الجمعة، 10 نوفمبر 2023

هل الله يعطي بسخاء لنعرفه أم يضل البشر؟

 


وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. (يع1: 5)، 

لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. (لو 11: 10).

 

«قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ، وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». (يو12: 40)، 

لأَنَّهُ كَانَ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ يُشَدِّدَ قُلُوبَهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا إِسْرَائِيلَ لِلْمُحَارَبَةِ فَيُحَرَّمُوا, فَلاَ تَكُونُ عَلَيْهِمْ رَأْفَةٌ, بَلْ يُبَادُونَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى. (يش11: 20)، 

لِمَاذَا أَضْلَلْتَنَا يَا رَبُّ عَنْ طُرُقِكَ قَسَّيْتَ قُلُوبَنَا عَنْ مَخَافَتِكَ؟ ارْجِعْ مِنْ أَجْلِ عَبِيدِكَ أَسْبَاطِ مِيرَاثِكَ. (اش63: 17).

 

فهل الله يُعطي بسخاء لنعرفه أم يُضلنا؟

 

ليس معني هذا ان الله يشاء هلاك البشر و يسر بموتهم، وإنما هذا يعني النتيجة الطبيعية لعناد الإنسان وقسوة قلبه. فالله هو الكائن الأكثر عظمة والأكثر خيرية وكرماً، وعندما يري أن إنسان لا يُريده فهو يسمح له بأن يخرج مبتعداً عنه ويسقط من نعمته التي كانت تعطيه استنارة ومعرفة وسط ظلمة الشر. وكما يقول د/ مورلاند: الله هو الكيان الاكثر كرماً وحباً وروعة وجاذبية في الكون. لقد خلقنا بإرادة حره وخلقنا لهدف، أن ننتمي إليه وللأخرين بحب. نحن لسنا اموراً عارضة، ولسنا قروداً مُعدلة، ولسنا أخطاء عشوائية، ولو خبنا مراراً وتكراراً عن الحياة من اجل الهدف الذي خُلقنا لأجله – الهدف الذي سيسمح لنا ان ننمو اكثر من ان نحيا بأية طريقة اُخري– فإن الله لن يكون بوسعه علي الإطلاق إلا أن يمنحنا ما طلبناه طوال حياتنا، وهو الإنفصال عنه[1].

وبترك الإنسان لنعمة الله وسقوطه في ظلمة الشر تظلم عيناه فلا يقدر أن يُميز بعد الحق من الباطل والخير من الشر، وهكذا فَيَضل الطريق كالأعمي إذ ترك النور. وهذا ما يدعوه الكتاب المُقدس بتعبيرات مثل (أسلمهم لذهن مرفوض. رو 1: 28)، (قسي او شدد قلب فرعون. خر10: 20)، فهم الذين أختاروا ذلك لأنفسهم وليس الرب هو من فعل بهم ذلك، وبالعودة لقصة تشديد قلب فرعون نري أن الكتاب المُقدس أعلن أيضاً أن فرعون هو صاحب القلب القاسي بطبيعته وليس الله هو من قساه فيقول الكتاب : (قلب فرعون غليظ. خر7: 14)، ويقول ايضاً أن فرعون(أغلظ قلبه. خر8: 19). فهذا يُرينا أن الله يترك من يُقسي قلبه ويرغب في الإبتعاد عنه لإرادته، حيث يسقط من نعمة الله معطية الإستنارة المرشدة في الطريق، فيضل، لا لأن الله فعل به هذا الضلال –حتي وأن وضع كتبة الكتاب المُقدس مثل هذه التعبيرات- بل لأنه هو من أراد الحياة في الظلمة (وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. 20 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ.. يو3: 19).

ويقول القديس يوحنا فم الذهب: إن اختار احد ان يغمض أعين عقله ولم يرد ان يستقبل النور واشعته، ظلمة هذا الإنسان لا تأتي بسبب طبيعة النور، ولكنها تأتي بسبب شره الشخصي الذي، بإرادته الحرة، يحرمه من هذه النعمة[2]. ويقول ايضاً:  كما أن الشمس تبهر العيون الضعيفة ليس بسبب طبيعتها اللائقة بها، هكذا أيضًا بالنسبة للذين لا يبالون بكلمة الله. هكذا قيل في حالة فرعون أن (الله) قسى قلبه. هكذا يكون حال من هم مصرون تمامًا على مقاومة كلمات الله.

هذا هو أسلوب الكتاب، كما قيل: "أسلمهم إلى فكرٍ مرفوض" (رو ١:٢٨)... فإن الكاتب هنا لا يقدم الله بكونه هو نفسه يفعل هذه الأمور إنما يظهر أنها تحدث خلال شر الآخرين. فلكي يرعب السامع لذلك يقول الكاتب: "قسى الله"، "أسلمهم".

