السبت، 26 أغسطس 2023

تجسد الله في المسيح..



التجسد:
التجسد فعل محبة الله للبشر. ويدّعي العديد من المؤلفين الشرقيين بأنه حتى ولو لم يكن الإنسان قد تعرّض للسقوط، فإن الله في محبته للبشر، كان سيصير إنساناً. ويقولون أيضاً إنه يقتضي فهم التجسد على أنه جزء من قصد الله الأبدي وليس مجرّد ردّ على السقوط. تلك كانت وجهة نظر مكسيموس المعترف واسحق السرياني، وكذلك كانت آراء بعض اللاهوتيين الغربيين ولاسيّما دنيس سكوت (1265 - 1308).

لكن، بسقوط الإنسان، لم يعد التجسد مجرّد فعل محبة، بل فعل خلاص. ويسوع المسيح، إذ وحَّد في شخصه الله والإنسان، فتح أمام الإنسان من جديد طريق الوحدة مع الله. وقد برهن المسيح بشخصه عمّن هو (المثال) الحقيقي لله. كما وضع هذا (المثال) في متناول الإنسان من طريق موته المنقذ والظافر. والمسيح، آدم الثاني، جاء إلى الأرض وقلب نتائج عصيان آدم الأول رأساً على عقب.

وردت العناصر الأساسية الخاصة بالعقيدة الأرثوذكسية حول المسيح في الفصل الثاني من هذا الكتاب {وهو الفصل الثاني من كتاب (الكنيسة الأرثوذكسية في الماضي والحاضر)، للمؤلف، منشورات النور (الناشر)} وهي تتمحور حول التأكيدات التالية: (إله كامل وإنسان كامل)، (أقنوم واحد في طبيعتين بلا انفصال ولا التباس)، (شخص واحد بإرادتين وفعلين).

إله كامل وإنسان كامل:
كما قال ثيوفانس المعتزل: (وراء حجاب جسد المسيح، يبصر المسيحيون الله الثالوث). تشير هذه الكلمات بوضوح إلى ما يمكن اعتباره أكثر معالم التعليم الأرثوذكسي حول المسيح بروزاً، ألا وهو الشعور الحاسم بمجده الإلهي. وقد تجلى هذا المجد الإلهي بنوع خاص خلال فترتين من حياة المسيح: في التجلي على قمة ثابور حينما شعّ نور ألوهيته غير المخلوق عبر غلاف جسده، وفي القيامة حين فُتح القبر تحت ضغط الحياة الإلهية وبُعث المسيح الغالب حياً من بين الأموات. ولهذين الحدثين مكان أساسي في الروحانية والعبادة الأرثوذكسيتين. وعيد التجلي واحد من الأعياد السيدية الاثني عشر الكبرى في التقويم البيزنطي، ويحتل مكانة أكثر أهمية في السنة الطقسية الشرقية مما يحتله في الغرب. وقد سبق أن لاحظنا أهمية النور غير المخلوق في العقيدة الأرثوذكسية حول الصلاة الصوفية {راجع المرجع نفسه (الناشر)}. أما بالنسبة للقيامة فيمكن القول إن حياة الكنيسة الأرثوذكسية كلها مفعمة بروحها.

لكم من الخطأ ألا نرى في الأرثوذكسية سوى تكريم مجد المسيح الإلهي، فضلاً عن تعييد لتجلّيه وقيامته. وعلى الرغم من عظمة تكريمها لمجد المسيح، فإن الأرثوذكسية لا تغفل إنسانيته مطلقاً. والدليل على ذلك يكمن في المحبة التي يكنها الأرثوذكسيون للأراضي المقدسة، إذ ما من شيء يسمو فوق الإجلال العميق الذي يكنّه الفلاّحون الروس للأماكن التي عاش فيها المسيح كإنسان، حيث أكل وعلَّم وتألم ومات كإنسان. كذلك فإن فرح القيامة لا يجعل الأرثوذكسية تخفف من أهمية الصليب. فالصلب في الكنائس الشرقية، لا يقلّ تمثيلاً بالرموز عمّا هو عليه في الكنائس الأخرى، كما أن تكريم الصليب أشدّ بروزاً في الطقس البيزنطي منه في الطقس اللاتيني.

