السبت، 28 أكتوبر 2023

الوحي ومفهومه للدكتور موريس تاوضروس

 


لا يتم الوحي بطريقة آلية كما يزعُم هؤلاء الذين يأخذون بما يُعرف بالنظرية الآلية mechanic theory والتي بحسبها، فإن من يكون واقعاً تحت تأثير الوحي الإلهي، يَتَحَوَّل إلى أداة سلبية لا فاعِلية لها، إلى الدرجة التي ننظُر فيها إلى الكُتَّاب المُقدسين كأن عملهم لا يتجاوز مُجرَّد التوقيع، وهم يكتبون ما يُملى عليهم أو يُلقَّن لهم من الروح القدس، ويمتد تأثير الروح القدس – حسب هذه النظرية – إلى الأسلوب والكلمات، بل بالنسبة للبعض، يمتد حتى إلى علامات الترقيم.

على أن هذه الصورة التي تقدمها هذه النظرية للوحي، لا تتفِق مع الصورة الحقيقية التي كان عليها رجال الوحي عندما كتبوا الكتاب المقدس، ومهما كان الأمر، فإنه يستحيل على كاتِب مهما كان، أن يكتُب بإملاء الروح القدس رسالة مثل الرسالة إلى رومية، أو إنجيلاً مثل الإنجيل للقديس يوحنا، كما كُتِب هذان الكتابان الأول بواسطة الرسول بولس، والثاني بواسطة الرسول يوحنا.

ويتبين لنا من قراءتنا للكتاب المقدس أن الوحي قد ترك للكتبة أن يستعملوا المعارف والثقافة التي اكتسبوها. ثم إن الوحي لا يعفي الكتبة من بذل الجُهد للتعَرُّف على بعض المعلومات والمعارف التي يتضمنها الكتاب المقدس في أجزاء أخرى منه. فمثلاً في (2مل12: 19)، أشير إلى مصادر لابد أن يكون الكاتِب على معرفة بها “وَبَقِيَّةُ أُمُورِ يُوآشَ وَكُلُّ مَا عَمِلَ، أَمَا هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي سِفْرِ أَخْبَارِ الأَيَّامِ لِمُلُوكِ يَهُوذَا؟”. (2مل12: 19).

وبلا شك فقد استعان كل من القديسين متى ولوقا في سلسلتي النسب بجداول الأنساب التي كان يستعملها اليهود في ذلك الوقت. والقديس لوقا في افتتاحية انجيله، يُشير إلى الكتابات الأخرى التي كان يعرفها، فيقول:

“إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَيوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ.” (لو1: 1ـ 4).

وفى بعض الأحيان، يبدو الكُتَّاب، كمن يكتبون من واقِع خِبراتهم الخاصة، فالقديس يوحنا مثلاً يقول:

وَكَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ يَتْبَعَانِ يَسُوعَ، وَكَانَ ذلِكَ التِّلْمِيذُ مَعْرُوفًا عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَدَخَلَ مَعَ يَسُوعَ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ وَاقِفًا عِنْدَ الْبَابِ خَارِجًا. فَخَرَجَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَكَلَّمَ الْبَوَّابَةَ فَأَدْخَلَ بُطْرُسَ. (يو18: 15ـ 16)

ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ:”هُوَذَا أُمُّكَ“. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ.” (يو 19: 27)

وفي سفر الأعمال الذي كتبه القديس لوقا، يشير إلى أنه كان يصحُب الرسول في رحلاته، ويتكلم بضمير المُتكلم الجمع.

هذا بالإضافة إلى اختلاف الأسلوب واللغة من كتاب لآخر.

وفي القصص الواحدة في الإنجيل، للكُتَّاب الأربعة، يختلف العرض بين الإسهاب والإيجاز واستعمال كلمات خاصة لا تَرِد في المواضِع المُقابلة.

 

2ـ وهناك نظرية أخرى تُسمى بالنظرية الطبيعية natural theory، وبحسب هذه النظرية، يكفي كعنصر للوحي، شركة الرُسُل الشخصية مع المسيح، التي طَبَعَت بدرجة حية وعميقة فيهم أثر حياة الرب يسوع، حتى أنهم استطاعوا أن يدركوا شخص المسيح ومقاصِده أكثر من جميع الأشخاص الآخرين، ومن هنا فإن العقول الأكثر نمواً بين المسيحيين في تلك الأيام، أخذت كتاباتهم وضعاً خاصاً، وهناك أيضاً آخرون، عرفوا عملاً من أعمال الروح القدس، وهو ما يُسمَّى بالميلاد الثاني، وزعموا أن بين هؤلاء الذين وُلدوا هذا الميلاد الثاني وُجِدَ البعض الذين تَمَيَّزوا بعُمق أكثر من غيرهم بعمل الروح القدس هذا، مما مَكَّنهم لأن يكونوا أقدر من غيرهم على كتابة الكُتُب المقدسة.

على أن هذه النظرية، تسلب كُتَّاب الوحي من عمل الروح القدس الخاص بهم، الذي يُمكِّنهم من أن يصيروا أصواتاً للروح القدس يتكلم على لسانهم.

 وكذلك فإن هذه النظرية تصل إلى القول بأن سُلطة الكتاب المقدس لا تُستَمَد مُباشرةً من الله. بل من الكنيسة وكذلك فهي لا تُقدِّم الكتاب المقدس كقانون إلهي سام يجب على الكنيسة أن توجِّه تعاليمها وحياتها في ضوئه، بل كما لو كان انعكاساً ونتاجاً لحياة وروح الكنيسة.