ولكي يُظهر أنه لا يسلمنا ولا يتركنا إلاَّ إذا أردنا نحن ذلك اسمع ما يقوله: "أليست شروركم قد فصلت بيني وبينكم؟" (إش ٥٩: ٢ LXX). ويقول هوشع: "أنتم نسيتم ناموس إلهكم، وأنا أيضًا أنساكم" (هو ٤: ٦ LXX). وهو نفسه يقول: "كم مرة أرد أن أجمع أبناءكم... وأنتم لا تريدون؟" (لو ١٣: ٣٤)...

إذ نعرف هذا ليتنا نبذل كل الجهد ألا نترك الله، بل نتمسك بالاهتمام بنفوسنا ومحبة بعضنا البعض. ليتنا لا نبتر أعضاءنا، فإن هذا عمل من هم مجانين، بل كلما رأيناهم في وضع شرير نترفق بهم بالأكثر[3].

 



[1]  د/ ج. ب. مورلاند، دكتور في الفلسفه من جامعة كاليفورنيا الجنوبيه  واللاهوت من معهد دالاس وقد أصدر اكثر من 12 كتاباً في قضايا لاهوتيه مختلفه.. عن كتاب القضيه الايمان. لي استروبل. ترجمة حنا يوسف، إصدار مكتبة دار الكلمه.  ص 223.

[2] The faith of the early fathers , vol II . p 106

[3] Homilies on St. John, 68: 2 – 3.

هل الله يتغير ويندم؟

 


لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ فَأَنْتُمْ يَا بَنِي يَعْقُوبَ لَمْ تَفْنُوا. (ملا 3: 6)، 

أَنَا الرَّبَّ تَكَلَّمْتُ. يَأْتِي فَأَفْعَلُهُ. لاَ أُطْلِقُ وَلاَ أُشْفِقُ وَلاَ أَنْدَمُ. حَسَبَ طُرُقِكِ وَحَسَبَ أَعْمَالِكِ يَحْكُمُونَ عَلَيْكِ, يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ».(حز24: 14)، 

ليْسَ اللهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَل يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلمُ وَلا يَفِي؟ (عد23: 19).

 

فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. (تك6: 6)، 

رَأَى اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيئَةِ نَدِمَ اللَّهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أَنْ يَصْنَعَهُ بِهِمْ فَلَمْ يَصْنَعْهُ. (يو3: 10)، 

وَلَمْ يَخْرُجْ إِشَعْيَاءُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْوُسْطَى حَتَّى كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَيْهِ: 5«ارْجِعْ وَقُلْ لِحَزَقِيَّا رَئِيسِ شَعْبِي: هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ دَاوُدَ أَبِيكَ: قَدْ سَمِعْتُ صَلاَتَكَ. قَدْ رَأَيْتُ دُمُوعَكَ. هَئَنَذَا أَشْفِيكَ. فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ تَصْعَدُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ. 6وَأَزِيدُ عَلَى أَيَّامِكَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَأُنْقِذُكَ مِنْ يَدِ مَلِكِ أَشُّورَ مَعَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَأُحَامِي عَنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَجْلِ نَفْسِي وَمِنْ أَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِي». (2مل20: 4- 6).

 

فهل الله يتغير ام لا؟

 

القول «ندم الرب» أو «حزن» معناه الشفقة والرقة والرحمة عند الرب. فلو أن أباً محباً أدّب ابنه لأنه خالفه، ثم رأى ألم ابنه بسبب التأديب، فإنه يتوجَّع لوجعه ويتألم لألمه ويتأسف ويحزن ويندم، مع أن الأب عمل الواجب في تقويم ابنه وتأديبه وخيره. إنما أسفه وندمه وحزنه كله ناشئ من الشفقة والرحمة. ولا يجوز أن نقول في مثل هذا المقام إن أباه رحمه أو أشفق عليه، بل نقول إن أباه ندم، بمعنى الرحمة والشفقة. فعلى هذا القياس يُقال إن الله ندم، بمعنى أنه أعلن شفقته ورحمته وجوده وكرمه، وكأنك تقول: «رحمهم بعد عقابه لهم». أو تقول: «ندم بعد العقاب والعذاب» دلالة على رحمته. والدليل على ذلك أن النبي داود قال: «وندم حسب كثرة رحمته».

وإستعمال مثل هذه الألفاظ البشرية في جانب الله جائز، ليقرّب لعقولنا الأمور المعنوية، فإنه لا يخاطبنا بلغة الملائكة بل بلغتنا واصطلاحاتنا لندرك حقائق الأمور. وعلى هذا فهو يقول لنا إن الله ندم، بمعنى أنه غيَّر قضاءه بسبب تغيير الشروط التي سبق ووضعها. ولو أن هذا الندم يختلف عن ندم الإنسان، فالإنسان يندم بسبب عدم معرفته لما سيحدث. وهذا لا ينطبق على الله، الذي ليس عنده ماضٍ ولا مستقبل، بل الكل عنده حاضر.