ينبغي إذاً رفض الزعم السائد عموماً والقائل بأن المسيحية الشرقية تشدد على المسيح القائم من بين الأموات، بينما تشدد المسيحية الغربية على المسيح المصلوب. إذا كان لا بدّ من مقارنة بين الشرق والغرب في هذا المجال، فالأجدى القول بأن نظرتهما إلى الصلب مختلفة بعض الشيء وإن كانتا تنطلقان من جوهر واحد. فالوقف الأرثوذكسي حول الصلب يُعبَّر عنه بكل بلاغته في الترانيم التي تُرتَل يوم الجمعة العظيمة، ومنها:

(المرتدي النور كالسربال

يمثل عارياً أمام القضاء.

يلطم على خدّيه

بأيد صنعها بنفسه.

جماعة مخالفي الناموس سَمَّرت على الصليب

ملك المجد).

في يوم الجمعة العظيمة، لا تفكر الكنيسة الأرثوذكسية فقط بآلام المسيح الجسدية، بل تقابل بين التواضع الظاهر والمجد الحقيقي. إن الأرثوذكسية لا تبصر إنسانية المسيح المتألمة فقط، بل إنها ترى دوماً الإله المتألم:

(اليوم عُلِّق على خشبة

الذي عَلَّق الأرض على المياه.

إكليل من شوكٍ وُضِع على هامة ملك الملائكة.

برفيراً كاذباً تسربل

الذي وشح السماء بالغيوم...).

ووراء حجاب جسد المسيح الجريح والممزق، تُميِّز الأرثوذكسية على الدوام الإله الثالوث، وبالنسبة إليها حتى الجلجلة هي بمثابة ظهور إلهي. لذلك في يوم الجمعة العظيمة بالذات تترنم الكنيسة بفرح القيامة:

(... نسجد لآلامك أيها المسيح

فأرنا قيامتك المجيدة ! ...).

وأيضاً:

(أمجد آلامك

وأُسبح دفنك وقيامتك

هاتفاً: ربي المجد لك !).

وليس بالإمكان فصل الصلب عن القيامة، فهما يظهران في عمل واحد، ويُنظر إلى الجلجلة دائماً في ضوء نور القبر الفارغ. فالصليب هو علامة الغلبة. وحين يفكر الأرثوذكسي بالمسيح المصلوب، فلا يخطر في باله آلامه وحزنه وحسب، بل يشاهد المسيح المنتصر، المسيح الملك الظافر من على خشبة الصليب.

والمسيح ملكنا الظافر، ليس ظفره برغم الصلب وإنما بفضله: (ادعوه ملكاً، لأنني أراه مصلوباً) {يوحنا الذهبي الفم، العظة الثانية حول الصليب واللص،3}.

تلك هي الروح التي ينظر بها المسيحيون الأرثوذكسيون إلى موت المسيح على الصليب. فبينهم وبين مسيحي الغرب، في القرون الوسطى والقرون التي عقبتها، تشابه كبير بالطبع. إلا أن في الآراء الغربية بعض الأمور التي تزعج الأرثوذكسيين، إذ يبدو لهم أن الغرب ميال للتركيز على الصلب تركيزاً مفرطاً، بحيث يعزلونه عن القيامة بطريقة حادة وهكذا تحل رؤية إنسانية المسيح المعذبة محلّ رؤية الإله المتألم، وبالتالي يُدفع معظم الأحيان المؤمن الغربي، عند تأمله الصليب وإلى شعور مفرط من الحسرة على رجل الآلام، عوض أن يُدفع إلى عبادة الملك الظافر والمنتصر.

فحينما تتطلع الأرثوذكسية إلى المسيح الظافر قبل كل شيء، يتطلع غرب العصر الوسيط والعصر الذي عقبه إلى المسيح الضحية أولاً. وبينما تفسر الأرثوذكسية فعل الصلب على أنه بالدرجة الأولى انتصار ظافر على قوة الشر، يميل الغرب، وبنوع خاص مذ عهد انسلموس رئيس أساقفة كانتربري (حوالي 1033 – 1109)، إلى التفكير في أمر الصليب بتعابير قانونية وجزائية، أو باعتبار عملية الصلب عملاً استعطافياً للإرضاء أو الإبدال، من أجل تهدئة غضب الآب الحانق.

