السبت، 14 سبتمبر 2024

الآباء المدافعون الأوائل

 


الدفاعيَّات في الكنيسة الأولى[1]

 

إنَّ تاريخ الدفاعيات هو الموضوع الذي يجب أن ندرسه في مسارنا عبر التاريخ الداخلي للكنيسة المسيحية. وبينما نواصل، سنجد أننا نفحص عمل العقل المسيحي في سعيه إلى التوفيق بين الوحي والعقل. وبالتالي فإنَّ تاريخ الدفاع عن المسيحيّة هو أحد أفضل المصادر التي يُمكن من خلالها استنباط فلسفة حقيقيّة للمسيحيّة. وبينما نمر عبر هذا الفرع من التاريخ العقائدي، سنلاحظ أنّ العقل المُتشكِّك يطرح نفس الاعتراضات تقريبًا، من عصر إلى عصر، وأنّ نفس الإجابات تقريبًا تُقدَّم. ولعلنا لا نلاحظ في أي جزء من تاريخ الكنيسة مثل هذا التأكيد المذهل للمثل القائل بأن الإنسان هو نفس الكائن في كل عصر، كما هو الحال في تاريخ الدفاعيات. فالخيانة هي نفس الشيء مرارًا وتكرارًا؛ إنها تظهر من جديد في أشكال جديدة، وهذا صحيح، بحيث تبدو للوقت والكنيسة التي تظهر فيها وكأنّها شيء جديد تحت الشمس، ومع ذلك تظلّ متطابقة مع نفسها، وتطلق نفس التصريحات، وتثير نفس الردود.

وفي الوقت نفسه، يكشف التحقيق في العملية عن حقيقة التنوع في الوحدة. إن الشكوكية في فترة ما ليست مُجرَّد نسخة طبق الأصل من فترة سابقة. إنها تنشأ من ثقافة غريبة في العصر، وتتخذ لونًا يمكن تمييزها به. في وقت ما تكون خيانة دينية؛ وفي وقت آخر وحدة الوجود، وفي وقت ما تكون الطبيعية المليئة بالحيوية حيث التربة الدافئة التي تضرب جذورها فيها؛ وفي وقت آخر عقلانية باردة وفكرية، ونرى نفس التنوُّع في الدفاعيات. فالمثل يلتقي بالمثل! وكل شكل من أشكال الخطأ يقابله شكل مماثل من الحقيقة، وبالتالي يتدفق التيار العظيم من الجدل والصراع إلى الأمام.

إنّنا إذا بدأنا بفترة الدفاعيات، نجد أنّ هذا العصر الأول من عمر الكنيسة يُطلق عليه بحق "عصر الدفاعيات". وكان العمل العظيم الذي كان على العقل المسيحي أن يقوم به هو صد الهجمات. وكانت المسيحية، طيلة هذه الفترة التي دامت قرنين من الزمان، في موقف دفاعيّ. ونتيجة لهذا، كانت الفرصة المتاحة لبناء النظام الإيجابي لحقيقة الكتاب المقدس أقل، بحيث أصبحت المصالح اللاهوتية للكنيسة في هذا العصر تابعة لجهودها الدفاعيّة، ولم يتلق العلم المسيحيّ سوى ذلك البحث غير المباشر، وإن كان مهمًا، والذي ينطوي عليه مناقشة العلاقات بين العقل والوحي.

كانت الهجمات على المسيحية خلال هذه الفترة تنبع من مصدرين: اليهودية والوثنية. فقد اعتنقت اليهودية عقيدة الوحي الخاص، على غرار المسيحية، وبالتالي كانت الاعتراضات التي أثارتها ذات طابع مختلف عن تلك التي حثت عليها فلسفة وثنية لم تعترف بأي اتصال خاص وخارق للطبيعة من الله. إنَّ الهجمات التي شنّها المعارض اليهوديّ على المسيحية كانت تشير بشكل مستمر ومباشر إلى العهد القديم كما فهمه. فهو لم يهاجم المسيحية، مثل المتشكك الوثني، لأنها ادّعت أنّها وحي إلهي؛ بل لأنّها ادّعت أنّها شكل من أشكال الوحي أكثر نهائية وحسماً من الشكل الأول القديم الذي اعتقد أنّ سلطته صحيحة، والذي افترض أنّه سيقضي عليه بالكامل الدين الجديد. ومن ثمّ فإنَّ المسألة بين المتشكك اليهودي والمدافع المسيحي كانت تتعلق بموضوع العلاقة بين العهد الجديد والعهد القديم. أمَّا المعارض الوثني للمسيحية، من ناحية أخرى، فلم يقبل العهد القديم ولا العهد الجديد باعتبارهما وحياً إلهياً، وكانت الاعتراضات التي حثّ عليها تتعلّق بإمكانية وواقعية أي اتصال خاص من العقل اللانهائي إلى العقل المحدود.

