهم، لأنه بالحق يقول: «وبالإجماع، عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد» (1تي 16:3).

عندما يرى البعض أعمال اللاهوت يتردَّدون في الاعتراف بإنسانيته - وهذا خطأ بالغ - ويتوهَّمون عندما يقرأون أن الرب يأكل ويتألَّم أنه خيال، هؤلاء إذا لم يتأخَّروا في التوبة سيغفر لهم يسوع لأنهم لا يفهمون أعماله الفائقة التي أتمها في الجسد. وإذا فحصنا جهل هؤلاء وأولئك، أي الذين يخطئون ولهم معرفة بالناموس مثل الفريسيِّين أو الذين يستسلمون للجنون وينكرون وجود الكلمة في الجسد، أو يذهبون إلى أبعد من هذا عندما ينسبون أعمال اللاهوت إلى الشيطان وجنوده؛ فإنه من العدل أن تكون عقوبة عدم تقواهم هي عدم المغفرة، لأنهم اعتبروا الشيطان مثل الله، وحسبوا أن مَنْ هو بالحقيقة الله لا شيء في أعماله يدل على ألوهيته، بل إنه الشيطان يستخدم أعوانه. وإلى هذه الدرجة السفلى من عدم التقوى انحدر اليهود في ذلك الزمان، وبالذات الفريسيُّون منهم. ورغم أن الرب كان يقوم بأعمال الآب علانية، فهو أقام الموتى ومنح النظر للعميان وجعل العرج يمشون وفتح آذان الصم وجعل الخرس يتكلَّمون، معلناً أن الخليقة العاقلة وغير العاقلة خاضعة له، لأنه هو الذي أمر الريح ومشي على البحر، والجموع عاينت هذا وامتلأت بالدهشة ومجَّدت الله، إلاَّ أن الفريسيِّين قالوا إن هذه أعمال بعلزبول - ومن فرط جنونهم لم يخجلوا من أن يعطوا الشيطان قوة الله. وأمام هذا أعلن الرب بالحق أن تجديفهم بلا مغفرة، لأنهم عثروا في كل ما يختص بإنسانيته وكان لهم، في المسيح كإنسان، رأى شرير، إذ قالوا: «أليس هذا ابن النجَّار» (مت 55:13)، وكيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلَّم (يو 15:7)، وما هي المعجزات التي «تصنع لرنى ونؤمن بك» (يو 30:6)، «فلينزل الآن عن صليبه فنؤمن به» (مت 42:27). وقد احتمل الرب كل هذا، وسمَّى الإنجيل مثل هذه الأقوال بالتجديف على ابن الإنسان، وتألَّم الرب من قساوة قلوبهم (مر 5:3)، وقال: «لو علمتِ ... ما هو لسلامكم؟» (لو 42:19).

وغفر الرب لبطرس عندما تكلَّمت معه الجارية عن يسوع كإنسان فأجاب بطريقة لا تختلف عن رأي الجارية وكلامها، ولكن الرب غفر له عندما بكى بدموع.

