مع وصولنا الى نهاية القرن العشرين، لم يزل من الصعب
الكلام عن الثالوث بشكل علمي ويبقى الكلام اليقين والصحيح في هذا الموضوع حكراً
على الذين يسكنهم الروح القدس بشكل حي وفاعل. فمع أن صياغات هذه العقيدة الأساسية
في المسيحية لم تتضح تعابيرها إلا أواخر القرن الرابع وذلك لضحد البدع التي مست
الأقنومين الثاني والثالث، إلا أن هذا لا يعني أن
كنيسة القرون الأولى لم تكن تملك الإيمان الصحيح وخاصةً هذه العقيدة
الثالوثية التي يؤكد الآباء أن الإشارات اليها موجودة حتى في العهد القديم وإن لم
يفهمها أهله في حينه.
في هذه الدراسة
سوف نعرض أهم الآراء الآبائية عن الثالوث في فترة القرون الأولى أي تحديداً حتى
نهاية القرن الثالث. فكنيسة القرون الأولى تسلمت من الرسل ما تسلموه هم أنفسهم من
الرب يسوع الذي أشار في أكثر من محطة الى ثالوثية الله. وقد حفظت هذه الكنيسة هذا
التعليم ونقلته بأمانة إلى أن أتت المجامع اللاحقة وأوضحته وثبتته كعقيدة. ويظهر
التزام هذه الكنيسة في عدة أمور أهمها: الليتورجيا وتعليم الآباء القديسين.
الليتورجيا
يصف
يوستينوس الشهيد الليتورجيا الأفخارستيا التي تقام بوجود المعتمد الجديد مع الإخوة
بأنها تبدأ بصلوات حارة من أجل الجميع في كل مكان لكي يحصلوا على النعمة فيعملوا
الصالحات ويحفظوا الوصايا فيصلوا الى الخلاص الأبدي. وبعد هذا يتبادلون قبلة السلام ثم يأخذ المتقدم خبزاً
وخمراً ويمجد الآب من خلال اسم الإبن والروح القدس[1].
ونجد، بعد هذا التاريخ بقليل، لدى القديس ايريناوس في
سياق ايضاح التعليم الرسولي، وصفاً لليتورجيا العماد: "عندما نتجدد
بالمعمودية المعطاة لنا باسم الأشخاص الثلاثة، نقتني في هذه الولادة الثانية
الأشياء الحسنة التي في الله الآب من خلال ابنه مع الروح القدس. لأن الذين يعتمدون
يحصلون على روح الله الذي يسلمهم للكلمة الذي يأخذهم ويسلمهم الى أبيه والآب ينقل
لهم عدم البلى. إذاً بدون الروح، لا يستطيع أحد أن يرى كلمة الله. وبدون الإبن لا
يستطيع أحد أن يصل الى الآب لأن معرفة الآب هي الإبن ومعرفة ابن الله تكون بالروح
القدس... ولكن الإبن وحده هو من يوزع الروح بحسب ما يرضي الآب..."[2].
أيضاً نجد
في عدد من إعلانات الإيمان، التي تعود الى القرون الأولى، اعترافات بالآب والابن
والروح القدس. أقدمها ما يسمى برسالة الرسل The Epistle of the Apostles وهي من الأدب الأبوكريفي وكُتبت حوالي العام 180، وقد جاء فيها ما
يلي:
اؤمن
بالآب الكلي القدرة
بيسوع
المسيح مخلصنا
وبالروح القدس المعزي
بالكنيسة المقدسة، بمغفرة الخطايا.
أيضاً وُجد نص مماثل على اوراق بردي مصرية
تعود الى أواخر القرن الثاني، مما يدل على أن الإعتراف الثالوثي كان منتشراً في
أنحاء العالم الروماني[3].
وأيضاً
يمكننا أن نقرأ توصيات في تعليم الرسل الإثني عشر تشدد على أن يكون التعميد باسم
الآب والابن والروح القدس[4].