إنَّنا نوجِّه انتباهنا الآن إلى هذين الشكلين العامين من الشكوكيّة، والردود التي قدمها المدافعون المسيحيّون.

 

الأبيونيّة

 

كان أوّل أنواع المعارضة للمسيحيّة، من جهة اليهوديّة، وبالرجوع إلى معنى وسلطة العهد القديم، هو الأبيونيّون.

وإذا حكمنا من خلال التصريحات المتضاربة إلى حد ما للآباء الأوائل، فإنَّ الأبيونيّين كانوا اليهود المسيحيّين المرتدين في القرن الثاني. وكان اليهود المسيحيون في الأصل قد انحدروا في هذا الوقت إلى موقف إنساني فيما يتعلّق بشخص وعمل المسيح وطبيعة المسيحية. فقد رفضوا عقيدة إلوهيّة المسيح، وولادته المعجزيّة، واعتبروه ابن يوسف ومريم.[2] ومع ذلك، فقد اعتبروا يسوع في الوقت نفسه المسيا الموعود به في العهد القديم؛ معتقدين أنه قد تم تخصيصه لعمله بوحي من الروح القدس، في وقت معموديته على يد يوحنا. لقد استخدم إنجيلاً عبرانياً، ضاع الآن، وهو على الأرجح إنجيل متى، مع حذف أجزاء منه تعلمنا عن ميلاده المعجزي وطبيعته الإلهية. أما بقية شريعة العهد الجديد فقد رفضها، وخاصة رسائل بولس، الذي اعتبره مفسداً للمسيحية الحقيقية.

لقد كان الأبيوني يهوديًا زائفًا في كل التفاصيل الأساسية. فباستثناء اعتقاده بأن المسيح ظهر، وأن يسوع هو المسيح، فقد كان يقف في نفس موقف الفريسي الذي عارض المسيح في أيام جسده، ومع اليهودي الذي وجده بولس ألد أعدائه. لم يكن مسيح العهد القديم في نظره كائنًا إلهيًا؛ وكان الختان ومراعاة الطقوس الموسوية ضروريين للخلاص؛ وكان الخلاص بأعمال الناموس.

وبسبب هذا المفهوم للمسيح، وللعهد القديم بشكل عام، لم يستطع الأبيوني أن يرى أي قرابة بين المسيحية واليهودية. بل على العكس من ذلك، لم ير سوى تعارض فلا يمكن التوفيق بين الاثنين؛ بحيث كان أحدهما بمثابة انقراض كامل للآخر، ولم يكن بوسعه، على حد تعبير أوغسطينوس، أن يرى العهد الجديد في العهد القديم، وبطبيعة الحال لم يكن بوسعه أن يرى العهد القديم في العهد الجديد.

إنَّ هذا البيان التمهيدي سوف يُمكِّننا الآن من فهم طبيعة الاعتراضات التي قدمها الإبيونيون ضد إيمان الكنيسة، والتي كانت على النحو التالي:

(1) إنَّ المسيح في العهد الجديد، كما آمنت به الكنيسة،[3] كان مخالفًا لتصوُّرات المسيح الواردة في العهد القديم. ولم تتفق الصور مع هذا. فالشخص الذي صوَّرته الأناجيل الأربعة القانونية لم يكن الشخص الموصوف في الكتب المقدسة اليهودية. وزعم الأبيونيون أنّ المسيح في العهد القديم لم يكن تجسيدًا لشخص إلهيّ، بل كان مُجرَّد رجل مولود ومُلهم بطريقة خارقة للطبيعة.