وأكثر من ذلك، فإنها تنتهي إلى وضع الكُتُب المُقدسة على مستوى كتابات الكُتَّاب الكنسيين لا تتميز عنها إلا بالدرجة فقط. وهذه النظرية تُعارض التأكيد الكنسي العام الذي بحسبه تكون الكُتُب المقدسة قد كُتِبت بالروح القُدس الذي تكلَّم على لسان الأنبياء والرُسُل، وأن هؤلاء لم يتكلموا من أنفسهم أنظر:

2 Tim. M. 82, 849.

Justin 1, Apol, 36.

Autol. II 10.

Clement of Rome, 1 cor ch. 45, 2 – 3

Basil, Psal. 1, 1.

Origen, in Cantic. II

Gregory of Nyssa, anti Eunom. VII.

Chrysost, Psalm 145, 2 + Genes. Hom. 7, 4, M. 6, 386, 1065 + 29, 209 + 13, 121 – 122 + 45, 741 + 55, 520 + 53, 65.


3ـ وشبيه بهذه النظرية، النظرية الأخلاقية moral theory والتي بحسبها، فإنه بتجسُّد الكلمة، قد خُلِقَ نمط جديد من الحياة يُشارك فيه جميع المؤمنين، فتتغيَّر ضمائِرهم وتستنير وتتقدَّس. وهنا فإن عيونهم الروحية يحدُث لها جلاء بصري حتى أنها ترى من العالم الروحي ما لا تدركه عيون غير المؤمنين.. على أن قدرة هذه العيون تختلف بين المؤمنين من حيثُ الدرجة، فإن الذين يكونون على درجة أعلى من الجلاء يُمكنَهم أن يُدركوا الرَّوحِيَّات بصورة أكثر وُضوحاً وتَمَيُّزاً، وهؤلاء هم الرُسُل، وحسب هذه النظرية، فإن الوحي هو نصيب مُشترك يُقاسِم جميع المؤمنين، ولا يختلف المؤمنون عن الكتبة القديسين إلا من حيثُ الدرجة لله.

لكن هذه النظرية تفتقد الضمانات التي تهب هذه الكُتُب المُقدسة خصائص مُعيَّنة بين الكُتُب المسيحية تعطيها أن تكون وحدها هي كلمات وصوت الروح القُدُس.

 

4ـ أما النظرية الرابعة وهي أرجح النظريات وأصحَّها، لأنها النظرية الوحيدة التي تعرض عرضاً صحيحاً طبيعة الوحي والتي تُعَبِّر عن التعليم الأرثوذكسي، ويأخذ بها آباء الكنيسة، فهي التي تُعرف بالنظرية الديناميكية dynamic theory. وحسب هذه النظرية، فإن الوحي هو عمل خاص وخارِق للطبيعة، من قِبَل الروح القُدُس، وبموجبه ترتوي وتمتلئ إرادة الكاتِب وفِكره، وكل ملكات الإنسان الباطنة، ولكن مع ذلك، فإن الروح القُدُس لا يلغي شخصية الكاتِب ولا يفقدها حُريتها وعملها الخاص(1). وإنما يرفعها ويُنهِضها ويُشَكِّلها لكي تعمل مع الروح القُدُس هذا العمل الإلهي المُتمَثِّل في كتابة هذه الكُتُب الموحى بها من الله.

إن الوحي، هو هذا الدخول والتغَلغُل للروح القُدُس في كل الشخصية الإنسانية للكاتِب، وليس في هذا فُقدان لشخصيته أو ضياع لها، وكذلك ليس فيه أي إقلال أو إنقاص لها، بل يَتَقَدَّم بها ليكسب النفس لتكون أكثر تَبَصُّراً وفِطنة وحذقاً، وليجعل العقل أكثر إشراقاً وتلألؤاً ولمعاناً(2). وهنا، فإن كل كاتِب من هؤلاء الكُتَّاب يتكلَّم لُغته الخاصة ويُعبَّر وِفقاً لتعبيره وأسلوبه الخاص، ذلك لأن الروح القُدُس في وَحْيِهِ يستخدِم الكِتاب، ككائنات شاعِرة عاقِلة وليس كآلات سلبية. على أن ما يصدُر عنهم لا يكتبونه كأنه من أنفسهم، ولكن من خلال تَغَلغُل الروح القُدُس فيهم يكتبون حسبما يُوجَّهون ويُرشَدون، وكما تكتُب اليد بتوجيه الرأس الذي هو المسيح(3).

ومِما يدُل على أن الوحي لا يلغي شخصية الكاتِب، وأن الكاتِب يكتُب مُتأثِّراً بثقافته وبيئته، هو ما نُلاحِظه من اختلاف الأسلوب بين كُتُب الكتاب المُقَدَّس المُختلفة، وكذلك عدم التزام الكاتِب بالحرفية فيما يُكتَب، ففي قصة عِماد السيد المسيح لم يذكُر القديس متى أن صوتاً من السماء قال حسب رواية القديس لوقا: “أنت ابني الحبيب الذي به سُرِرت” (لو 3: 22). كذلك يختلف الأمر بين البشائر الأربع فيما ذكروه عن النص الذي كُتِب على صليب السيد المسيح. فهو بحسب القديس متى: “هذا هو يسوع ملك اليهود” (مت 27: 27) وهو بحسب القديس مرقس “ملك اليهود فقط” (أنظر مر 15: 26) وفي القديس لوقا: هذا هو ملك اليهود (لو23: 38)، وأما في بشارة القديس يوحنا فهو: يسوع الناصري ملك اليهود (يو19: 19).

—————————————————————————

Chrysost John hom. 1, 1-2, 1 + 1 Cor. Hom. 29,2 M. 59, 25- 26 + 61, 241.

Origen,

anti Celsus VII 4, M. 11, 1425.

Psal. 142, 2, Agust. De Consensu evangelistraum, 1,35.