وفي السياق
نفسه، النص الذي يورده هيبوليتوس عن ممارسة سر المعمودية:
"وعندما ينزل الطالب الى الماء يضع المعمد يده عليه ويقول: هل تؤمن
بالله الآب الفائق القدرة؟ فيجيب طالب المعمودية: اني اؤمن. فيعمده المعمد مرة. ثم
يقول له: وهل تؤمن بالمسيح يسوع ابن الله الذي ولد من الروح القدس ومن مريم
العذراء الذي صلب في عهد بيلاطس البنطي ومات وقبر وقام في اليوم الثالث من بين
الأموات وصعد الى السماء وجلس عن يمين الآب وانه سيأتي ليدين الأحياء والأموات؟
ولما يقول اني اؤمن يعمده مرة ثانية. ثم يقول له وهل تؤمن بالروح القدس وبالكنيسة
المقدسة وبقيامة الجسد؟ فيقول المعمد اني اؤمن فيعمده المعمد مرة ثالثة. وبعد
خروجه من الماء يمسحه الكاهن بزيت الشكر قائلاً: اني أمسحك بالزيت المقدس باسم
يسوع المسيح فيخرج عندئذ المعمدون من الماء وينشفون اجسادهم بالمناشف ويلبسون ثيابهم
ويجتمعون في الكنيسة"[5].
تعليم الآباء القديسين
إضافة الى
النصوص الليتورجية التي رأينا فيها دلائل على أن إيمان كنيسة القرون الأولى
الثالوثي بلغ الممارسة، هناك كتابات عديدة لآباء وكتاب كنسيين من القرون الثلاثة
الأولى توضح أكثر مفهوم كنيسة تلك القرون لهذه العقيدة الأساسية.
نبدأ
بالقديس اقليمس أسقف رومية في رسالته الى أهل كورنثوس التي يرد الدارسون تاريخها
الى اواخر القرن الأول، حيث نقرأ:
"الرسل بشرونا بيسوع المسيح ارسله الله. المسيح من
الله والرسل من المسيح... والرسل... تأكدوا من كلام الرب بالروح القدس.... وأقاموا
مختاري الروح القدس.."[6].
أيضاً في مكان آخر من الرسالة نفسها، نرى أن القديس
يعتبر أن إيمان ورجاء المختارين هو في حياة الأقانيم الثلاثة، دون أن يسميها
أقانيم:
"اقبلوا نصيحتنا فلن تندموا. حي هو الله، حي هو
يسوع المسيح وحي هو الروح القدس وحي هو إيمان ورجاء المختارين"[7].
وفي الرسالة نفسها، يرى القديس في وحدانية الثالوث دعوة
الى وحدة المؤمنين:
"أليس لنا إله واحد ومسيح واحد وروح نعمة واحد
انسكب علينا؟ ودعوة واحدة في المسيح؟ لماذا نمزق ونقطع أعضاء المسيح؟"[8]
وبعد هذا
التاريخ بقليل نقرأ لدى القديس أغناطيوس المتوشح بالله كلاماً أوضح عن الثالوث
للتعبير عن اكتمال الوحدة بين المؤمنين مشبهاً إياها بالوحدة بين الأقانيم، وذلك
في رسالته الى أهل مغنيسية:
"حاولوا أن تثبتوا في عقائد الرب والرسل حتى تنجحوا
في أفعالكم، في الجسد والروح في الإيمان والمحبة. في الآب والابن والروح القدس، في
البدء والنهاية بالاتفاق مع اسقفكم الجليل... اطيعوا اسقفكم وبعضكم بعضاً كما أطاع
المسيح بالجسد الآب، وكما أطاع الرسل المسيح والآب والروح القدس حتى تكون الوحدة
جسدية وروحية"[9].
وفي عدة
أماكن أخرى يساوي القديس أغناطيوس بين الآب والابن، فالحياة هي في الله وفي
المسيح، والمسيحي يسعى للوصول الى الله والى المسيح، والمسيحيون هم هياكل الله
وهياكل المسيح. ففي رسالته الى بوليكربوس يساوي بينهما:
"كن عظيماً أكثر مما أنت واعرف الأوقات معرفة جيدة.
ترجى من هو فوق الزمان، ترجى من لا زمان له، الغير المنظور، الذي صار منظوراً
لأجلنا، الذي لا يُلامس والذي لا يتألم وتألم من أجلنا واحتمل كل شيء"[10].
ثم نجده
يميز بينهما في رسالته الى أهل أفسس:
"لا يوجد غير طبيب واحد، طبيب جسدي وروحي، مولود
وغير مولود، اله متجسد وفي الموت حياة حقيقية. ولد من العذراء ومن الله، قابلاً
للآلام قبلاً وغير متألم الآن، يسوع المسيح ربنا"[11].