(2) إنَّ المسيح في الكنيسة الكاثوليكيّة، كما زعم الأبيونيون، كان متناقضًا مع مفهوم العهد القديم عن الله. وزعموا أنّ ألوهية المسيح كانت غير متوافقة مع التوحيد في الكتب المقدسة اليهودية، وكانت نوعًا من عبادة الأصنام والتعددية.

(3) أكّد الأبيونيّ أنّ إلغاء شريعة العهد القديم، أو كما يفضل أن يسميها، إبطالها من قبل المسيحية، يتعارض مع عقيدة الأصل الإلهي للشريعة، والضرورة الثابتة لمراعاتها.

وبما أن هذه الاعتراضات نابعة من فهم معيب وخاطئ للدين اليهودي، فإنَّ العمل الرئيسيّ للمدافع المسيحيّ يتلخّص في نقل وجهات نظر أكثر صحة عن الطبيعة الداخلية والحقيقيّة للعهد القديم، وبالتالي تبرير إنكاره لهذه المواقف التي تبناها الأبيونيون. وبمجرّد رؤية الطابع الروحي لليهودية، كما صوَّره موسى، وخاصّة في المزامير والأنبياء، فإنَّ الانسجام الجوهريّ بينها وبين المسيحية سوف يظهر، وسوف يسقط تأكيد العداء الذي لا يمكن التوفيق بينه بين النظامين على الأرض من تلقاء نفسه. ومن هنا جاء رد المدافع المسيحي على الأبيونيّة على النحو التالي:

(1) كل ما يتعلق بشخص المسيح، كما هو موصوف في الأناجيل القانونيّة، يمكن العثور عليه بشكل أساسيّ في نبوءات العهد القديم وأنماطه المتعلقة بالمسيح. لقد اهتدى المدافع إلى هذا التأكيد المضاد، وسانده في ذلك أقوال ربنا مثل: "ابحثوا في الكتب المقدسة، لأنها تشهد لي. لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني. ولكن إن كنتم لا تصدقون كتاباته فكيف تصدقون كلماتي" (يوحنا 5: 39، 46، 47). كما شجعه على تقديم هذا التأكيد المضاد والدفاع عنه، ذلك المثال الرائع الذي قدمه المسيح، عندما في آخر محادثة له على الأرض مع تلاميذه، "ابتدأ من موسى وجميع الأنبياء، فشرح لهم، في جميع الكتب المقدسة [العبرية]، الأمور المتعلقة به" (لوقا 24: 27).

وكانت النتيجة أنّ المدافع المسيحيّ عارض في المقام الأوَّل خصمه الإبيوني فيما يتصل بالحقيقة المزعومة ذاتها، وهِيَ التناقض بين مسيح العهد القديم ومسيح الأناجيل. وقد استند في دفاعه مباشرة إلى الكتابات اليهوديّة، وخاصّة إلى النبوءات الواردة في إشعياء فيما يتصل بالميلاد المعجزي، والشخصية السامية للمسيح الموعود. ولأن ألوهية المسيح ثبتت من هذا المصدر، فقد عمل المدافع على التوفيق بينه وبين التوحيد من خلال عقيدة الثالوث، وإن كان لم يبذل سوى محاولات قليلة لبناء هذه العقيدة.