ولكن لا ينبغي لنا أن نذهب بعيداً في مجال هذه التناقضات، ذاك أن العديد من اللاهوتيين الشرقيين طبّقوا، على غرار الغربيين، اللغة القانونية والجزائية عندما تكلموا عن الصلب. كذلك فإن اللاهوتيين الغربيين، شأن الشرقيين أيضاً، لم ينفكّوا عن اعتبار الجمعة العظيمة يوم انتصار للمسيح. ويلاحظ في الغرب خلال السنوات الأخيرة إحياء الفكرة الآبائية للمسيح الغالب (Christus Victor) في اللاهوت والروحانية والفن. إنه تجديد يسجّله الأرثوذكسيون باغتباط.



الكنيسة الأرثوذكسية إيمان وعبادة، كاليستوس وير

 

تسمية المسيح “بالابن” عند الآباء

  

 

واضح لكل مَنْ يدرس الإنجيل أن تسمية المسيح بابن الله تغطِّي الإنجيل كله، ليس من واقع تجسُّده وتأنسه وظهوره كإنسان، ولكن من جهة وجوده السابق على تجسُّده وبنوع أعمق.

وأول ما يثيره لقب “ابن الله” بالنسبة للمسيح في إحساسنا هو تَفرُّده من جهة عدم التشابه بينه وبين بقية كل البشر، بل ويثير فينا الإحساس بالانفصال والتميُّز الفائق عن كل كائن آخر في السماء وفي الأرض ما خلا الله أبيه!

فهذا اللقب “ابن الله” يحدِّد في الحال تفرُّده المطلق عن كل خليقة وكل كيان آخر غير الله، كما يشير بقوة إلى نوع الطبيعة الإلهية التي له، في تفرُّدها، غير المنطوق بها ولا مقترب إليها، غير المخلوقة وغير الزائلة.

وإمعاناً في تخصُّص لقب “الابن” لله، أعطت الأسفار المقدَّسة([1]) صفة أخرى مزادة بالوحي الإلهي للأهمية الفائقة وللتأكيد والتخصيص والشرح العميق لمدى تفرُّد صفة الابن لله واختلافها اختلافاً جذرياً عن استخداماتها الأخرى بالنسبة للمخلوقات عامة، وهي صفة “وحيد الجنس ، التي تفيد “البنوَّة الوحيدة” أو “الابن الوحيد التخصص” وهي تشير مباشرة إلى طبيعته الإلهية، وهكذا تعطي صفة المونوجانيس للقب الابن التخصُّص والتفرُّد المطلق (only-begotten)، لتبعد مفهوم البنوَّة في الله عن كل مفهوم آخر لكلمة البنوَّة العامة في كافة الخليقة.

كذلك وبسبب ذكر صفة “الابن” للمسيح في مواقف كثيرة في الأسفار:

+ «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.» (مت 17:3)

+ «تعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.» (رو 4:1)

+ «أنت ابني أنا اليوم ولدتُكَ.» (عب 5:5، أع 33:13، مز 7:2)

لذلك جاءت صفة “وحيد الجنس” لترفع مفهوم لقب “ابن الله” فوق هذه الحوادث كلها وهذه المواقف الزمانية كلها بكل عظمتها وثقلها الروحي ومنفعتها.

فالمسيح ليس “ابناً لله” لأنه وُلد من العذراء ومن الروح القدس، ولا لأنه قام من الأموات بقوة الله، ولا لأنه فدى كل الجنس البشري، ولا لأي سبب أو علة أخرى؛ بل هو “ابن الله” لأنه “ابن الله” في بنوَّة فريدة من نوعها إلهية فائقة وذات طبيعة إلهية فائقة. كما جاءت صفة “المونوجانيس” لتفيد أن كل ما للآب هو للابن بسبب تخصُّص علاقة الابن بالآب تخصُّصاً جوهريا يفيد التساوي الجوهري بين الآب والابن، وهكذا ينتهي هذا التساوي بحتمية وحدة التكريم والعبادة أي لكي يُعبَد الابن والآب معاً بغير افتراق ولا تفضيل.

