السبت، 26 أغسطس 2023

شرح الآية: الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ

 



"وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ." (1 كو 15: 28).

في المجتمع اليوناني القديم، ذاك الذي تنتمي إليه كنيسة كورنثوس، قام زيوس بالتمرد على أبيه كرونوس ليستولي لنفسه على الحكم والعبادة. لكن على العكس، فإن الابن يخضع للآب في طاعة،[1] والخضوع هُنا ليس خضوع العبد لسيده، بل خضوع المساوين في الطبيعة، فهو يخضع للآب الذي هو واحد معه في الطبيعة.

فخضوعنا للابن هو خضوع أتباع للسيد والمُخلِّص، الذي "بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ" (أع 17: 28). لكن خضوع الابن للآب هو خضوع اتحاد بين متساوين.[2] وهذا ليس عجيبة أن يخضع المتساوين لبعضهم، فمثلًا يقول الكتاب: “أَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ خَاضِعَةٌ لِلأَنْبِيَاءِ” (1 كو 14: 32)، وأولاد (فلان) مثلا يخضعون لأبيهم تماماً مثلما تستطيع أن تقول إن إسحق قد خضع لإبراهيم ومَنْ وَلَده اسحق كان خاضعاً لأبيه الذي وَلَده. لكن لا أرواح الأنبياء كانت لها طبائع مختلفة بسبب الخضوع، ولا الطوباوي اسحق كانت طبيعته مختلفة ومن جنس آخر لأنه كان خاضعاً لأبيه بسبب توقيره له، مُظهِراً طاعة لَمنْ وَلَده وإكراماً لبنوَّته له.[3]

وفي الفكر العبراني عن المسيا أن ملكوته لن يزول، فهو أبدي لن ينقرض: "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ." (إش 9: 6)؛ "فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ." (دا 7: 14). فكون الله (الثالوث)، الكل في الكل هُنا، لا يعني إنصهارنا فيه أو إنقضاؤنا فيه، بل يعني أن يكون كل شيء عائد إليه وفيه وهو السائد على الكل، والكل في طاعة يخضع له في حياة أبدية لا متناهية. فحتى خضوع وطاعة الابن المذكورة هُنا لا تعني بأي حال أن ملكوته انتهى بل أننا نحن عمل يديه خضعنا له وهو سلم عمل يديه لله، ليصير الله (الثالوث) هو الكل في الكل.[4]

كما أن هذا الخضوع سيتم في المستقبل بحسب النص، حينئذ سيخضع، بمعنى أنه غير خاضع الآن! فهل نوافق على أن المسيح غير خاضع الآن لله ولكنه سيخضع في المستقبل؟!

المسيح الآن أيضًا خاضعٌ للآب، لكن ليس في الكل، لكن فقط في هؤلاء الذين يؤمنون به (أنظر كو 1: 22)، ولأجل هؤلاء قَدَمَ ذاته ذبيحةً للآب كحملٍ بلا عيب، محتقراً الصليب والعار. هكذا، ولأنه حررَّهم مِن كل خطية، قادهم أطهاراً وبلا دنس إلى الخالق.

في ذاك الوقت أيضاً، سيكون الآب بواسطة الابن الكل في الكل، حياةً وعدمَ موتٍ وفرحاً وقداسةً وقوةً، وكل ما أُعطي كوعدٍ للقديسين. وعليك أن تلاحظ عمق التدبير الذي يحمله الشاهد الكتابي؛ لأنه قال: إن الكل سيخضع بواسطة الابن للآب، حتى لا تظن أن الآب سوف يُبعَد عن أن يكون ربَ الكلِ، لأن الابن سيكون سيدًا على الكل، على أنه غير خاضع للآب بالضرورة. لأن الآب له قوة السيادة على الكل بمشاركة الابن بطريقة طبيعية في هذا الأمر؛ لأن ألوهية الثالوث الواحدة لها السيادة والملك، الآب بواسطة الابن مع الروح القدس.[5]

يوضح القديس غريغوريوس النيصي هذه الحقيقة، قائلاً:

"بعدما أتحدت طبيعتنا الإنسانية بالطبيعة الإلهية غير المائتة، في شخصه المبارك يتحقق فينا مقولة "خضوع الابن" طالما أن الخضوع الذي يتحقق بالجسد تم في الابن الذي وضع فينا نعمة الخضوع".[6]