(2) كان الرد الثاني الإضافي على الأبيونيّة هو أنّ العهد القديم نفسه يعلم ويتوقّع أن تحل المسيحيّة محل اليهوديّة في المستقبل، ولكن ليس عن طريق إبادة ما كان مُقدّسًا وروحيًا في اليهوديّة، ولكن عن طريق الكشف عن كلّ هذا بشكل أكثر اكتمالاً، وإلغاء ما كان قانونيًا وطقسيًا ومحليًا فيه فقط. الوعد بأنّ جميع أمم الأرض ستُبارك في نسل إبراهيم؛ الوصف المتوهِّج والجميل في إشعياء لدعوة الأمم؛ الصلاة من أجل تحويل العالم كله، كما في المزمور 67؛ التأكيد على القلب الرقيق والنادم مقارنة بالتضحية الرسمية والمنافقة؛ وإنَّ تكرار تأكيد المسيح على أنّه لم يأت ليهلك، بل ليكمل الناموس والأنبياء، كل هذا وضع المدافع المسيحي على مسار اكتشاف العلاقة الحقيقية بين العهدين، وأضفى الجديّة والثقة على النبرة التي استخدمها في تقديم التأكيد المضاد. وعلاوة على ذلك، استشهد المدافع المسيحي بالتدمير الرهيب وغير المتوقع لأورشليم، والذي كان حديث العهد في تجربة الأمة اليهوديّة، لإثبات أن كلّ ما هو وطني وخارجي في اليهودية كان مُقدرًا له أن يزول. لقد كان هذا حجة شخصيّة كان لها وزن أكبر حتى من تلك التي تم استخلاصها من مصدر أعمق من النصوص نفسها، وهي أكثر قيمة في كل العصور. إنَّ الهدم الفعليّ للمعبد اليهوديّ وإسقاط العبادة اليهوديّة، وتدمير نقطة مركزيّة حيث يمكن للأمة أن تجمع نفسها وتحافظ على جنسيتها الدينيّة، وتشتتها في كلّ أرجاء السماء، كلّ هذا استشهد به المدافعون عن المسيحيّة في وقت مُبكِّر، كحجج مقنعة لألوهيّة المسيحيّة باعتبارها التاج الحقيقي والاكتمال لليهودية.[4]

 

الرد على الأبيونيّة

 

كان هناك الكثير من التشابه بين الإبيونيين واليهود، لدرجة أنه في غياب الوثائق المتعلقة بالإبيونيين، يمكن رؤية طبيعة اعتراضات الإبيونيين على المسيحية، وردود المدافعين عنها، إلى حد ما من خلال مسار الفكر في جزء من حوار يوستينوس الشهيد مع اليهودي تريفو. فيما يلي التفاصيل:

(1) يزعم تريفو أنّ الشريعة الطقسيّة هي أمر الله، وبالتالي يجب مراعاتها. ويرد يوستينوس بأنّ الشريعة الطقسيّة أعطيت لليهود بسبب قسوة قلوبهم. وكلّ فرائضها، وذبائحها، وسبتها، وحظر أنواع مُعيَّنة من الطعام، كانت تهدف إلى مقاومة الميل المتأصل لدى اليهود إلى الوقوع في عبادة الأصنام. أولئك الذين عاشوا قبل إبراهيم لم يختتنوا، وأولئك الذين عاشوا قبل موسى لم يحفظوا السبت، ولم يقدموا الذبائح، مع أن الله شهد لهم بأنهم أبرار.

(2) يستشهد تريفو بدانيال 7: 9 ليثبت أنّ المسيح كان ليكون شخصية عظيمة ومجيدة؛ في حين أنّ مسيح المسيحيين كان غير مُكرَّم وغير مجيد، وسقط تحت لعنة الناموس الشديدة. وإجابة يوستينوس هي أنّ الكتاب المُقدّس في العهد القديم يتحدث عن مجيئين للمسيح؛ أحدهما في الإذلال، والآخر في المجد، واليهود، الذين أعماهم التحيز، نظروا فقط إلى تلك المقاطع التي تنبأت بالمجد.

(3) يعترض تريفو بأنّ العقيدة المسيحيّة حول وجود المسيح وإلوهيته السابقة على وجوده بالجسد، فهذا يتناقض مع الفكرة اليهودية عن المسيح؛ كما يعترض على أنّ إيليا كان سلف المسيح، ولكن إيليا لم يظهر بعد. ويرد يوستينوس على هذا بالإشارة إلى نبوءة إشعياء (الفصل السابع)، التي تنبأت بميلاد المسيح من عذراء؛ ويؤكِّد أنّ النبوءات المتعلقة بإيليا، فيما يتعلق بمجيء المسيح الأوَّل، قد تحقّقت في يوحنا المعمدان؛ وأنّه قبل مجيء المسيح الثاني، كان إيليا نفسه سيظهر. وعلاوة على ذلك، يزعم يوستينوس أنّ المسيح لابد وأن يكون قد جاء بالفعل، لأنّه بعد يوحنا المعمدان لم يظهر نبي بين اليهود؛ وقد فقدوا استقلالهم الوطني بما يتفق مع نبوءة يعقوب.