وعندما نقول إن الله يحب ويكره ويتحسّر ويندم، لا نقصد أن له حواس مثل حواسنا، إنما نقصد أنها مواقف لله إزاء ما يفعله البشر[1].

ويقول القديس أغسطينوس: غير المتغير (الله) يغير الأشياء وهو لا يتأسف كالإنسان علي أي شيء عمله، لأن قراره في كل شيء ثابت ومعرفته للمستقبل أكيدة، لكنه لو لم يستخدم مثل هذه التعبيرات لما أمكن إدراكه بواسطة عقول الناس المحتاجين أن يحدثهم بطريقة مألوفة لهم (بلغة تناسبهم) لأجل نفعهم، حتى ينذر المتكبر ويوقظ المستهتر ويدرب الفضولي ويرضي الإنسان المتعقل. فما كان يمكن أن يتحقق هذا إن لم ينحنِ أولاً وينزل إليهم إلي حيث هم (يحدثهم بلغتهم) وبإعلانه موت كل حيوانات الأرض والجو المحيط ليكشف عن عظم الكارثة التي كادت تقترب؛ فهو لا يهدد بإبادة الحيوانات غير العاقلة كما لو كانت قد ارتكبت خطية[2].  ويكتب الاب تادرس يعقوب: قديمًا تعثر البعض من تعبير الكتاب "ندم الرب" فهل يُغير الله رأيه؟ يستخدم الله التعبير البشري لتقريب المعنى إلينا، فالله لا يندم بمعنى تغيير رأيه، إنما الإنسان هو الذي يُغير وضعه بالنسبة لله فيصير الحكم بالنسبة له مختلفًا. فعندما يُعاند الإنسان يسقط تحت التأديب، وإذ يرتد عن شره ويرجع إلى الله يجده فاتحًا أحضانه له. هذا ما ندعوه ندمًا! الله حينما يصدر حكمه بالتأديب لا يصر على التنفيذ إنما يصدر الحكم لكي يرجع الإنسان عن شره فيعفى عنه[3]. ويقول الاب انطونيوس فكري: ندم الله هو تعبير بحسب مفهوم البشر معناه : ليس أن الله يغير رأيه ويندم بل أن الإنسان هو الذي يغير وضعه بالنسبة لله فيصير الحكم بالنسبة له مختلفاً. فعندما يعاند الإنسان يسقط تحت التأديب، وإذ يرتد عن شره ويرجع إلى الله، يجد الله فاتحاً أحضانه[4].

 



[1] شبهات وهمية، علي تك 6: 6

[2] City of God 15: 25.

[3]  من تفاسير وتأملات الاباء الاولين، سفر يونان 3: 10

 [4] تفسير سفر يونان3: 10

هل يمكن سماع الله ورؤيته؟

 


يُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهاً لِوَجْهٍ كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ. (خر 33: 11)،

 ثُمَّ صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونُ وَنَادَابُ وَأَبِيهُو وَسَبْعُونَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ 10وَرَأُوا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهُ صَنْعَةٍ مِنَ الْعَقِيقِ الأَزْرَقِ الشَّفَّافِ وَكَذَاتِ السَّمَاءِ فِي النَّقَاوَةِ. 11وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَرَأُوا اللهَ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا. (خر 24: 9- 11)، 

فَنَادَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». 10فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ». (تك 3: 9- 10)، 

دَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ وَنُجِّيَتْ نَفْسِي». (تك 32: 30)، 

رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلَأُ الْهَيْكَلَ. (أش 6: 1).


النصوص السابقة تُخبرنا أن الله يُمكن رؤيته وسماعه، بينما هناك نصوص أُخري تؤكد أن الله لا يُمكن رؤيته، مثل: ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي. وَأَمَّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى». (خر 33: 23)، وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي لأَنَّ الْإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ». (خر 33: 20)، وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ. (يو 5: 37)، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ. (1تي 6: 16)، اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. (يو 1: 18).

 

تساءل الأب توما الإكويني[1]: هل يمكن للخلائق العاقلة أن ترى الله في الجوهر؟ بدأ إجابته بالاعتراض، مقتبسًا نصين، أحدهما للقديس يوحنا الذهبي الفم[2] حيث يقول فيه إنه لا يقدر أحد أن يرى الله. لا يراه الملائكة ولا كل الطغمات السمائية، ولا الأنبياء؛ لأنه كيف يُمكن للطبيعة المخلوقة أن ترى الطبيعة غير المخلوقة؟ والنص الثاني الذي اعتمد عليه الأب توما الأكويني مقتبس من ديوناسيوس الأريوباغي: ]لا يمكن أن يُعرَفَ بواسطة الحواس، ولا في صورة، ولا بواسطة فكره، ولا بالفعل، ولا بالمعرفة[3].[

وقد قيل إنه لا يقدر أحد أن يرى الله ويعيش (خر 33: 20-23؛ قض 6: 22؛ 13: 22؛ إش 6: 5؛ 1 مل 9: 13).