 

المصدر: كتاب علم اللاهوت العقيدي لدكتور موريس تاوضروس مراجعة وتقديم نيافة الأنبا موسي، الجزء الأول ص 81 وما بعدها

 

السبت، 21 أكتوبر 2023

لاهوت المسيح في نبوات العهد القديم، 9- هو يهوه (يهيء الطريق أمامي.. يأتي إلى هيكله السيد.. وملاك العهد)

 


 "«هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ»" (ملا 3: 1).

הִֽנְנִ֚י שֹׁלֵחַ֙ מַלְאָכִ֔י וּפִנָּה־דֶ֖רֶךְ לְפָנָ֑י וּפִתְאֹם֩ יָב֨וֹא אֶל־הֵֽיכָל֜וֹ הָֽאָד֣וֹן | אֲשֶׁר־אַתֶּ֣ם מְבַקְשִׁ֗ים וּמַלְאַ֨ךְ הַבְּרִ֜ית אֲשֶׁר־אַתֶּ֚ם חֲפֵצִים֙ הִנֵּה־בָ֔א אָמַ֖ר יְהֹוָ֥ה צְבָאֽוֹת

 

كيف قرأه وفسره رسل العهد الجديد عن المسيح:

 

فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. ١١اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ. (متى11: 10، 11)

"كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: «هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ." (مر 1: 2).[1]

وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ. ١٧وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا». (لو1: 16، 17)

وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. (لو1: 76)

بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيًّا؟ نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! ٢٧هذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! ٢٨لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ أَعْظَمُ مِنْهُ». (لو7: 26- 28)

كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. ٧هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. (يو1: 6، 7)

وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَرًا وَغَنَمًا وَحَمَامًا، وَالصَّيَارِفَ جُلُوسًا. ١٥فَصَنَعَ سَوْطًا مِنْ حِبَال وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. ١٦وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ:«ارْفَعُوا هذِهِ مِنْ ههُنَا! لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ!». (يو2: 14- 16)

فَقَالَ بُولُسُ:«إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ، قَائِلاً لِلشَّعْبِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ، أَيْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ». (أع19: 4)

 

 جاءت هذه النبوة واضحة تمامًا، وقد تحققت في شخص القديس يوحنا المعمدان الذي شهد ليسوع المسيح أنه "حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29). لهذا حاول اليهود أن يقدموا تفاسير متنوعة لهذا النص فادعى بعضهم أن ملاخي يتحدث عن نفسه كملاك الرب، وادعى آخرون أنه يُشير إلى ملاك الموت الذي يقود الأشرار ليطرحهم في نار جهنم.

يؤكد النبي أن المسيا الرب يأتي بغتة إلى هيكله، الذي يطلبه الأتقياء، خائفو الرب، منذ أيام آدم وحواء. إنهم ينتظرونه بفرحٍ عظيمٍ، وكما يقول الإنجيلي: كانوا "ينتظرون تعزية إسرائيل" (لو 1: 25)، وفداءً في إسرائيل (لو 1: 38)، إذ هو "مُشتهى كل الأمم" (حجي 2: 7). يجد الكل فيه مسرة قلوبهم.[2]

 

كيف قرأتها وفسرتها الكنيسة الأولى؟

 

يوحنا فم الذهب:

* تحدث يسوع عن ثياب يوحنا وسجنه ودوره في النبوة؛ بقوله هذا أظهر أنه أعظم من نبي. ماذا يعني يسوع أيضًا أنه هو أعظم؟ في كونه كان قريبًا جدًا من ذاك القادم. يقول: "هأنذا أرسل ملاكي أمام وجهك", قاصدًا قربه من المسيا. فكما بالنسبة للملوك الذين يركبون بجوار المركبة يكون أكثر شهرة من البقية، هكذا كان يوحنا، إذ يظهر بدوره قريبًا من المجيء ذاته.[3]

 

جيروم:

يوحنا أعظم من الأنبياء الآخرين للسبب التالي: تنبأ الأنبياء الآخرون عن يوحنا أنه قادم، أما يوحنا فأشار بإصبعه أنه جاء حقًا، قائلًا: "هوذا حمل الله الذي يحمل خطية العالم" (يو 1: 29). لم يبلغ فقط مركز نبي، بل والمعمدان بتعميده ربه، هذا رفع من شأنه. بهذا حقق نبوة ملاخي إذ تنبأ عن ملاك. يوحنا انتمَى إلى طغمة الملائكة، ليس حسب الطبيعة، بل بسبب أهمية رسالته. إنها تعني أنه الرسول الذي يعلن عن مجيء الرب.[4]

 

أغسطينوس:

في هذا النص يسبق فيخبرنا عن كلٍ من المجيئين للمسيح، الأول والثاني. الأول حيث يقول: "للتو سيأتي الرب في هيكله بغتةً". هذا يُشير إلى جسد المسيح الذي قال عنه بنفسه في الإنجيل: "اهدموا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أنا أقيمه" (يو 2: 19). ومجيئه الثاني تنبأ عنه بتلك الكلمات: "ومن يقدر أن يفكر في يوم مجيئه؟ ومن يقف ليراه؟"...[5] يُدعى البشر ملائكة، فيقول الرسول عن نفسه: "كملاكٍ من الله قبلتموني" (غل 4: 14). ويُقال عن يوحنا المعمدان: "هأنذا أرسل أمام وجهك ملاكي يهيئ طريقك قدامك" (مت 11: 10). لذلك عند مجيئه ومعه كل ملائكته (مت 25: 31) سيكون معه قديسوه أيضًا.[6]

 

شرح مختصر للنبوة:

 

ملاكي الذي يهيئ الطريق أمامي:

  المقصود هُنا يوحنا المعمدان؛ كما متى 3: 3؛ 11:10؛ مرقس 1: 2، 3؛ لو 1: 76؛ 3:4؛ يو 1: 23 يوحنا بصفته النبي الممثل (سابق المسيح [الله المتجسد]) جمع في نفسه كل السمات المتناثرة للنبوة السابقة (ومن هنا وصفه المسيح بأنه "أعظم من نبي" لو 7: 26)، ومع ذلك كانت أقواله ملهمة: فملابسه الخشنة، مثل ملابس الأنبياء القدامى، كانت بمثابة حث واضح على التوبة؛ والبرية التي كان يكرز فيها ترمز إلى حالة اليهود القاحلة والهامدة في ذلك الوقت سياسيًا وروحيًا؛ كرازته كانت عن الخطيئة، والتوبة، والخلاص، تقدم للمرة الأخيرة خلاصة مختصرة لجميع تعاليم الله السابقة على يد أنبيائه؛ لذلك يُدعى بشكل بارز "رسول/ملاك" الله.[7]

وتشير الآيات ٢-٤ أيضًا إلى الطبيعة الإلهية لهذا الرب الآتي. يؤكد العهد الجديد هذا التفسير من خلال تعريفه بأن يوحنا المعمدان هو الرسول الموعود في الآية 1أ، والذي يمهد الطريق للرب الذي تم التنبؤ به في الآية 1ب (انظر متى 11: 10-14).[8]

 

هل ملاكي المقصود هو ملاخي؟

في العبرية، عبارة "رسولي" هي מַלְאָכִי (ملاكي)، وهي نفس صيغة اسم النبي (ملاخي). ولكن يبدو هنا الملاك المذكور هُنا كشخصية أخروية على وشك الظهور، كما يوحي السياق التالي. وفقاً لما جاء في (ملا 4: 5)، فإن هذا الرسول هو "إيليا النبي"، الذي يعرفه العهد الجديد بأنه يوحنا المعمدان (متى 11: 10؛ مرقس 1: 2) لأنه جاء "بروح إيليا وقوته" (متى 11: 11: 5). 14؛ 17: 11-12؛ لو 1: 17).[9]

فعلى الرغم من حقيقة أن "ملاكي" و"ملاخي" هما نفس الشيء في العبرية، إلا أن السياق الموجه نحو المستقبل للآية: "«هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ»" (ملا 3: 1). والآية: "هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ" (ملا 4: 5). يوضح أن "ملاكي" ليس ملاخي.[10]

 

يأتي بغتة إلى هيكله:

تقول أن المسيح سيأتي فجأة إلى هيكله. هذا هو الهيكل الثاني، الذي أعاد زربابل بناؤه وأعاد تشكيله على يد هيرودس الكبير. لقد جاء يسوع إلى هذا الهيكل في مناسبتين منفصلتين ليطهره من الصرافين (يوحنا 2: 13-22؛ متى 21: 12-13). يقول النص على وجه التحديد "هيكله". هذا الهيكل ينتمي إلى المسيح. لديه الحقوق الكاملة في الهيكل، ويمكنه أن يفعل به كما يشاء، لإنه هو ويهوه واحد. عندما طهره يسوع كان يمارس سيادته، وسلطته، وملكيته.[11]

 

السيد الذي تطلبونه:

جائت في العبرية: "ها-أدون"، وهي تشير إلى يهوه (خروج ٢٣: ١٧؛ ٣٤: ٢٣؛ قارن يش ٣: ١١، ١٣). قارن دا 9: 17. الله المتحدث يجعل "الرب"، "ملاك العهد"، واحدًا معه. "سأرسل ... أمامي"، مضيفًا، "الرب ... سوف ... يأتي"؛ لذلك يجب أن يكون "الرب" واحدًا مع "أنا"، أي يجب أن يكون الله الذي "أمامه" أُرسل يوحنا. وكما يتم إثبات ألوهية الابن ووحدانيته مع الآب، كذلك يتم إثبات تمايز الأقانيم بقوله "أنا أرسل" وهو "يأتي" فهي ضمائر متمايزة تعبر عن نفس الشخص، كما أن الأقانيم متمايزة بينما الله واحد. كما أنه يأتي إلى الهيكل باعتباره "هيكله": مما يشير إلى سيادته الإلهية عليه، على النقيض من جميع المخلوقات، الذين هم مجرد "عبيد" فيه (حج 2: 7؛ عب 3: 2، 5، 6).[12]

 

ملاك العهد:

ويُدعى "ملاك حضور الله" (أش 63: 9)، وأيضاً ملاك الرب. قارن ظهوراته بإبراهيم (تك 18: 1، 2، 17، 33)، ويعقوب (تك 31: 11)، وموسى في العليقة (خروج 3: 2-6)؛ لقد ذهب أمام إسرائيل بصفته الشكينة (خر 14: 19)، وسلم الشريعة في سيناء (أع 7: 38). فكل ظهورات الله في العهد القديم، الشكينة والظهورات البشرية، كانت في شخص الابن الإلهي (خروج 23: 20، 21؛ عب 11: 26؛ 12: 26). لقد كان ملاك العهد القديم كما هو ملاك العهد الجديد.[13]

هناك فكرة أخرى في الأفق، لأن الآية 1ب تتحدث بالتوازي الشعري، حيث يعبر سطرين عن نفس الفكرة بكلمات مختلفة. لذلك فإن الرب الذي تطلبونه هو نفس شخص ملاك العهد الذي تسرون به، وبالتالي فإن "ملاك العهد" الآتي هو نفس الكائن الإلهي مثل "يهوه" الذي هو أيضًا مطلوب وسيأتي.[14]

 

كيف قرأها اليهود؟

 

يقول رابي ابن عزرا:

قد يكون المسيح ابن يوسف.[15]