(4) يدعو تريفو يوستينوس ليُظهِر أنّه في العهد القديم كان هُناك ذكر دائم لإله آخر، يُسمَّى كذلك بالتحديد، إلى جانب خالق الكون. ويجيب يوستينوس أنّه كُلّما قيل في الكتاب المُقدَّس أنّ الله ظهر للإنسان، فيجب أن نفهم أنّ الظهور كان للابن، وليس للآب؛ كما حدث عندما ظهر الله لإبراهيم عند بلوطة ممرا، وللوط، ويعقوب، ولموسى من العليقة المشتعلة، وليشوع. كما يستشهد يوستينوس بالمزمور 110 والمزمور 45، ليُظهِر أنّ داود يتحدث عن رب وإله آخر، إلى جانب خالق الكون؛ ويستشهد بأمثال 8، وتكوين 1: 26؛ 3: 22، لإثبات وجود المسيح مسبقًا.

(5) يؤكِّد تريفو أنّه على الرغم من أنّ الأمم قد تعترف بيسوع باعتباره الرب والمسيح والإله، إلَّا أنّ اليهود، الذين كانوا يعبدون الإله المُطلق الذي خلقه (المسيح) وكذلك خلقهم (الأمم)، لم يكونوا ملزمين بالاعتراف به أو عبادته. في الإجابة، استشهد يوستينوس بالمزمورين 99 و72، ليُظهِر أنّه حتى بين اليهود، أولئك الذين نالوا الخلاص، نالوه فقط من خلال المسيح.

(6) يؤكد تريفو أنّ روايات العهد الجديد عن ميلاد المسيح لا يمكن مقارنتها إلَّا بالأساطير المُتعلّقة بميلاد برسيوس من داناي Perseus from Danae، ونزول كوكب المشتري تحت وابل من الذهب. سيكون من الأفضل أن نقول على الفور أنّ المسيح كان مُجرَّد رجل، وانتخب لهذا المنصب بسبب امتثاله الدقيق للشريعة الموسويّة، بدلاً من المجازفة بتأكيد لا يُصدَّق، أنّ الله نفسه خضع للولادة، وأن يصبح إنسانًا. في الرد، يقتبس يوستينوس مرة أُخرى إشعياء 53: 8، لإثبات أنّ المسيح لم يكن ليولد بالطريقة العاديّة للبشر؛ وإشعياء 25، لإثبات أنّ المسيح كان سيُحقق شفاءات مُعجزيّة؛ وإشعياء 7، الذي، كما يزعم، لا يمكن أن ينطبق على حزقيا. كما يتهم المُعلمين اليهود بحذف عِدة مقاطع من النسخة السبعينيّة حيث كانت نبوات واضحة عن المسيح.

(7) يقول تريفو أخيرًا:

"إنَّ الأمة اليهوديّة كلّها تنتظر المسيح. وأنا أعترف أيضًا بأنّ المقاطع من الكتاب المُقدّس التي اقتبستها تنطبق عليه؛ واسم يسوع أو يشوع، الذي أُطلق على ابن نون، يجعلني أميل إلى حد ما إلى الرأي القائل بأن يسوعك هو المسيح. علاوة على ذلك، تتنبأ الكتب المقدسة بوضوح بمسيح متألم؛ ولكن أن يعاني الموت على الصليب، فإنَّ موت أولئك الذين أعلنهم الناموس ملعونين يملأني بالحيرة".

يجيب يوستينوس بأنّ اللعنة تنطبق فقط على أولئك الذين صلبوا بسبب تجاوزاتهم الشخصيّة؛ بينما كان المسيح بلا خطيئة، وخضع لهذا الموت المُهين، طاعة لإرادة أبيه، حتّى يتمكّن من إنقاذ الجنس البشريّ من العقوبة المُستحقة لخطاياهم. ثمّ بعد الاستشهاد بـ مز 3: 5، إش 65: 2، وإش 53: 9، باعتباره نبوَّة عن صلب المسيح، يُظهر يوستينوس بالتفصيل أنّ المزمور 22 يصف الإنسانيّة الكاملة للمسيح، ومعاناته، وموته، قيامته.