وأيضاً
المتوشح بالله يعلم أهل مغنيسية ان الابن هو كلمة الله الذي أظهر الله نفسه
فيه[12]، وقد تجسد وأتى الينا ليكلمنا لأنه "الفم الذي لا يعرف الكذب والذي
تكلم به الآب حقاً"[13]. وهو إذ يريد أن يدعم رأيه يؤكد أن ما يكشف له وينير
أفكاره ليس حكمته الشخصية بل الروح القدس الذي يطلب الوحدة:
"إذا كان البعض يشكون بي لأني أرى مسبقاً شقاقات
البعض فأني أشهد لله لا اللحم لم يكشف لي ذلك. ان الروح يقول لا تفعلوا شيئاً بدون
الأسقف واحتفظوا بأجسادكم كهياكل لله، وأحبوا الوحدة..."[14]
وفي قصة
استشهاد القديس بوليكربوس، والتي يُعزى تاريخها الى الربع الأول من القرن الثاني،
نقرأ صلاة القديس قبل استشهاده:
"أيها الرب الكلي القدرة ابو ابنك المبارك المحبوب
يسوع المسيح... أباركك لأنك أهلتني في هذا اليوم وفي هذه الساعة لأكون من عداد
شهدائك ومن مساهمي كأس مسيحك لقيامة الروح والجسد في الحياة الأبدية بدون فساد، في
الروح القدس... وامجدك بالكاهن الأعظم السماوي الخالد يسوع المسيح ابنك الحبيب
الذي به المجد مع روحك المقدس الى الأبد آمين"[15].
فهكذا نقرأ
وضوح الفكرة بأن مجد الآب هو في ابنه وروحه. أما في نهاية القصة فنقرأ أن المجد
مقدم للآب والابن والروح القدس معاً.
ولكن لا
اقليمس ولا أغناطيوس ولا أي من الكتاب الآخرين الذين كتبوا في تلك الفترة، قارب
السؤال الذي أصبح لاحقاً مدار الجدل وهو علاقة الإبن والروح بالآب[16].
فهرماس
الذي لا تعتبر كتاباته قانونية، يخلط بين الابن والروح، فيرى أن هناك شخصان لا ثلاثة:
"جاء ملاك التوبة وقال لي: أريد أن أريك كل ما اراك
الروح القدس الذي خاطبك تحت شكل الكنيسة. هذا الروح هو ابن الله"[17].
وفي مكان
آخر نرى أنه يلمح الى أن المخلص هو ابن الله بالتبني لأنه خدم الروح بأمانة وذلك
بناء على مفهومه السابق الذي يرى أن الروح والإبن واحد[18].
ومع نهاية
القرن الثاني، كانت علاقة الإبن والروح بالآب قد بدأت تطرح خاصة ان أتباع سيمون
الساحر كانوا كثراً في السامرة وكانت لهم نظرة ثالوثية ذات أصل غنوسي. ومن السامرة
انتقلت تلك الفكرة الى أماكن أخرى من الدولة الرومانية كان يتواجد فيها المسيحيون.
يذكر القديس يوستينوس الشهيد الذي كان من نابلس أن أكثر السامريين مع آخرين من
الأمم الأخرى كانوا يرون في سيمون الساحر إلهاً أعلى. وفي نهاية القرن الثاني يخبر
القديس ايريناوس عن محاولات الغنوسيين للتكيف مع العقيدة الثالوثية بقولهم بأن
سيمون نزل بين اليهود بهيئة الإبن وبين السامريين بهيئة الآب وبين الأمم الأخرى
بهيئة الروح القدس[19].
أيضاً في
تلك الفترة، كانت قد بدأت تُطرح تساؤلات حول ألوهة الروح بالإبن والآب. وقد نشأت
فكرتان: الأولى تقول أن الروح الإلهي أضيف الى يسوع الإنسان والثانية تقول أن
التجسد كان صورة يعلن الله نفسه فيها للناس. وقد تبنى الإبيونيون Ebionites المبدأ
الأول وتبنى الدوكيون Docetics المبدأ الثاني ورفضت الكنيسة المبدئين[20]. وقد تولى الآباء
المناضلون الدفاع عن الإيمان الصحيح ضد ادعاءات الغنوسيين واليهود والوثنيين.