صار كلمة اللَّه المتجسد الذي هو واحد مع أبيه ومساوٍ له في ذات الجوهر إنسانًا، لكي يكون وسيطًا بين اللَّه والناس. الآن، في نهاية الزمان بعد القيامة والمجيء الثاني، إذ انتهى دور الوساطة فلا يعود يشفع عن أناسٍ جدد كإنسانٍ يخضع للآب، فهو رأس الكنيسة. خضوع الابن هنا ليس كخضوع الخليقة، إنما خضوع ذاك الذي هو واحد معه ومساوٍ له في ذات الجوهر كما قلنا. فالابن الذي قام بدور الوسيط وقدم نفسه ذبيحة حب عن البشرية وصار رأسًا للكنيسة يعلن خضوعه للآب كتكريمٍ متبادل فيما بينهما. فالابن يكرم الآب، كما أن الآب يكرم الابن. والكل يكرمون الابن كما يكرمون الآب (يو 5: 22- 23 ؛ عب 1: 6). فلم يفقد الابن شيئًا عندما يمنح الكل، كما أنه لم يفقد شيئًا عندما يتسلم الآب المُلك، ولا الآب يفقد شيئًا عندما يعطي ما له للابن.[7]

 



[1] إيكومينوس (القديس)، مقاطع على الرسالة الأولى لكورنثوس، PG, 82: 385.

[2] أمبروسياستر، التفسير المسيحي القديم، رسالتا كورنثوس، ص 260.

[3] كيرلس السكندري (القديس)، حوار حول الثالوث، ترجمة د/ جوزيف موريس فلتس، الجزء الرابع، الحوار الخامس، ص 87.

[4] Craig S. Keener and InterVarsity Press, The IVP Bible Background Commentary: New Testament (Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 1993). 1 Co 15:27.

[5] كيرلس السكندري (القديس)، الكنوز في الثالوث القدوس، ترجمة د/ جورج عوض إبراهيم، المقالة 29.

[6] غريغوريوس النيصي (القديس)، خضوع الابن للآب، ترجمة د. سعيد حكيم يعقوب، (المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية: يونيو 2005)، ص 19.

[7]ST., Ambrose, The Holy Spirit 1:3:49.

شرح الآية: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟




 (لوقا 18: 19؛ مت19: 17) "فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ".[1]

كان لفظ "الصالح" في المفهوم اليهودي يُقال حصرًا لله، فالله، بحسب ما كتب فيلو أحد أشهر المفسرين اليهود، وحده هو الصالح![2] فصلاح البشر أمر مستمد من صلاح الله، فالصلاح لا نجده في طبيعتنا البشرية، في في تعاليمه ووصاياه وانعكاس طبيعته فينا![3]

كما لا ينفي المسيح هُنا الصلاح عن نفسه، بل يسأله سؤالًا عاديًّا، لإن الصالح واحد وهو الله، فكيف وهو يراه مجرد إنسان نبي أن يدعوه صالحًا؟[4] فالمسيح لم يقل أنا لست صالحًا! بل قال: لماذا وأن تراني في جسد بشري ولا تعرف سوى أني إنسان نبي، تدعوني صالحًا؟! ولو أراد أن ينفي عن نفسه الصلاح لقال ذلك مباشرة، لقال له: أنا لست صالحًا! لكنه قال: ليس أحد من البشر صالح، الله وحده هو الصالح ومصدر كل صلاح![5]

وفي إجابة يسوع عليه بهذا الشكل تأكيدًا على المشكلة التي عند هذا الشاب، وهي الاعتماد على حفظ الوصايا والعمل بها، الاعتماد على ذاته، بدلًا من أن يترك الصالح ليعمل به وفيه ويشع الصلاح من خلاله.

 



[1] قامت الترجمة اليسوعية، وهي أقرب النصوص العربية للنص المنقح والمحقق، بترجمتها كالتالي: "لماذا تسألني عن الصالح؟ إنما الصالح واحد".

[2] Craig S. Keener and InterVarsity Press, The IVP Bible Background Commentary: New Testament (Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 1993). Mt 19:17.

[3] فرانس ر. ت. التفسير الحديث للكتاب المقدس، إنجيل متى (دار الثقافة، 1990)، ص 315.