والإنجيل يؤكِّد لنا هذا في معرض شرح مدلول لقب ابن الله عملياً، ويستطرد من هذا ليكشف لنا الأعماق السرية القائمة بين الآب والابن ويخرج من هذا ليؤكِّد ألوهة الابن ومساواته للآب في الكرامة وبالتالي العبادة هكذا:

+ «فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضاً إن الله أبوه، معادلاً نفسه بالله. فأجاب يسوع وقال لهم: الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلاَّ ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك. لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله، وسيريه أعمالاً أعظم من هذه لتتعجَّبوا أنتم، لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي مَنْ يشاء. لأن الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن، لكي يُكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. مَنْ لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله.

الحق الحق أقول لكم: إن مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون. لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن الإنسان.» (يو 5: 18-27)

هذه الآيات القوية الواضحة المتلاحقة في إنجيل القديس يوحنا كانت هي حجر الأساس الذي بنت عليه الكنيسة الأُولى، وبالأخص كنيسة الإسكندرية، كل مفهومها اللاهوتي من جهة علاقة الآب بالابن في وحدة الكرامة والمجد والعبادة. وليعلم القارئ أن كنيسة الإسكندرية كان محور لاهوتها وأساسه إنجيل يوحنا، فنشأت كنيسة البتولية والنسك والحب والأسرار والهيام المطلق بعبادة الآب والابن والروح القدس على مستوى التسبيح والتمجيد وسهر الليالي، فكنيسة الإسكندرية هي أول من مَارَس وأول مَنْ أذاع سهر الليل كله([2]) في تسبيح الثالوث وتحويل اللاهوت إلى مديح مطرب على مستوى الشعب كله والعذارى!

وقد أدرك آباء الكنيسة الأوائل مدى إمكانية الشطط في فهم مدلول كلمة الابن والآب في اللاهوت، لذلك لم يتركوا الشعب دون توجيه وتحذير. فالقديس غريغوريوس الثاؤلوغس يحذر:

[لا تنشغل في تأملك في كيفية ميلاد (تولد) (الابن من الآب)، لأنه هذا ليس أمراً في جانب الأمان، فتكريم هذه الحقائق التعليمية ينبغي أن يكون في صمت، لأنه أمر عظيم وفائق أن تدرَك الحقيقة والكيفية، فنحن لا نعرف إن كانت الملائكة نفسها تدرك هذا فكم بالأقل نحن؟]([3])

والقديس باسيليوس يقول:

[لا تجروا وراء فحص غير المفحوص، فأنت لن تبلغ كشفه ... فإذا لم ترعوِ واخترت العناد فسوف يسخر الناس منك أو بالحري يبكون على جسارتك ... آمن فقط بالمكتوب ولا تجرِ وراء ما لم يُكتب لك.]([4])

وكثيراً ما حذَّر القديس أثناسيوس طريقة الحوار والملاججة في شئون اللاهوت:

[إن هؤلاء الذين يناظرون ويتباحثون في أين يكون الله وكيف يكون الله وبأي طبيعة يقوم الآب؟ مثل هذه التساؤلات تُعتبر لا دينية ولن تزيد الإنسان إلاَّ جهالة في ما يختص بالله، كذلك فإنه يخرج على القانون كلُّ مَنْ يجازف في فحص كيفية ولادة ابن الله.]([5])

ولكن ليس هذا معناه أن نكف عن دراسة الكتاب وأقوال الآباء وفهم هذه الحقائق التي كانت شغل الآباء الشاغل وموضوع تأملات القديسين وهذيذهم وتسبيحهم وأشعارهم. ولكن المحظور هو الفحص العقلي للأمور اللاهوتية التي لم يكشف الوحي عن تفاصيلها.

ولنا شهادات مبكِّرة جدًّا من آباء الكنيسة الأوائل عن إيمانهم وإدراكهم لابن الله:

[إن الابن الكلي الكمال مولود من الآب الكلي الكمال.]([6]) (كليمندس الإسكندري)

[إن كان الرب يقول: «كل ما للآب فهو لي» فإن كان الأمر كذلك فلماذا لا يكون للابن كل صفات الآب، فعندما نقرأ أن الله كلي القدرة والعلو وأنه إله القوات وملك إسرائيل ويهوه، فانظر أيضاً في هذه الصفات لماذا لا تكون أيضاً للابن. لأنه يكون من حق الابن أن يُدعى الإله الكلي القدرة إذ هو كلمة الإله الكلي القدرة.]([7]) (ترتليان)

وقد قدم الآباء تفاسيرهم بكل خشوع ووقار في ما يختص بالعلاقة الكلية التساوي في اللاهوت بين الابن والآب. وبعضهم التزم بالاصطلاحات التي جاءت في الأسفار، وبعضهم أضاف اصطلاحات أخرى للتوضيح، ولكنهم لم يركِّزوا على كيفية وجود الابن في الآب.