وقيل عن الله إنه يسكن في ظلمة (مز 18: 11)، وإنه يسكن في السحاب (مز 97: 2)، حيث يُعبِّر السحاب عن طبيعة الله غير المُدْرَكة. وقد أكد العهد الجديد نفس الفكرة (1 تي 6: 16؛ 1 يو 4: 12؛ يو 1: 18؛ 6: 46؛ مت 11: 27؛ لو 10: 22).

 

فماذا إذاً عن رؤية موسي وشيوخ إسرائيل ويعقوب وأشعياء ودانيال وحزقيال وغيرهم؟

 

يجب أن نعرف أن بعض هذه المُشاهدات هي مجرد رؤي، مثل حالة  اشعياء ودانيال فقد اختبروا رؤي إلهية وليس واقع مادي، ويعقوب ومنوح وزوجته أختبروا ظهور مسياني أو ظهور إلهي (ثيؤفانيا- theophany) مما يعني ان الله يمكن ان يظهر من خلال هيئة مرئية[4] لأجل إيصال رسالة مُعينة أو لتحقيق غرض مهم كما فعل مع شيوخ إسرائيل إذ تُحَّتم أن يُريُهم ذاته، ولكن ليس في جوهره الإلهي بل في شئ مرئي يتخذه من خليقته حتي تستطيع الطبيعة البشرية ان تقبله وتتفهمه (عدد 12: 8)، (1كورنثوس 13: 12)، (تث 4: 12، 15)، فالجوهر الإلهي غير مُدرك ولا يُمكن لأعين الجسد أن تراه. ويعلق القس منيس عبد النور قائلاً: عندما يراه الناس بهذه الكيفيات يكونون صادقين أنهم قد رأوا الله، مع أنهم لم يروا هذا الروح المبارك الكامل في علمه وحكمته، غير أنهم رأوه بهيئة خاصة، أو في صورة اتخذها لنفسه وقتياً. ولنضرب مثلاً: إذا رأينا شرارة تتطاير من سلك كهربائي، أو إذا شهدنا البرق عند المطر نقول: قد رأينا الكهرباء، مع أننا في الواقع لا يمكن أن نرى الكهرباء، بل كل ما رأيناه هو علامة تثبت وجود هذه القوة السرية المحيطة بنا. فبمعنى كهذا يرى المؤمنون الله كلما تنازل بإعلان نفسه في هيئة منظورة. ولكنه لا يمكن أن يُرى في جوهره غير المحدود بصفته روحاً[5].

 

ويقول العالم نورمان جيسلر: من الواضح ان ما رآه هؤلاء لم يكن جوهر الله، لكن صورة مرئية تُمثل مجد الله[6].

ويكتب يوسابيوس القيصري: لو فهموا (النقاد) هذه النصوص بناء علي أن الله الكلمة قد ترآي للأباء بأنواع وطرق كثيرة (عب 1: 1) لما وجدوا أي تناقض[7]. وذلك لأن هذا يعني أن الله أستخدم أساليب كثيرة وطرق متنوعة لكي يُظهر ذاته للأباء، ولكن ليس كما هو في مجده، بل في صورة أحدي مخلوقاته.

ويكتب ثيؤدوريت أسقف قورش: نقول أنهم رآوا، ليس الطبيعة الإلهية، بل رؤي مُحددة تتناسب علي قدر طاقتهم البشرية[8]

ويري القديس اغسطينوس أن هذه كانت مجرد ظهورات رؤيوية للإشارة لطبيعة الله الغير منظور[9].

 

فكما أوضحنا أن هذه كانت مُجرد رؤي، فالله روح، ولا يقدر الجسد على معاينته، لذا تجسد الابن ليهبنا الميلاد الجديد الروحي، فنرى ذاك الذي لا يُرَى (عب ١١: ٢٧)، ونحيا به. هو وحده يفتح الختوم (رؤ ٥: ٩) لنتعرف على أسرار الله[10]. 

 



[1] Summa contra Gentiles, Book 1, Question 12.

[2] In Joan. hom 15.

[3] De divinis nominibus, ch. 15.

[4] Hard sayings of the Bible, p. 155.

[5]  شبهات وهمية حول الكتاب المُقدس، تك 32 ص 65

[6] When critics ask. P, 83.

[7] Proof of the Gospel 5.18.3.

[8] Dialogue 1.

[9] The Trinity 2.15.25.

[10] الاب تادرس يعقوب ملطي، رؤية الله عند اباء الكنيسة، ص 10.