 

جاء في احدى التفاسير اليهودية:

وكتب الرابيون أن ملاك العهد هنا هو المسيح ابن يوسف، وهو ملاك العهد لمملكة افرايم كما يقال (1ملوك 19:10).[16]

 

وجاء في تعليقات ملابيم:

ثم سأرسل ملاكي، ويوضح هذا الطريق أمامي، عندما يبدأ، سيدخل نبي باسم الله الذي سينقي هذا الطريق من كل العوائق، الذي سيصحح العالم بالتوبة، وبعد ذلك عندما يصحح العالم ويصبح الطريق جاهزًا، فجأة يأتي الرب الذي تطلبونه إلى هيكله، فالله سيأتي ليسكن في هيكله على الأرض ويسير بينكم، وها هو ههنا ملاك العهد الذي تطلبونه، لأن الملاك يسبق الأول، سيأتي الرب إله الجنود، وهو الملاك الذي سيدخل العالم إلى عهد التوراة والإيمان. أن هذا هو إيليا، الملاك الذي سيأتي أولاً ليُعافي كثيرين من الضيق، وهو الذي الذي غار على العهد في أيام أخآب.[17]

 

ويقول ميتزودات داود:

ها أنا في وقت الفداء الآتي سأرسل ملاكا من السماء فيفتح الطريق أمام الله، فيقطع من العالم المجرمين والمتمردين، ليطهر الأرض قبل أن آتي لأسقي مقدسي في الأرض... هذا هو الملك المسيا الذي تنتظره عين كل إنسان وتشتاق إليه وتشتاق لمجيئه.. أما ملاك العهد فهو إيليا.[18]

 

ويقول رابي راداك:

الرب وهو ملك المسيح وهو ملاك العهد، وقيل أن ملاك العهد عن إيليا، وقيل أيضاً في الأسطورة أن إيليا كان يغار من الختان الذي منعهم من مملكة أفرايم، كما أنه قيل غرت على الرب اله اسرائيل لان بني اسرائيل تركوا عهدك لا يختتن اسرائيل حتى ترى بعينيك من هنا يقيمون كرسي المجد لايليا الذي يقال له ملاك العهد، وها هو ملاك العهد الذي تطلبونه، قال رب الجنود.[19] 



[1] إن القراءة الأقدم والصحيحة لمرقس 1: 2 هي "كما هو مكتوب في إشعياء النبي". والصعوبة هي: كيف يمكن إحالة نبوة ملاخي إلى إشعياء؟ التفسير هو: المقطع في ملاخي يرتكز على ما في إش 40: 3، ولذلك يُشار إلى المصدر الأصلي للنبوة لتمييز هذه التبعية والارتباط.

Robert Jamieson, A. R. Fausset, A. R. Fausset, David Brown and David Brown, A Commentary, Critical and Explanatory, on the Old and New Testaments (Oak Harbor, WA: Logos Research Systems, Inc., 1997). Mal 3:1.

[2] القمص تادرس يعقوب ملطي، من تفاسير وتأملات الآباء الأولين، سفر ملاخي 3: 1.

[3] The Gospel of Matthew, homily 37:2.

[4] Comm. on Matthew 2: 11:9.

[5] City of God 18:35.

[6] On Ps. 50 (49).

[7] Robert Jamieson, A. R. Fausset, A. R. Fausset, David Brown and David Brown, A Commentary, Critical and Explanatory, on the Old and New Testaments (Oak Harbor, WA: Logos Research Systems, Inc., 1997). Mal 3:1.

[8] Crossway Bibles, The ESV Study Bible (Wheaton, IL: Crossway Bibles, 2008). 1777

[9] Biblical Studies Press, The NET Bible First Edition Notes (Biblical Studies Press, 2006; 2006). Mal 3:1.

[10] Crossway Bibles, The ESV Study Bible (Wheaton, IL: Crossway Bibles, 2008). 1777

[11] Arnold G. Fruchtenbaum, Messianic Christology: A Study of Old Testament Prophecy Concerning the First Coming of the Messiah (Tustin, CA: Ariel Ministries, 1998). 75.

[12] Robert Jamieson, A. R. Fausset, A. R. Fausset, David Brown and David Brown, A Commentary, Critical and Explanatory, on the Old and New Testaments (Oak Harbor, WA: Logos Research Systems, Inc., 1997). Mal 3:1.

[13] Robert Jamieson, A. R. Fausset, A. R. Fausset, David Brown and David Brown, A Commentary, Critical and Explanatory, on the Old and New Testaments (Oak Harbor, WA: Logos Research Systems, Inc., 1997). Mal 3:1.

[14] Crossway Bibles, The ESV Study Bible (Wheaton, IL: Crossway Bibles, 2008). 1777.

[15] יתכן להיותו משיח בן יוסף: 

Ibn Ezra on Malachi 3:1:1

[16] וכתב הראב"ע שמלאכי הנז' כאן הוא משיח בן יוסף, והאדון הוא הכבוד והוא עצמו מלאך הברית.