أقدم دفاع
مسيحي ضد تهجمات اليهود هو حوار يوستينوس الشهيد مع اليهودي تريفو. وفيه يرى
يوستينوس أن الكلمة الإلهية (بالمعنى الحرفي) هي الواسطة التي علم الله من خلالها
العالم كله، ليس فقط بطاركة العهد القديم بل أيضاً الفلاسفة اليونان. وهو في هذا
أول كاتب استعمل عبارة "الكلمة" للدلالة على معنييها المستعملين الواحد
في الفلسفة والآخر في لغة الوحي. فالله الحقيقي هو "أبو العدالة والحكمة
وجميع الفضائل، وهو لا يظهر للعالم إلا بواسطة وسيط الذي هو الكلمة والأقنوم
الثاني، الذي مع الآب نبجله ونعبده ونكرمه" وهو "الإبن الوحيد لإله
الكون المولود منه كلمة وقوة وبالتالي المولود من العذراء بالجسد كما نقل ذلك
الينا الرسل القديسون". والكلمة هو الطريق الحق الى الله وهو معلم الإنسان.
وفي البدء كان قوة كامنة في الله فانبثق عنه بإرادته قبيل خلق العالم. ثم خلق
الكلمة العالم[21]. والمسيح أعلن عن الروح القدس الذي هو الروح النبوي والذي يعرفه
يوستينوس من خلال إعلان المسيح عنه. وفي وقت يناقش يوستينوس انبثاق الإبن عن الآب
ويشبهه بامتداد لهيب النار[22]، لا يحدد
الروح القدس لاهوتياً ولا يناقش طبيعته لأن عقله لا يدرك جوهر هذا الروح، ولكنه
يؤكد تعليم التقليد بأن الروح هو الذي كشف سابقاً للأنبياء عن المسيح وهو الذي حل
في العذراء فولدت ابنها[23]. ومع هذا فهو أحياناً يدمج بين الابن والروح ولكنه
يعود دائماً الى الكتاب المقدس للدفاع عن التعليم الصحيح.
أما
ثيوفيلوس الأنطاكي، فعقيدته مشابهة لعقيدة يوستينوس ولكن مع اختيار أكثر دقة في
التعابير. وهو أول من استعمل كلمة ثالوث Triav"[24].
أثيناغوراس
الأثيني كتب عن الثالوث في النصف الثاني من القرن الثاني بطريقة أوضح من طريقة
يوستينوس وقد اعتبر أن الابن هو من نتاج الآب وان الله احتواه منذ البدء، أما الروح
القدس الذي يتكلم في الأنبياء فهو فيض من الله يشع عنه ويعود اليه كشعاع
الشمس[25].
ايريناوس
أسقف ليون لم يبحث في علاقة الأقانيم الثلاثة، إلا أنه كان واثقاً من وجودهم قبل
الدهور ولا سيما قبل الخلق لأن العبارة "فلنصنع الإنسان على صورتنا
ومثالنا" كانت قد وجهت من الآب الى الابن والروح القدس، "يدي الآب"
على حد تعبير ايريناوس. وهو يؤكد ان الإنسان لا يستطيع ان يبين كيفية علاقة الإبن
بالآب إنما الآب والإبن فقط يعلمان ذلك، ومن يحاول وصف هذه العلاقة يكون يحاول وصف
أمور لا توصف[26].
والواقع
أنه كان هناك فرق بين الشرق والغرب من ناحية الاهتمامات. فالشرق اهتم باللاهوت
بينما اهتم الغرب بالتنظيم. وهذا ما يظهر في مقاربة كل من المجموعتين لموضوع
الثالوث[27]. وفي الشرق تقدمت المدرسة الإسكندرية على الأنطاكية خاصة مع وجود
اوريجنس.
نشأت بدعة
المونارخيين التي قال بعض أتباعها أنه ليس في الثالوث سوى مظاهر مختلفة للإله
الواحد. وقد رد اوريجنس على هذه البدعة وعلّم ان هناك إلهين بقدرة واحدة وهو ما
عُبّر عنه في القرن الرابع بأقنومين وجوهر واحد[28]. والثالوث ليس مظاهراً مختلفة
لإله واحد فالإبن انبثق من الآب انبثاق الإرادة من العقل. وكون الله أزلي أبدي،
إذاً هذا الانبثاق أزلي أبدي أيضاً وبالتالي لا بداية للإبن. وعلاقته بالآب هي
الوحدة في الجوهر. وصار اوريجنس يستعمل عبارة omoousio". ولكن
الخطأ الذي يراه الدارس للاهوت اوريجانس هو في اعتباره تدرجاً في الثالوث ويظهر
هذا في تعليقه على يو 28:14 :"أما نحن الذين نصدق المخلص حين قال "ان
الآب الذي ارسلني هو اعظم مني" نعترف ان المخلص والروح القدس اعظم من كل
الأشياء التي صنعت ولكننا نعترف ان الآب اعظم منها بقدر ما هما أعظم من
المخلوقات"[29].