[4] Craig S. Keener and InterVarsity Press, The IVP Bible Background Commentary: New Testament (Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 1993). Lk 18:19.

[5] يوحنا ذهبي الفم، عظات على إنجيل متى، 63: 1.

شرح الآية: أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً

 


(يوحنا 5: 30) : "أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي".

في هذا الأصحاح بالكامل نجد الابن يعلن في أكثر من موضع مساواته الكاملة للآب:

سواء في العمل: "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ" (يو5: 17).

أو في الطبيعة: "قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللهِ" (يو5: 18).

أو في المشيئة: " لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الابْنُ أَيْضًا يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ" (يو5: 21).

أو من جهة السلطة "أَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ" (يو5: 22).

أو من جهة الكرامة والعبادة: "لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ" (يو5: 23).

أو من جهة الوجود الذاتي والحياة الذاتية: "لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ" (يو5: 26).

وفي هذا النص أيضًا (يو5: 30)، يكمل المسيح ما قاله في النصوص السابقة له، فهو يوضح أنه الوكيل لأعمال الله، وهو ابن الإنسان، وهو في حال تجسده، لازال وكيلًا لأعمال الله، وفي المفهوم اليهودي فإن وكيل الشخص هو الشخص نفسه، وليس مختلفًا عنه، لإنه يملك كلّ سلطاته واختصاصاته.[1]

فلإن الابن هو من ذات الله، ومن نفس جوهر الآب، فإنه يملك بطبيعته كلّ ما للآب الذي هو منه، وفي الأساس يرتفع إلى إلوهية واحدة معه بسبب وحدانية الطبيعة، لإنه في الآب وكذلك الآب فيه، لذا، عندما ينسب بحق وجزم قوة أعماله إلى الآب، فإنّه يفعل ذلك دون أن يستثني ذاته منها، بل ينسب كل شيء للإلوهة الواحدة. [2]

وكما ترى أخي الحبيب من النصوص التي ذكرناها هُنا، والتي أريد أن تعود لتقرأها بهدوء وعمق؛ فإنّ مشيئة الابن هي ذاتها مشيئة الآب، فما يريده الابن يريده الآب كذلك، ولا أحد يقدر أن يقاوم دينونة المسيح العادلة، بحسب قوله، لإنها صادرة عن عقل واحد، عقل الله (الثالوث).[3] لإن للثالوث مشيئة واحدة وجلالة واحدة وقوة واحدة.[4]

فهذا، ليس تحديدًا لسلطان الابن، ولا لقدرته، ولا لطبيعته، ولكن هو حسم لقضية الثنائية، فالله واحد، وهو واحد من جهة ثالوثه، واحد في المشيئة والإرادة والعمل والقوة والقدرة والسلطان، وكأن له عقل واحد وفم واحد وأذن واحدة.. والمسيح يستطيع كل شيء، إلَّا شيئًا واحدًا، لا يستطيعه، هو أن يكون غير الله إرادة وعملًا! يستحيل أن يعمل عملًا خارجًا عن إرادة الله وعمله، كيف هذا وهو الله بملئه حالٌ فيه في الجسد![5]

والجدير بالذكر هُنا أن الابن يستطيع، في أيام تجسُّدِه، أن يرى الآب ويُميِّز ما يُريده الآب، وما هي مشيئته، وهذا على عكس المدارس الخاصة بيسوع التاريخ المعاصرة، التي يرى بعض دارسيها أن الابن لم يكن يعلم ماهيته، إن كان ابن الله أم لا، وذلك في أيام تجسده لإنه أخلى نفسه.. وهذا مفهوم خاطيء بناء على كل ما تقدم.[6]

 



[1] Craig S. Keener and InterVarsity Press, The IVP Bible Background Commentary: New Testament (Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 1993). Jn 5:30.

[2] كيرلس الإسكندري (القديس)، تفسير إنجيل يوحنا 2: 9.

[3] يوحنا ذهبي الفم (القديس)، مواعظ على إنجيل يوحنا، 39: 4.

[4] أغسطينوس (القديس)، مواعظ على إنجيل يوحنا، 22: 15.

[5] متى المسكين (الأب)، شرح إنجيل القديس يوحنا، الجزء الأوَّل (دير أنبا مقار: 1990)، ص 348.

[6] Crossway Bibles, The ESV Study Bible (Wheaton, IL: Crossway Bibles, 2008). 2031.