وفي هذا يقدِّم لنا القديس أثناسيوس صورة واضحة عن الفكر اللاهوتي الناضج والمتكامل في الكنيسة في القرن الرابع هكذا:

[وإن كانت توجد في الثالوث هذه المساواة وهذا الاتحاد فمن الذي يستطيع أن يفصل الابن عن الآب؟ أو يفصل الروح القدس عن الابن؟ أو عن الآب نفسه؟ أو مَنْ ذا الذي تبلغ به الدرجة أن يقول إن الثالوث غير متماثل أو أن جوهر الابن غريب عن جوهر الآب؟ أو أن الروح القدس غريب عن الابن، أو يسأل كيف يمكن أن تكون هذه الأمور؟

... أو كيف يُقال إن الابن فينا عندما يكون الروح القدس فينا؟ ... فليفصل أولاً شعاع النور عن النور أو فليفصل الحكمة عن الحكيم ويدلُّنا أولاً كيف يكون هذا؟

فإن كان لا يمكن إتمام هذا لكان بالأولى من عدم التقوى أن يوجِّه هؤلاء مثل هذه الأسئلة عن الله. لأن التقليد لا يعلن لنا اللاهوت بإيضاحات كلامية بل بالإيمان. واستخدام العقل يلزم أن يكون بروح التقوى والوقار، لأن بولس الرسول قد أذاع إنجيل صليب المخلِّص كما قال: «لا بكلام الحكمة، بل ببرهان الروح والقوة» (1كو 4:2).]([8])

ولقد قدَّم سفر العبرانيين أول محاولة لتفسير وشرح علاقة الآب بالابن: «الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره.» (عب 3:1)

ومن هنا انطلق جميع الآباء منذ البدء في وصف علاقة الابن بالآب على أساس علاقة البهاء (الشعاع) بالمجد الذي يوحي بصلة مماثلة هي صلة الشعاع بالنور. وإليك كلام العلاَّمة ترتليان (سنة 160-220م):

[وكما أن الشعاع ينطلق من الشمس ... إلاَّ أن الشمس تكون قائمة في الشعاع بمقتضى أن الشعاع هو شعاع الشمس، والشعاع لا يُعتبر مادة منفصلة عن الشمس بل خارجاً منها. وهكذا دائماً تكون علاقة الروح من الروح، والإله من الإله، وكما أن النور حينما يشتعل من النور فإن النور الأصلي يبقى كاملاً ولا ينقص، هكذا ما يخرج من - طبيعة - الله فإنه يسمَّى في الحال “إله” و“ابن الله” وأنهما كليهما واحد.]([9])

وهكذا سار التقليد على هذا الطريق، فنحن نسمع من القديس أثناسيوس (سنة 296-373م) نفس هذه التعبيرات [وكما ذُكر عن المسيح أنه “هو شعاع مجده ورسم جوهره” (عب 3:1) إذن فحيث أن الآب نور والابن شعاعه وجب أن لا نُحجم عن ترديد هذه العبارات كثيراً.]([10])



([1]) يو 1: 14و18، 16:3، 18:5، رو 32:8، عب 1:1-14.

([2]([3]) Greg. Naz., Orat. 35:29,30-29:8.

([4]) Petav., 5:6 ch 2. Cited by Newman op. cit., p. 160.

([5]) Newman op. cit., p. 160.

([6]) Newman op. cit., 161 notes.

([7]) Newman op. cit., p. 161 notes.

 ([8])Athanas. to Serap. 1:20.

([9]) Newman op. cit., p. 162.

 ([10])Athanas. to Serap. 1:19.