Abarbanel on Malachi 3:1:1

[17] הנני שלח משיב להם מה שאתם רוצים שיתגלה אלהי המשפט ויעניש תיכף את הרשעים ויתן שכר לצדיקים, זה אי אפשר שיהיה בזה"ז, כי עתה הוא עדיין עולם הבחירה והנסיון וצריך שיתנהג הכל בדרך הטבע כדי שיהיה הבחירה נתונה לעשות טוב ורע ויהיה מקום לנסיון ולשכר ועונש, שאם יתגלה השי"ת בכבודו אז לא יצוייר עוד שיעשה איש מעשה רע, כי אז אף על חטא קל יענש תיכף ויעבור מן העולם ויתיראו מעשות רע, וע"כ הדרך הזה שילך ה' בעצמו אל יצוריו לשפטם ולהנהיגם על זה האופן, לא נסלל עדיין ולא הוכן בזה הזמן, רק אחר שיתוקן העולם אז הנני שולח מלאכי ופנה דרך זה לפני, שתחלה ילך נביא בשם ה' אשר יפנה דרך זה מכל אבני מכשול, ר"ל שיתקן את העולם בתשובה, ואז כשיהיה העולם מתוקן והדרך מוכן, אז פתאום יבא אל היכלו האדון אשר אתם מבקשים, אז יבא ה' לשכון בהיכלו למטה ולהתהלך בתוככם, ואז מלאך הברית אשר אתם חפצים הנה כבר בא, כי המלאך יקדים לבא קודם בא האדון ה' צבאות, והוא המלאך שיכניס את העולם בברית התורה והאמונה ובברית בינם לבין אלהים, וחז"ל פי' שזה אליהו מלאך הברית שיקדים לבא להשיב רבים מעון והוא אשר קנא על הברית בשטים ובימי אחאב:

Malbim on Malachi 3:1:1

[18] הנני שולח מלאכי. מוסב למעלה להשיב על תלונותן שאמרו איה אלהי המשפט ויאמר הנה בזמן הגאולה העתידה אשלח אני מלאך מן השמים והוא יפנה הדרך לפני ר״ל הוא יבער מן העולם הפושעים והמורדים לטהר את הארץ לפני בואי להשרות שכינתי בארץ: 

הנה בא. אמר בלשון עבר כי כאשר יבא המשיח יהיה אליהו כבר בא כי הוא יקדים לבוא:

Metzudat David on Malachi 3:1:1

[19] האדון. הוא מלך המשיח והוא מלאך הברית, או אמר מלאך הברית על אליהו, וכן אמר באגדה שאליהו קנא על ברית מילה שמנעה מהם מלכות אפרים, שנאמר קנא קנאתי לה' אלהי ישראל כי עזבו בריתך בני ישראל, אמר לו קנאת בשטים וכאן אתה מקנא על המילה חייך שאין ישראל עושים ברית מילה עד שאתה רואה בעיניך, מכאן התקינו לעשות כסא הכבוד לאליהו שנקרא מלאך הברית שנאמר ומלאך הברית אשר אתם חפצים הנה בא אמר ה' צבאות: 

Radak on Malachi 3:1:4

الجمعة، 20 أكتوبر 2023

لاهوت المسيح في نبوات العهد القديم، 8- اسمه يهوه (الرب برنا)



”هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُقِيمُ لِدَاوُدَ غُصْنَ بِرّ، فَيَمْلِكُ مَلِكٌ وَيَنْجَحُ، وَيُجْرِي حَقًّا وَعَدْلًا فِي الأَرْضِ. 6 فِي أَيَّامِهِ يُخَلَّصُ يَهُوذَا، وَيَسْكُنُ إِسْرَائِيلُ آمِنًا، وَهذَا هُوَ اسْمُهُ الَّذِي يَدْعُونَهُ بِهِ: الرَّبُّ بِرُّنَا.” (ار5:23، 6).       

 

وقد تكررت هذه النبوة مرة أُخرى في إرميا أيضًا:

فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَفِي ذلِكَ الزَّمَانِ أُنْبِتُ لِدَاوُدَ غُصْنَ الْبِرِّ، فَيُجْرِي عَدْلًا وَبِرًّا فِي الأَرْضِ. 16 فِي تِلْكَ الأَيَّامِ يَخْلُصُ يَهُوذَا، وَتَسْكُنُ أُورُشَلِيمُ آمِنَةً، وَهذَا مَا تَتَسَمَّى بِهِ: الرَّبُّ بِرُّنَا. (إر33: 15، 16)

 

في البداية يجب أن نلاحظ أن الترجمة العربية للعهد القديم ترجمت في كل مرة ورد فيها اسم يهوه יְהוָ֥ה بكلمة: الرب.. وهذه الترجمة تعد قاصرة عن توصيل معنى النص العبري الأصلي، ففي جميع النصوص العبرانية القديمة نجد أن النص ورد يهوه صديق יהוה צדקנו والتي تعني يهوه برنا أو يهوه الذي فيه تبريرنا، وهذا ما نجده في مخطوطة ليننجراد ومخطوطة حلب:

Westminster Leningrad Codex

בְּיָמָיו֙ תִּוָּשַׁ֣ע יְהוּדָ֔ה וְיִשְׂרָאֵ֖ל יִשְׁכֹּ֣ן לָבֶ֑טַח וְזֶה־שְּׁמֹ֥ו אֲ‍ֽשֶׁר־יִקְרְאֹ֖ו יְהוָ֥ה ׀ צִדְקֵֽנוּ

 

Aleppo Codex

ו בימיו תושע יהודה וישראל ישכן לבטח וזה שמו אשר יקראו יהוה צדקנו

 

كيف قرأه وطبقه رسل العهد الجديد على المسيح؟

 

فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ (مت1: 21)

لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ (لو19: 10)

بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ (رو3: 22)

وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً (1كو1: 30)

بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ (في3: 9)

 

تفسير مختصر للنص:

 

في ع٥، المسيا يدعى غصن (أو ابن) داود. في زكريا ٣: ٨ هو «عبدي الغصن»، وفي زكريا ٦: ١٢ «الرجل... الغصن»، وفي إشعياء ٤: ٢ هو «غصن الرب». هذه تقابل الأربعة أوجه للرب يسوع كما تقدِّمه الأناجيل: كالملك، الخادم، ابن الأنسان، وابن الله.