أمَّا عندما سقط الفريسيُّون إلى أدنى من كل هذا وتفوَّهوا بما هو أشر من كل ما سبق، حتى أنهم قالوا إن أعمال الله هي أعمال بعلزبول، لم يتحملهم لأنهم جدَّفوا علىروحه بقولهم إن مَنْ يعمل هذه الأعمال ليس الله ولكنه بعلزبول. ولهذا السبب استحقوا عقوبة أبدية. وفي الحقيقة إن جرأتهم زادت عن الحد، وعندما رأوا ترتيب العالم والعناية به نسبوا الخلق إلى بعلزبول، حتى أن الشمس صارت بحسب قولهم تحت سلطان الشيطان وأصبح الشيطان هو الذي يحرِّك النجوم في السماء، لأن كل أعمال الآب كخالق، عملها يسوع؛ فإذا قالوا إن أعمال يسوع هي أعمال بعلزبول، فكيف إذاً يفهمون القول الإلهي: «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تك 1:1). ولكن مثل هذا الجنون ليس غريباً عنهم لأن آباءهم أظهروا نفس الطباع، فبعد خروجهم من مصر صنعوا العجل الذهبي في البرية ونسبوا إليه المعجزات والبركات التي أخذوها من الله وقالوا: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (خر 4:32). وبسبب هذا التجديف الذي ارتكبه أُولئك المجانين تمَّ فناء الكل في البرية، وأعلن الله أنه في يوم افتقاده «سوف يفتقد فيهم خطيتهم» (خر 34:32). وعندما اشتكوا من انعدام الخبز والماء اهتم بهم تماماً مثل المرضعة برضيعها، ولكنهم زادوا الشكوى إلى الحد الذي وصفه الروح القدس في المزامير «أبدلوا مجدهم بمثال ثور آكل عشب» (مز 20:106). وعندما اجترأوا على ارتكاب مثل هذا العمل الذي لا مغفرة له ضربهم الرب، كما يقول الكتاب، بسبب العجل الذي سبكه هارون (خر 35:32). وتصرَّف الفريسيُّون بنفس الوقاحة، ولذلك أخذوا من الرب عقوبة مماثلة بل هي عقوبة مثل عقوبة بعلزبول نفسه الذي تحدَّثوا عنه، كي يحترقوا معه بنار أبدية.

ولم يكن الرب يقصد بما قاله في الإنجيل أن يقارن بين التجديف الموجَّه ضدَّه، والتجديف الموجَّه للروح القدس؛ ولا أشار ولو من بعيد أو بطريقة غير مباشرة إلى أن الروح القدس أسمى منه ولا لأن التجديف على الروح أخطر، حاشا؛ نطق الرب بهذه الكلمات لأنه علم من قبل أن كل ما هو للآب فهو للابن، وأن الروح يأخذ من الابن وبذلك يمجِّد الابن (يو 14:16و15). والروح لا يعطي الابن بل الابن هو الذي يعطي الروح وقد أعطاه لتلاميذه، وبهم لمن يؤمنون به بواسطتهم. ولم يكن الرب يقارن نفسه بالروح عندما قال هذه الكلمات، كما أنها لا تعني أن الروح أسمى من الرب، فهذا سوء فهم لكلمات المخلِّص. والتجديف بنوعيه موجَّه بالضرورة للروح القدس. والنوع الأول محتمل أمَّا النوع الثاني فهو خطير. وقد ارتكب الفريسيُّون نوعي التجديف لأنهم رأوه إنساناً فأهانوه بقولهم: «من أين لهذا الحكمة؟» (مت 54:13)؛ وقولهم: «ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟» (يو 57:8). ورغم أنهم رأوا أعمال الآب فيه إلاَّ أنهم لم يرتضوا بألوهيته. وبدلاً من هذا قالوا إن بعلزبول فيه، وأن هذه الأعمال هي أعمال بعلزبول، وبذلك أصبح تجديفهم بنوعيه موجَّه ضدَّه. والنوع الأول أقل خطورة بسبب العذر الواضح وهو إنسانيته، أمَّا النوع الثاني فهو أكثر خطورة لأنه إهانة موجَّهة إلى ألوهيته. ومثل هذا التجديف الخطير هو الذي استدعى عقوبة عدم المغفرة. ومن الواضح أن الرب كان يشجِّع التلاميذ عندما قال لهم: «إن كانوا قد لقَّبوا رب البيت بعلزبول» (مت 25:10) وأكَّد هنا أنه رب البيت الذي جدَّف عليه اليهود.

أمَّا اليهود فعندما قالوا عنه: “بعلزبول” لم يهينوا أحداً سوى الرب يسوع، وهذا واضح من التعبير نفسه لأن كلمة “الروح” في نص الإنجيل تشير إلى الرب يسوع وإلى الروح القدس، لأن “رب البيت” يُراد به المسيح أي رب الكون كله. وأنا أرجوك أن لا تتضايق من هذا التكرار فهو لازم إذا كنا نحرص على الوصول إلى المعنى الدقيق للنص، ولذلك سأعود إلى ما ذكرته سابقاً أن الجوع والتعب والنوم والإهانات كلها خاصة بناسوته، أمَّا الأعمال الباهرة التي كان يقوم بها الرب، فلم تكن أعمال إنسان بل أعمال الله.