نظرة أثناسيوس - من جهة بشرية المسيح - نحو معرفة اليوم والساعة الأخيرة،



(بخصوص ما جاء في إنجيل مرقس 32:13، لوقا 52:2):

وهي النصوص التي اعتمد عليها الأريوسيون في تدعيم ادعائهم أن المسيح كابن الله وكلمته، وحتى من جهة لاهوته، كان يجهل تحديد ميعاد اليوم الأخير وبالتالي التاريخ المستقبلي.

وكان رد أثناسيوس في حديثه الثالث ضد الأريوسيين الذي استغرق اثني عشر فصلاً متصلاً([1])، والذي كان محور الدفاع فيه أن ما جاء في الإنجيل بهذا الخصوص لم يكن عائداً على “اللوغس” كلمة الله في ذاته كابن الله، فهذا افتراء! ولكن كان منصباً على الابن المتجسِّد في حالة تجسُّده كابن الإنسان.

ويمكن تلخيص ما جاء في هذا الدفاع في النقاط الآتية([2]):

1 - قول الرب: «وأمَّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلاَّ الآب»، لم يذكر الروح القدس؛ فإذا كان الروح القدس يعلم باليوم والساعة، فالابن يعلم بهما باعتباره “الكلمة”، لأن الروح القدس يأخذ مما للمسيح.

2 - إذا كان الابن يعرف الآب، فحتماً يعرف كل ما يعرفه الآب.

3 - إذا كان الابن له كل ما للآب، فحتماً يعرف اليوم والساعة.

4 - الذي خلق كل الأشياء، يعلم متى تنتهي، والذي كان يعلم علامات ما قبل اليوم والساعة بدقة، لم تكن تُخفى عليه الساعة نفسها (إلاَّ بإرادته وحده).

5 - المسيح كان يعلم ولكن ليس بصفته ابن البشر (متى 42:24)، فكان هنا يتكلَّم بشرياً.

6 - المسيح قال إنه لا يعلم، لأن في ذلك منفعتنا، حتى نكف عن حب استطلاع المواعيد، كما جاء في سفر الأعمال 7:1.

7 - كما كان يتقدَّم في القامة والحكمة عند الله والناس، كذلك كان اللاهوت يُستعلن فيه أكثر فأكثر بتقدم الزمن.

ولقد احتدم الجدل اللاهوتي حول هذا الموضوع عند الآباء بعد أثناسيوس، ولكن ظل معظم الآباء اللاهوتيين على رأي أثناسيوس.

لكن يلزمنا هنا أن نوضِّح رأينا في الخلفية اللاهوتية الدقيقة، التي كان يتحرَّك فكر أثناسيوس في إطارها، فالجهل باليوم أو المعرفة به لم تكن متصلة بمفهوم طبيعته، لأن اللاهوت والناسوت في المسيح لم يعتريهما افتراق لا لحظة ولا طرفة عين، في كل ما يختص بشخصه وفكره وقوله وعمله ومعرفته؛ ولكن الذي كان يتغيَّر وينمو هو ما يختص برسالته.

فرسالة التجسُّد التي تختص بالفداء وتنتهي عنده، ليس لها أن تتداخل في رسالة الدينونة، وهذا أوضحه الرب بقوله: «إن ابن الإنسان لم يأتِ ليدين العالم بل ليخلِّص العالم»، مع أنه في موضع آخر قال إن الدينونة أُعطيت للابن: «لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن» (يو 22:5)، وهنا يتضح أن للخلاص زمناً وعملاً وحدوداً، وأن للدينونة زمناً وعملاً وحدوداً، وأن الابن - كما أُرسل للفداء - سيُرسَل للدينونة، وكلا الإرساليتين من الآب. فالابن، وهو في حال عمل الفداء، له أن يقول - عن حق - بمقتضى التدبير إن يوم الدينونة والساعة الأخيرة ليست حالئذ في دائرة عمله، أي لم يُعطَ بعد عملها - من الآب - وبالتالي ميعادها.

لأن المسيح أوضح جدًّا في مواضع سابقة، أنه لا يعمل إلاَّ كما يريه الآب، وكما يعلِّمه الآب، وكما يقول له الآب، ومن نفسه هو لا يعمل شيئاً! «الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلاَّ ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك» (يو 19:5). وهذا من صميم مفهوم الإخلاء، حتى يكمل كل حدود الطاعة حتى الموت على الصليب.