»الرب برنا» أو“يهوه تسيدكينو”(ع٦) هو أحد سبعة أسماء مركبة ليهوه؛ فسيكون الله معروفًا بأنه هو الذي أرجع شعبه إلى الأرض. الأسماء الأخرى التي يظهر فيها اسم يهوه مركبًا (بحسب العبرية) هي: «يَهْوَهْ يِرْأَهْ» (تك٢٢: ١٣، ١٤)، «الرب شافيك» “يهوه رافا” (خر١٥: ٢٦)، «يَهْوَهْ نِسِّي» “الرب رايتي” (خر١٧: ٨-١٥)، «يَهْوَهَ شَلُومَ» “الرب سلام” (قض٦: ٢٤)، «الرب راعي» “يهوه راعا” (مز٢٣: ١)، «يَهْوَهْ شَمَّهْ» “الرب هناك” (حز٤٨: ٣٥).[1]

 

تتناول هذه الآيات في المقام الأول المجيء الثاني للمسيح، ولكن هناك جانبًا منها يتعلق بمجيئه الأول أيضًا. تتحدث الآية 5 عن الرجل الذي سيكون ابنًا لداود، والذي سيملك كملك. إن ملكية المسيح لم تأت بعد، ولكن هذه الآية تتحدث بوضوح عن المسيح باعتباره من نسل داود، وبالتالي تؤكد على إنسانيته. ولكن في الآية 6، يُعطى هذا الرجل اسمًا ينطبق على الله وحده: "الرب برنا". الترجمات الحديثة عمومًا تجعل هذا على أنه الرب. يهدف هذا إلى نقل الأحرف الأربعة YHVH التي تُقرأ على أنها يهوه (بالعبرية יְהוָ֥ה القراءة من اليمين إلى اليسار هي الحروف yod heh vav heh). في جميع أنحاء العهد القديم، يُعطى الاسم الإلهي YHVH لله وحده، ولكن هنا يُعطى الرجل الوارد ذكره في الآية 5 اسم الله بوضوح في الآية 6. وهذا يقدم لنا مرة أخرى مفهومًا واضحًا عن المسيح باعتباره الله الإنسان.[2]

 

وهنا يؤكد الوحي الإلهي أن ابن داود الآتي،

غصن البر،

سيملك على الأبد وليس ملكا وقتياً،

وهذا ما أكده الملاك للعذراء: ” هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية ” (لو1 :32و33).

ولذا فاسمه الرب برنا.

(1) وكونه الرب ” يهوه = Yahweh ” فهو كامل في لاهوته؛

(2) و ” برنا ” لأنه بررنا من خطايانا لكونه البار فهو الرب يهوه غير المحدود بلاهوته، والقدوس البار بناسوته: ” قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات ” (عب6 :27)، ” وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها ” (اش53 :11)، ” فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح ” (رو5 :1)، ” بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرا وقداسة وفداء ” (1كو1 :30).

 

وقد وصف هنا بعبد الرب بسبب تجسده، ظهوره في الجسد، اتخاذه صورة العبد، لكنه في حقيقته هو الرب، يهوه برنا:

”الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا للّه لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسما فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (في2 :6-11).

 

كيف قرأه الرابيون اليهود؟

 

إحدى الحجج التي قدمتها اليهودية الحاخامية لدحض هذا التعليم هي الإشارة إلى أنه في جميع أنحاء الكتاب المقدس توجد أمثلة لأسماء تحتوي على اسم الله. على سبيل المثال، الاسم ارميا يعني «يهوه سيثبت» او «يهوه سيلقي». أو مرة أخرى، اسم إشعياء يعني "يهوه خلاص"، وهناك أسماء أخرى كثيرة تحتوي على الاسم "يهوه". ومع ذلك، يجب أن ندرك أنه في أي من هذه الحالات لم يتم العثور على جميع الأحرف الأربعة YHVH. عادةً ما يتم استخدام حرفين فقط، وأحيانًا ثلاثة، ولكن لم يتم استخدام الأحرف الأربعة لاسم الله مطلقًا فيما يتعلق بالإنسان. وعلى الرغم من ذلك، فإن إرميا 23: 5 يتحدث بوضوح عن رجل – وهو إنسان من نسل الملك داود – وفي 23: 6 يُعطى اسمًا هو اسم خاص بالله وحده وبأحرف كاملة وبشكل واضح، فمن الواضح أنه ليس اسم شخص بل وصف لعمل الله المبرر.

وهذا أمر لم يكن في الواقع محل خلاف بين الرابيين القدماء، الذين كانوا يفسرون هذا دائمًا على أنه مقطع مسياني. ولم يحاول الحاخامات القول بخلاف ذلك إلا مؤخرًا نسبيًا. ويمكن تقديم اقتباسات من الكتابات الرابينية لإظهار ذلك:[3]

 

فقد فهم الغالبية العظمى من علماء اليهود مغزى هذه النبوّة وطبقوها في مناسبات أخرى على المسيح؛ ففي مدراش تهليم عن المزامير في تفسير (مزمور21: 1):

”الله يدعو الملك المسيا باسمه هو. لكن ما هو اسمه؟ الإجابة: الرب (يهوه) رجل الحرب” (خروج 15: 3).[4]

وفي مصدر يهودي آخر، إيكاراباتي (200- 500م) ” المراثي في شرح التوراة واللفائف الخمس ” يقول في تعليق على (مراثي1: 16):

” ما هو اسم المسيا؟ يقول أبا بن كاهانا (200- 300م): اسمه يهوه كما نقرأ في إرميا 23: 6 ” وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب (يهوه) “.[5]

فالمقصود هُنا هو المسيح، بحسب جون جيل[6] فإن هذا ما قال به اليهود قديمًا وحديثًا.[7]

 