لذلك إذا ما شاهد بعض الناس الأشياء الخاصة بالإنسان مثل الجوع ... إلخ وأهانوا الرب لأنه حسب ظنهم مجرَّد إنسان، فقد حُسبوا مستحقين لعقوبة أقل من عقوبة أُولئك الذين ينسبون أعمال الله للشيطان. لأن هؤلاء لا يكتفون بإلقاء الأشياء المقدَّسة للكلاب (مت 6:7)، بل يجعلون الله مساوياً للشيطان ويدعون النور ظلمة (إش 20:5). لذلك سجَّل مرقس أن تجديف اليهود بلا مغفرة، «ولكن مَنْ جدَّف على الروح القدس، فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستحق دينونة أبدية، لأنهم قالوا: إن معه روحاً نجساً (وذلك على أعمال لاهوته).» (مر 29:3و30)

والرجل الأعمى منذ ولادته عندما أبصر، شهد بأنه لم يُسمع من قبل أن أحداً فتح عيني مولود أعمى، ولذلك قال: «لو لم يكن هذا (الإنسان) من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً» (يو 33:9). حتى الجموع نفسها عندما امتلأت من الإعجاب بما فعله الرب قالت: «ليس هذا كلام مَنْ به شيطان، ألعل شيطاناً يقدر أن يفتح أعين العميان» (يو 21:10). أمَّا هؤلاء الذين امتلأوا من معرفة الناموس، أي الفريسيُّون وهم الذين يلبسون العصائب العريضة (مت 5:23)، ومزهوُّون بمعرفتهم بالناموس أكثر من باقي الناس (يو 24:9-29)، كان من المفروض عليهم بسبب هذه المعرفة أن يخجلوا، ولكن كما هو مكتوب عنهم أنهم «تعساء لأنهم ذبحوا لأوثانٍ ليست الله» (تث 17:32). وعندما قالوا إن بالرب شيطاناً، وأن أعمال الله هي أعمال الشيطان؛ لم يكن لديهم أي أسباب مقنعة تدفعهم إلى هذا الاعتقاد، والدافع الحقيقي لمثل هذا التجديف هو رغبتهم في أن ينكروا أن الذي يعمل هذه الأعمال هو الإله ابن الله. وبالحقيقة لقد أكل أمامهم وشاهدوا جسده وتأكَّدوا أنه إنسان فكان لديهم فرصة لأن يقتنعوا من أعماله أن الآب فيه وأنه في الآب. أمَّا لماذا لم يقتنعوا؟ فلأنهم لم يشاءوا.

وفي الحقيقة لقد سكن بعلزبول في الفريسيِّين. وكان بعلزبول هو الذي يتكلَّم فيهم. ولذلك قالوا عن المسيح: إنه مجرَّد إنسان، بسبب ناسوته، دون الاعتراف به إلهاً بسبب أعماله التي هي أعمال الله. ولكن بهذه السقطة ألَّهوا بعلزبول الذي سكن فيهم، والذي في النهاية سوف يعاقبون معه في النار إلى الأبد.

ودراستنا للنص توضِّح لنا أنه يعني نوعي التجديف الذي أشرنا إليه سابقاً. ذلك أن المخلِّص أشار إلى نفسه عندما قال: «ابن الإنسان»، ولكنه كان يعني أيضاً نفسه عندما تحدَّث عن “الروح”. والاسم الأول: «ابن الإنسان» يوضِّح تجسُّده، والاسم الثاني: “الروح” يوضِّح طبيعته الروحية غير المادية ولاهوته. وفي الواقع، إن الخطية التي يمكن غفرانها هي العثرة الناتجة عن رؤية ناسوته، أي ما يتعلَّق به كابن الإنسان، ولكنه أوضح أن التجديف الذي لا يمكن مغفرته هو التجديف على “الروح”، أي على الطبيعة الإلهية.