وهكذا يتضح تماماً أن المسيح بقوله إن “الابن” لا يعلم ذلك اليوم ولا تلك الساعة إلاَّ الآب، إنما يتمشَّى تماماً مع رسالة الابن وهو لم يكمل بعد رسالة الفداء على الصليب.

أمَّا من جهة القدرة على المعرفة المطلقة بالكليات بحسب طبيعة الابن، فمعلوم يقيناً أن كل ما يعمله الآب يعمله الابن، فجوهر الطبيعة واحد في الآب والابن؛ إنما الذي حجز المعرفة عن الابن هي مشيئة الابن نفسه في التخلي، أو الإخلاء، الذي استخدمه ليظهر في الهيئة كإنسان لتكميل الطاعة حتى الموت أولاً؛ وبالتالي ليستطيع أن يقول عن حق إنه لا يعلم تلك الساعة!! أي بخصوص أعمال ما بعد الفداء، أي في ما يخص الدينونة، في حين أنه كان عالماً تماماً بساعة موته على الصليب «قد أتت الساعة ليتمجَّد ابن الإنسان» (يو 23:12). وهكذا يظهر تماماً أن معرفة الابن كانت تُستمد من الآب في حدود الرسالة الموضوعة أمامه، وإلاَّ يستحيل فهم طاعة الابن للآب.

ويمكن تلخيص نظرية أثناسيوس من نحو هذه القضية في جملة عقائدية مختصرة وبديعة نضعها هكذا:

إن المسيح، إذا شاء، يعلم كما يعلم الله

وإذا شاء، يجهل كما يجهل الإنسان!!

أو أنه كان يعلم كالله ويجهل كإنسان إنما حسب ضرورة الفداء

لأنه لمَّا تجسَّد لم يفقد شيئاً مما هو له كإله، ولا أخلَّ بما هو للإنسان. فلمَّا قال: «إن الابن لا يعلم هذا اليوم ولا تلك الساعة»، أثبت كمال ما هو لتجسُّده في حدود رسالة الفداء التي تنتهي عند ساعة الصليب، وليس عند ساعة الدينونة، ولكن جهله بساعة الدينونة باعتباره الذبيحة التي تتهيَّأ للموت على الصليب، يزيد من عظمة إخلائه لذاته، وهو كإله أُعطي كل الدينونة.

ولا يغيب عن بالنا قط، ونحن في هذا المضمار، أنَّ من دوافع التجسُّد الأصيلة قبول الجهالة التي للإنسان: «مولوداً من امرأة تحت الناموس»، حتى يستطيع أن يكمِّل الناموس، أي أن اتجاه التجسُّد هو إلى التواضع والتنازل إلى كل ما هو للإنسان، وليس التطلُّع إلى التفوُّق والامتياز الذي “للكلمة”، بالرغم من أنه استخدم هذا التفوُّق والامتياز الإلهي الذي للكلمة، الذي هو لاهوته، عند الضرورة في لحظات المصادرة أو لإثبات شخصيته والإعلان عن رسالته.

ويكرِّر أثناسيوس أنه في كل تصرُّف من هذا القبيل أو ذاك، إنما كان الدافع الوحيد هو: [من أجل منفعتنا]([3]) أو كما يضعها أثناسيوس في صيغتها اللاهوتية دائماً هكذا: [من أجل التدبير]، قاصداً تكميل العمل الخلاصي الذي تجسَّد من أجله. فكما أن المسيح تجسَّد من أجل التدبير Economia، كذلك فإن جهله لليوم وللساعة الأخيرة هو من أجل التدبير سواء بسواء، لأن على قياس وغاية التجسُّد يتحتَّم فهم كل عمل وقول وتصرُّف أتاه المسيح، وكل تدبير هو - من جهة - يقوم على حجب اللاهوت في محدودية الناسوت، ومن جهة أخرى يقوم على استعلانه اللاهوت من داخل محدودية الناسوت، ولكن كلاًّ في موضعه، بحسب حدود دور الرسالة التي جاء يكمِّلها في طاعة الآب.



([1]) Athanas., Discourse III, 42-53.

([2]) N.P.N.F. Series II, vol. VI, p. 416.

([3]) Athanas., Discourse III, 48.