ورد في مدراش على سفر الأمثال:

قال الحاخام هونا: "ثمانية أسماء أُعطيت للمسيح وهي: ينون، شيلوه، داود، مناحيم، يهوه...".[8]

 

وفي المدراش على مراثي إرميا، يقول:

ما هو اسم المسيح؟ قال راف آفا بن كاهانا، "يهوه هو اسمه"، وقد اثبت رأيه باستشهاده بإرميا 23: 6.[9]

وجاء مثل ما سبق أيضًا في التلمود البابلي على لسان رابي يوحنان.[10]

 

وورد في ميتزودات داود:

في أيامه أي في أيام المسيح، سيتم إنقاذ كل من يهوذا وإسرائيل، وسيعيشون في أرضهم بالتأكيد، وليس كما في الهيكل الثاني.[11] وهذا هو اسمه: للمسيح الذي سيدعى إسرائيل.[12]

 

وجاء في تفسير يهودي آخر:[13]

في أيامه - يقال أنه في أيام المسيح "سيخلص يهوذا"...

اسمه الذي سيُدعى به سيُدعى بعد ذلك "الرب برنا" لأنه برنا هو الرب، كما يقول "... يا إله بري..." (مز-تهليم 4: 2) بمعنى أن بري يأتي من الله - فكما هو موجود كذلك إسرائيل يتبرر ويخلص به.

تتكرر هذه النبوءة أكثر في 33: 15، مع بعض التغييرات. يقول "سأنبت لداود غرسة بر" لكنه لا يذكر "فيملك ملكًا وينجح". هناك مكتوب "في تلك الأيام يخلص يهوذا وتسكن أورشليم آمنة وصالحة". هذا هو الاسم الذي يدعوه به يهوه برنا.لأن هناك نوعين من الفداء. إذا جاء من خلال استحقاقنا "فسأسرع به"، إذا لم يكن من خلال استحقاقنا "في وقته".[14]

 

وكتب في منشات تشاي:

وهذا هو اسمه الذي يدعوه: يهوه؛ عزرا كتب في ريش بارشات يثرو כתב ן' עזרא בריש פרשת יתרו أنه باسم المسيح الله نحن أبرار، تمامًا كما دعا موسى إلى مذبح الله، وقال أن الاسم يلتصق بالكلمة التي سيقرؤونها واسم المسيح هو برنا.[15]

 

وقال رابي راداك:

وهذا هو اسمه الذي سيدعوه الله برنا. سيُدعى إسرائيل، ويُدعى المسيح بهذا الاسم: يهوه.[16]

 

كما دُعي السيد المسيح بالغصن للسببين التاليين:

أ. لأن الغصن مرتبط بالأصل، فمع أنه رب داود لكنه من نسله، مرتبط به حسب الجسد.

ب. صار بالحقيقة إنسانًا ينمو كالغصن.

أُستخدم هذا اللقب "الغصن" في مجتمع قمران ليشير إلى المسيا الملك.[17] وقد أُدخل إلى الصلاة اليهودية التي تُدعىEsreh  Shemoneh (الثمانية عشر بركة):

[ليبرز غصن داود عبدك سريعًا، وليتمجد قرنه بخلاصك].[18]

 



[1] William MacDonald and Arthur Farstad, Believer's Bible Commentary: Old and New Testaments (Nashville: Thomas Nelson, 1997, c1995). Je 23:1-8.

[2] Arnold G. Fruchtenbaum, Messianic Christology: A Study of Old Testament Prophecy Concerning the First Coming of the Messiah (Tustin, CA: Ariel Ministries, 1998). 62.

[3] Arnold G. Fruchtenbaum, Messianic Christology: A Study of Old Testament Prophecy Concerning the First Coming of the Messiah (Tustin, CA: Ariel Ministries, 1998). 62.

[4] Lartsch, Bible Commentary: Jeremiah, 193; Midrash on Psalm 21:1; Arnold G. Fruchtenbaum, Messianic Christology: A Study of Old Testament Prophecy Concerning the First Coming of the Messiah (Tustin, CA: Ariel Ministries, 1998). 63.

[5] Lartsch, Bible Commentary: Jeremiah, 193

[6] Gills Exposition of the Bible, Jeremiah 23: 6.

[7] T. Bab. Bava Bathra, fol. 75. 2. Echa Rabbati, fol. 50. 1. R. Saadiah Gaon in Daniel 7.13. R. Albo, Sepher Ikkarim, l. 2. c. 28. Abarbinel, Mashmiah Jeshuah. fol. 35. 2. Caphtor fol. 87. 1. Yalkut Simeoni, par. 2. fol. 75. 2. Kimchi in loc. & in Ezekiel 48.35. & Ben Melech in loc.

[8] In the Midrash on Proverbs 19:21 (c. 200–500 a.d.)

[9] In the Midrash on Lamentations 1:16

[10] Babba Bathra Tractate 75b

[11] בימיו. בימי המשיח תוושע גם יהודה גם ישראל ישכון בארצם לבטח לא כמו בבית שני שלא חזר כ״א יהודה: 

Metzudat David on Jeremiah 23:6:1

[12] וזהו שמו. של המשיח אשר יקראו אותו ישראל: 

Metzudat David on Jeremiah 23:6:2

[13] Malbim on Jeremiah 23:6:1

[14] see Isaiah 60:22 and gem. Sanhedrin 98a

[15] Minchat Shai on Jeremiah 23:6:3

[16] Radak on Jeremiah 23:6:1

[17] Holladay, Jeremiah, vol. 1, p. 620; 4 Q Flor 1.11; Q Bless 1.3-4.

[18] George F. Moore, Judaism in the First Centuries of the Christian Era, The Age of Tannaim, Cambridge, Harvard University; 1950-59, 2: 325