ومن
الكتابات المهمة في إظهار الإيمان بالثالوث هو الإكثيسس ودستور الإيمان الذي أعده
القديس غريغوريوس العجائبي أسقف قيصرية الجديدة وتلميذ اوريجنس:
"يوجد إله واحد ابو الكلمة الحي حكمته المستمرة
وقدرته وصورته الدائمة: والد كامل لمولود كامل وابو الابن الوحيد. ويوجد سيد واحد،
واحد من واحد، اله من اله، صورة الإله ومثاله وكلمته القدير وحكمته واعي جميع
الأمور وخالق كل المخلوقات، ابن حقيقي من أب حقيقي، غير منظور من غير منظور، وغير
فاسد من غير فاسد، حي من حي وخالد من خالد. ويوجد روح قدس واحد مستمد من الله ظاهر
بالابن ليعلم الخليقة، صورة الابن، صورة كاملة لكامل. هو الحياة وسببب وجود
الأحياء. ينبوع مقدس، قداسة تعطي القداسة وتقود اليها. فيه يتجلى الله الآب الذي
هو فوق الجميع وفي الجميع وفيه يتجلى الله الابن الذي في الجميع. ثالوث كامل في
المجد والخلود والسيادة غير منقسم ومنفصل. وهكذا فانه ليس في الثالوث أي شيء مخلوق
و مستعبد وأي شيء مر زمن ولم يكن الابن بحاجة الى الآب والروح الى الابن. والثالوث
باقٍ الى الأبد بدون اختلاف وتغيير"[30].
وقد كتب
غريغوريوس هذا الدستور لحاجة التبشير والتعميد ولهذا فلغته مباشرة وواضحة والكثير
من التعابير هي نفسها تبنتها المجامع التي أقرت العقائد المتعلقة بأقانيم الثالوث
والتي لم نزل نستعملها حتى اليوم.
أما في
الغرب فنقرأ عند هيبوليتوس في وصفه لممارسة سر المعمودية، أن هذا السر أُقيم بحسب
وصية الرب في متى 19:28[31]. تعابير النص الذي يورده أسد رستم في كتابه تشبه الى
حد كبير تعابير قانون الإيمان النيقاوي.
ولكن هذا
ليس كل شيء لدى هيبوليتوس إذ أنه فرّق بين الكلمة الكامن في الله والكلمة الملفوظ
وحكى عن شيء من التدرج في الثالوث[32].
أما
نواتيانوس وهو من الغربيين أيضاَ فقد كتب مؤلفاً كبيراً باللاتينية عرض فيه عقيدة
الثالوث الأقدس دون أن يستعمل اللفظ Trinitas. وقد تلافى استعمال هذا اللفظ لشدة اهتمامه
بوحدة الله. وقد ماشى ثيوفيلوس وايريناوس وهيبوليتوس في نظرتهم التدرجية للثالوث
ورأى أن المسيح كان دائماً خاضعاً لله معتبراً إياه الملاك صاحب المشورة العظمى
والرسول. وكذلك الروح القدس كان أقل من الابن والمؤمنون يتسلمونه من المسيح الذي
تسلّمه عند المعمودية ويولدون به ثانية بالمعمودية. وهذا الروح هو الذي عمل في
الأنبياء بصورة مؤقتة وهو يعمل بالرسل بشكل دائم وهو يحفظ الكنيسة[33].
أيضاً من
الغربيين الذين لمعوا في أفريقيا هو ترتليانوس. فقد قال بأن العقيدة هي دستور
وشريعة مفادها الإيمان بإله واحد كلي القدرة خالق الكون وبابنه يسوع المسيح
المولود من العذراء الذي صلب في عهد بيلاطس البنطي وقام في اليوم الثالث وقُبل في
السماء جالساً عن يمين الآب والذي سيأتي ليدين الأحياء والأموات بقيامة الجسد.