وقد لاحظت أن التعبير “الروح” جاء بالمعنى الذي نتحدَّث عنه في إنجيل القديس يوحنا عندما كان الرب يتحدَّث عن تقديم جسده. ولمَّا رأى أن كثيرين عثروا بسبب ما ذكره عن جسده، قال لهم: «أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً! الروح هو الذي يحيي أمَّا الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة» (يو 6: 62و63). وقد تحدَّث الرب هنا عن “الجسد والروح”، وكما هو واضح كان يتحدَّث عن نفسه. وميَّز بين الجسد والروح لكي يتمكَّن الذين سمعوه من الإيمان بما يرون أي بجسده، وكذلك الإيمان بغير المنظور، أي الروح أو لاهوته، لكي يؤمنوا أن ما يتكلَّم عنه ليس الجسديات بل الروحيات.

ولنسأل كم عدد البشر الذين يمكن أن يقدِّم لهم جسده المادي؟ وماذا عنه كغذاء للعالم كله؟ لهذا السبب تحدَّث عن صعود ابن الإنسان إلى السماء لكي يبعد عن أفكارهم كل التصورات المادية عن جسده، ولكي يفهموا جيداً بدون أي تصورات مادية أن جسده الذي يتكلَّم عنه هو طعام سمائي يأتي من فوق كغذاء روحي يعطيه هو بنفسه. وحقًّا قال: «الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة» (يو 63:6)، أي أن ما أعلنه، وما سيعطيه لخلاص العالم هو جسده، ولكن هذا الجسد عينه بما فيه من دم سوف يُعطى لكم بواسطتي روحياً، وكطعام، وبطريقة روحية سوف يوزَّع على كل واحد منكم لكي يصبح عربون القيامة والحياة الأبدية.

واستعمال كلمة “روح” جاء بنفس المعنى في حديث الرب مع السامرية عندما وجَّه فكرها إلى المعنى الروحي ورفع نظرها إلى الأمور غير المادية بقوله لها: «الله روح» (يو 24:4)، لكي يستقر في قلبها الفهم الصحيح عن الله، أنه ليس من طبيعة مادية محصورة في مكان بل إنه روح. وهذا ما يعنيه كلام التعليم الذي يقول عندما يتأمَّل الكلمة وقد تجسَّد: “روح الإيمان هو المسيح الرب”، وحتى لا يعثر أحد ما بالشكل الخارجي الملموس ويظن أن الرب هو مجرَّد إنسان، جاءت كلمة: “الروح” لتؤكِّد أن الذي في الجسد هو الله.

وهكذا يبدو لنا شيئان ظاهران تماماً: الأول هو حالة مَنْ يرى الرب في الجسد ويعتبره مجرَّد إنسان ويقول بعدم إيمان: “من أين لهذا هذه الحكمة والقوات؟” (مت 54:13)، وكل مَنْ يتكلَّم بهذا يخطئ بدون شك ويجدِّف على ابن الإنسان؛ والثاني يرى أعماله التي تتم بالروح القدس ويقول إن صانع هذه الأعمال ليس الله ولا ابن الله وينسب هذه الأعمال لبعلزبول، مثل هذا ينكر لاهوته، وهذا ما يظهر واضحاً عدة مرَّات في الإنجيل لا سيما في النص الذي نشرحه.

ومرَّة أخرى، نكرِّر، عندما يوصف الرب بأنه «ابن الإنسان» فهو نفسه يستخدم هذا اللقب لتأكيد بشريته، ولكن عندما يتحدَّث عن الروح أي الروح القدس الذي به يصنع كل هذه الأعمال والذي هو (الروح) أيضاً فيه، يقول بعد إتمامه أعماله الباهرة: «إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ولكن إن كنت أعمال، فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيَّ وأنه فيه» (يو 38:10) ...]([3]) (انتهى)


وملخَّص عقيدة القديس أثناسيوس في هذا الموضوع كالآتي:

1 - إن الموضوع لا يختص إطلاقاً بامتياز أقنوم عن آخر في الثالوث، فالتجديف على الروح القدس هو تجديف على الآب والابن أيضاً.

