"وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ." (1 كو 15: 28).
في المجتمع اليوناني
القديم، ذاك الذي تنتمي إليه كنيسة كورنثوس، قام زيوس بالتمرد على أبيه كرونوس
ليستولي لنفسه على الحكم والعبادة. لكن على العكس، فإن الابن يخضع للآب في طاعة،[1]
والخضوع هُنا ليس خضوع العبد لسيده، بل خضوع المساوين في الطبيعة، فهو يخضع للآب
الذي هو واحد معه في الطبيعة.
فخضوعنا للابن هو خضوع
أتباع للسيد والمُخلِّص، الذي "بِهِ نَحْيَا
وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ" (أع 17: 28). لكن خضوع الابن للآب هو خضوع اتحاد
بين متساوين.[2]
وهذا ليس عجيبة أن يخضع المتساوين لبعضهم، فمثلًا يقول الكتاب: “أَرْوَاحُ
الأَنْبِيَاءِ خَاضِعَةٌ لِلأَنْبِيَاءِ” (1 كو 14: 32)، وأولاد (فلان)
مثلا يخضعون لأبيهم تماماً مثلما تستطيع أن تقول إن إسحق قد خضع لإبراهيم ومَنْ
وَلَده اسحق كان خاضعاً لأبيه الذي وَلَده. لكن لا أرواح الأنبياء كانت لها طبائع
مختلفة بسبب الخضوع، ولا الطوباوي اسحق كانت طبيعته مختلفة ومن جنس آخر لأنه كان
خاضعاً لأبيه بسبب توقيره له، مُظهِراً طاعة لَمنْ وَلَده وإكراماً لبنوَّته له.[3]
وفي الفكر العبراني عن
المسيا أن ملكوته لن يزول، فهو أبدي لن ينقرض: "لأَنَّهُ
يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ،
وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا،
رَئِيسَ السَّلاَمِ." (إش 9: 6)؛ "فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا
وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ.
سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ
يَنْقَرِضُ." (دا 7: 14). فكون الله (الثالوث)، الكل في الكل هُنا، لا يعني
إنصهارنا فيه أو إنقضاؤنا فيه، بل يعني أن يكون كل شيء عائد إليه وفيه وهو السائد
على الكل، والكل في طاعة يخضع له في حياة أبدية لا متناهية. فحتى خضوع وطاعة الابن
المذكورة هُنا لا تعني بأي حال أن ملكوته انتهى بل أننا نحن عمل يديه خضعنا له وهو
سلم عمل يديه لله، ليصير الله (الثالوث) هو الكل في الكل.[4]
كما أن هذا الخضوع سيتم
في المستقبل بحسب النص، حينئذ سيخضع، بمعنى أنه غير خاضع الآن! فهل نوافق على أن
المسيح غير خاضع الآن لله ولكنه سيخضع في المستقبل؟!
المسيح
الآن أيضًا خاضعٌ للآب، لكن ليس في الكل، لكن فقط في هؤلاء الذين يؤمنون به (أنظر
كو 1: 22)، ولأجل هؤلاء قَدَمَ ذاته ذبيحةً للآب كحملٍ بلا عيب، محتقراً الصليب
والعار. هكذا، ولأنه حررَّهم مِن كل خطية، قادهم أطهاراً وبلا دنس إلى الخالق.
في ذاك الوقت أيضاً، سيكون الآب بواسطة الابن الكل في
الكل، حياةً وعدمَ موتٍ وفرحاً وقداسةً وقوةً، وكل ما أُعطي كوعدٍ للقديسين. وعليك أن تلاحظ عمق
التدبير الذي يحمله الشاهد الكتابي؛ لأنه قال: إن الكل سيخضع بواسطة الابن للآب،
حتى لا تظن أن الآب سوف يُبعَد عن أن يكون ربَ الكلِ، لأن الابن سيكون سيدًا على
الكل، على أنه غير خاضع للآب بالضرورة. لأن الآب له قوة السيادة على الكل بمشاركة
الابن بطريقة طبيعية في هذا الأمر؛ لأن ألوهية الثالوث الواحدة لها السيادة
والملك، الآب بواسطة الابن مع الروح القدس.[5]
يوضح القديس غريغوريوس النيصي هذه الحقيقة، قائلاً:
"بعدما أتحدت
طبيعتنا الإنسانية بالطبيعة الإلهية غير المائتة، في شخصه المبارك يتحقق فينا
مقولة "خضوع الابن" طالما أن الخضوع الذي يتحقق بالجسد تم في الابن الذي
وضع فينا نعمة الخضوع".[6]
صار كلمة اللَّه المتجسد الذي هو واحد مع أبيه ومساوٍ له
في ذات الجوهر إنسانًا، لكي يكون وسيطًا بين اللَّه والناس. الآن، في نهاية الزمان
بعد القيامة والمجيء الثاني، إذ انتهى دور الوساطة فلا يعود يشفع عن أناسٍ جدد
كإنسانٍ يخضع للآب، فهو رأس الكنيسة. خضوع الابن هنا ليس كخضوع الخليقة، إنما خضوع
ذاك الذي هو واحد معه ومساوٍ له في ذات الجوهر كما قلنا. فالابن الذي قام بدور
الوسيط وقدم نفسه ذبيحة حب عن البشرية وصار رأسًا للكنيسة يعلن خضوعه للآب كتكريمٍ
متبادل فيما بينهما. فالابن يكرم الآب، كما أن الآب يكرم الابن. والكل يكرمون
الابن كما يكرمون الآب (يو 5: 22- 23 ؛ عب 1: 6). فلم يفقد الابن
شيئًا عندما يمنح الكل، كما أنه لم يفقد شيئًا عندما يتسلم الآب المُلك، ولا الآب
يفقد شيئًا عندما يعطي ما له للابن.[7]
[1] إيكومينوس
(القديس)، مقاطع على الرسالة الأولى لكورنثوس، PG,
82: 385.
[2] أمبروسياستر،
التفسير المسيحي القديم، رسالتا كورنثوس، ص 260.
[3] كيرلس
السكندري (القديس)، حوار حول الثالوث، ترجمة د/ جوزيف موريس فلتس، الجزء الرابع،
الحوار الخامس، ص 87.
[4] Craig S. Keener
and InterVarsity Press, The IVP Bible Background Commentary: New Testament
(Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 1993). 1 Co 15:27.
[5] كيرلس
السكندري (القديس)، الكنوز في الثالوث القدوس، ترجمة د/ جورج عوض إبراهيم، المقالة
29.
[6] غريغوريوس
النيصي (القديس)، خضوع الابن للآب، ترجمة د. سعيد حكيم يعقوب، (المركز الأرثوذكسي
للدراسات الآبائية: يونيو 2005)، ص 19.
[7]ST.,
Ambrose, The Holy Spirit
1:3:49.