وبعد جلوس الابن عن يمين الآب أرسل الروح القدس ليقود المؤمنين. وقد كان ترتليانوس
سبّاقاً بين الغربيين في استعمال عبارة الثالوث باللاتينية Trinitas وقد عبّر
بوضوح عن الثالوث إذ قال بأن الابن هو من جوهر الآب والروح القدس هو من الآب
بالإبن. وقد استعمل كلمة Personna للدلالة على الأقنوم وذلك للتمييز وليس للتفريق. انتقد اليهود في
اعتبارهم ان الله كان يحدث الملائكة في قوله "لنصنع الإنسان على صورتنا
ومثالنا"، إذ انه اعتبر أن هذه الآية هي اشارة الى ثالوثية الله منذ الأزل.
ومع كل هذا فقد تكلّم عن التدرج في الثالوث واعتبر أن الله هو الجوهر كاملاً أما
الابن فهو انبثاق من الكل[34].
لكتنتيوس
من الغربيين أنكر وجود الروح القدس كأقنوم ثالث وربطه تارةً بالآب وتارةً
بالابن[35].
خاتمة
ختاماً
للبحث يمكننا القول بأن كنيسة القرون الأولى حفظت الإيمان الذي تسلمته وتمكنت من
تسليمه، بالرغم من كل الأخطاء التي عرضناها والتي نستطيع أن نراها ليس كأخطاء بل
كقصور عن بلوغ الى المعرفة التي توصل اليها الآباء الذين صاغوا هذه العقيدة لاحقاً
في المجامع. أسباب هذا القصور متعددة أهمها أن المشكلات التي تتعلق بأقنومي الابن
والروح القدس لم تكن قد طرحت بعد بنفس الحدة التي استدعت انعقاد المجامع. وما
التطور الذي تم بين نشوء الكنيسة والقرن الرابع، اي انعقاد المجامع المسكونية التي
فيها تم التعبير عن هذه العقيدة بالشكل الذي لم يزل معمولاً به حتى اليوم، إلا
تطور بالشكل والتعبير وليس بالمضمون والخبرة. فالروح القدس هو نفسه العامل في كل
الآباء في كل الأزمنة والخبرة الإلهية التي تتمحور حولها الحياة المسيحية في كل
الأوقات هي نفسها.
________________________________________
[1] Leberton، Jules and Zeiller، Jacques. The Emergence of the Church in
the Roman World. Book II of A History of the Early Church. Collier Books. New
York. 1962. P. 164.
[2]
المرجع نفسه، ص. 168.
[3]
المرجع نفسه، ص. 172.
[4] رستم،
أسد. آباء الكنيسة. القرون الثلاثة الأولى. منشورات النور. 1983. ص. 60.
[5]
المرجع نفسه، ص. 177.
[6]
الآباء الرسوليون. طبعة ثانية. عربه عن اليونانية المثلث الرحمات البطريرك
الياس الرابع (معوض). منشورات النور. 1982. ص. 42.
[7]
المرجع نفسه. ص. 50
[8]
المرجع نفسه. ص. 44.
[9]
المرجع نفسه. ص. 118-119
[10]
المرجع نفسه. ص. 139.
[11]
المرجع نفسه. ص. 110.
[12]
المرجع نفسه. ص. 117.
[13]
المرجع نفسه. الرسالة الى أهل رومية. ص. 127.
[14]
المرجع نفسه. الرسالة الى فيلادلفيا. ص. 131.
[15]
المرجع نفسه. ص. 161-162.
[16] Dictionnaire de Spiritualité. Vol.، p. 296.
[17]
الآباء الرسوليون. ص. 235.
[18]
المرجع نفغسه. ص. 221.
[19] Leberton. ص. 48.
[20] Jackson، F.J. Foakes. The History of the Christian Church From the earliest times
to AD 461. George Allen and Unwin LTD. London. 1957. P. 156.
[21]
رستم. ص. 81.
[22]
المرجع نفسه. ص. 81.
[23] رحمه،
الأب جورج. يوستينوس الروماني وأثيناغوراس الأثيني. موسوعة عظماء المسيحية في
التاريخ - 3. منشورات المركز الرعوي للأبحاث والدراسات. 1992. ص. 67-87.
[24] Jackson. ص. 161.
إنظر أيضاً رستم. ص. 96.
[25] رستم.
ص. 92-93.
[26]
المرجع نفسه. ص. 111.
[27] Jackson. ص. 167.
[28] رستم.
ص. 140.
[29]
المرجع نفسه. ص. 143.
[30]
المرجع نفسه. ص. 155.
[31] في
مكان سابق من النص.
[32] رستم.
ص. 177-178.
[33]
المرجع نفسه. ص. 182-183.
[34]
المرجع نفسه. ص. 190-191.
[35]
المرجع نفسه. ص. 204