2 - والتجديف لا يختص بالمعمودية ونوال الروح القدس فيها، لأنها تتم باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد. فكل مَنْ يُخطئ ويجدِّف بعد المعمودية فهو يخطئ ويجدِّف على الله الثالوث الآب والابن والروح القدس. لذلك فالرب لم يكن يقصد بالتجديف الخطية بعد المعمودية.

3 - إن الخطية بل كل الخطايا بعد المعمودية تُغفر جميعها بالتوبة، ولا توجد خطية قط يمكن أن يُقال إنه من المستحيل غفرانها.

4 - المعمودية هي التي لا يمكن بل ويستحيل أيضاً أن تتكرَّر، وهي التي تسمَّى بالتجديد أو الميلاد الثاني فهي معمودية واحدة.

5 - كذلك هناك فرق بين الخطايا كتعدِّي على الوصايا وبين التجديف على الله نفسه.

6 - إن الالتباس الظاهر في فهم عب 4:6-6 راجع إلى أن بولس الرسول يخاطب اليهود (العبرانيين) الذين اعتادوا أن يتخلَّصوا من خطاياهم بالتطهير بالماء كل يوم، وكلما أرادوا (حتى الزنا كان في عرفهم يمكن التخلُّص منه بالاستحمام بالماء)، فنبَّههم أن المعمودية في المسيحية ليست تطهيراً بالماء، ولكنها موت عن الإنسان العتيق وخطاياه وولادة روحية من فوق بإنسان جديد، ولا تتم إلاَّ مرَّة واحدة فقط بنعمة الروح القدس.

7 - العنصر الجوهري في عدم غفران خطية التجديف على الروح القدس هو المتعلِّق بالذين ينسبون أعمال اللاهوت التي كان يعملها المسيح إلى أنها أعمال الشيطان.

8 - وعلى نفس المستوى، فالذين يعتبرون المسيح أنه مجرَّد إنسان كان يعمل المعجزات بقوة الشيطان فهذا هو التجديف على روح الله أي الروح القدس، لأن المسيح كان يعمل كل الأعمال بروح الله.

9 - وعلى نفس المستوى كل مَنْ يجدِّف على لاهوت المسيح معتبراً أن المسيح مجرَّد إنسان، وأن أعماله كانت مجرَّد أعمال شيطانية (سحرية كما يقول اليهود الآن) وليست أعمالاً إلهية، فهذه تعتبر خطية تجديف غير قابلة للمغفرة.

10 - وهنا يقرِّر أثناسيوس أنه لا فرق بين التجديف على الروح القدس والتجديف الموجَّه ضد لاهوت المسيح.



([2]) ثيئوغنسطس كاتب كنسي ولاهوتي مشهور، كان مديراً لمدرسة الإسكندرية خلفاً لديونيسيوس وقبل بيريوس (وليس بعده). وكتب منهجاً لاهوتياً متكاملاً قائماً على أساس أفكار أوريجانوس وذلك في سبعة كتب، وأسماه هيبوتيبوزيس = طpotupèseij. وقد تبقَّى وصف وتحقيق عنه بقلم فوتيوس (Cod. 106)، كما لا يزال يوجد مقتطفات كثيرة منه في كتاب القديس أثناسيوس إلى سيرابيون، وعلى الدفاع عن قانون نيقية (25). كما استعان به القديس غريغوريوس النيسي في مؤلَّفه Contra Euno. III; وبالرغم من سقوطه في مفهوم تدنِّي الابن عن الآب بحسب فكر أوريجانوس فقد استخدم القديس أثناسيوس كثيراً من أفكاره ضد الأريوسيين.

([3]) من كتاب: “الروح القدس في بعض كتابات الآباء” تعريب: الدكتور جورج حبيب بباوي صفحة 28-42.