(8) يسأل تريفو يوستينوس عما إذا كان يعتقد حقًا أنّ أورشليم ستُبنى مُجددًا، وأنّ جميع الأمم وكذلك اليهود والمتعبدين سوف يُجمعون هُناك تحت حكم المسيح. فيجيب يوستينوس بأن هذا الاعتقاد لم يكن عالميًا بين المسيحيين؛ ولكنه هو نفسه كان يعتقد أن الموتى سوف يقومون مرة أخرى بالجسد، ويعيشون لمدة ألف عام في أورشليم، التي سوف يُعاد بناؤها وتجميلها وتوسيعها. ويستند في دعم رأيه إلى إشعياء، ورؤيا يوحنا.

(9) وأخيراً يأتي يوستينوس ليتحدث عن تحوُّل الأمم؛ ويزعم أنّ المسيحيّين هم شعب الله الحقيقيّ، بقدر ما يُحققون المعنى الروحي للناموس، ولا يكتفون بالتوافق مع الحرف، مثل اليهود. إنهم يتمتعون بختان القلب الحقيقيّ؛ وهم السلالة الحقيقيّة من الكهنة، الذين يرمز إليهم يسوع رئيس الكهنة في نبوة زكريا؛ وهم يقدمون الذبائح الروحيّة الحقيقيّة بما يتفق مع نبوة ملاخي؛ وهم النسل الموعود لإبراهيم، لأنهم يتمتعون بإيمان إبراهيم؛ وهم، باختصار، إسرائيل الحقيقيّ.[5]

 

الغنوصيّة

 

إنَّ الشكل الثاني من المعارضة للمسيحيّة، خلال فترة الدفاعيات، والذي كان يشمل أيضاً مثل الإبيونية العلاقة بين العهد الجديد والعهد القديم، كان الغنوصية. وقد أثيرت نفس الأسئلة الأساسيّة في الجدل مع هذا الشكل الخاطيء للتفسير، كما حدث في الصراع مع الإبيونية؛ وفي الواقع كان الرد على الإبيونيين، والذي نتج كما رأينا في العرض الواضح للعلاقة بين اليهوديّة والمسيحيّة، رداً على الغنوصيّين.

إنَّ حدود هذا العمل لا تسمح لنا بطبيعة الحال بتقديم وصف تفصيليّ لهذا النظام الغامض من التكهنات الذي نشأ في القرنين الثاني والثالث، والذي لم يتفوَّق قط في تاريخ الأخطاء البشريّة ببراعة التكهنات والمثابرة المنحرفة للقوة العقليّة. لا يُمكن تحديد سوى الخصائص الأكثر عموميّة.

لقد ادعى الغنوصيون أنهم يمتلكون الفلسفة الحقيقية للمسيحية. وكانوا من فئتين: يهود ومناهضين لليهودية، الأول مثل الأبيونية، اعترف بسلطة العهد القديم، ولكن على عكسه لم يكتف بالتفسير الحرفيّ لتعاليمه. لقد اعترف الغنوصي المتدين بالتمييز الذي تحدث عنه بولس في رسالته إلى الرومان، والذي استخدمه المدافع المسيحي نفسه ضد الأبيونية، أي التمييز بين اليهودي ظاهريًا وباطنيًا. ولكنه أساء فهم هذا التمييز تمامًا. لقد اعتبره نفس التمييز الموجود في جميع الفلسفات الشرقية (التي تشكلت على أساسها أساليبه الفكرية الخاصّة) بين العقل الباطنيّ والعقل الظاهريّ، والمبتدئ وغير المبتدئ، والعقل الفلسفيّ وغير الفلسفيّ. وكانت النتيجة هي إضفاء طابع روحانيّ مفرط على العهد القديم، على نحو يفرغه من كلّ حقائقه العمليّة، وإدخال نظام الفيض، الذي لم يكن يتعارض بشكل مباشر مع عقيدة موسى في خلق العدم والتوحيد الروحي للعهد القديم فحسب، بل كان في الواقع نظامًا من التعددية الإلهية، مما أدى إلى " رَاغِبًا فِي التَّوَاضُعِ وَعِبَادَةِ الْمَلاَئِكَةِ، مُتَدَاخِلًا فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ" الذي حذر منه القديس بولس أهل كولوسي منذ بداية العقد السابع من ميلاد المسيح. كانت هذه الفئة من الغنوصيين اليهود من اليهود في الأصل، الذين حاولوا تطبيق عقائد المذاهب اللاهوتية الشرقية فيما يتصل بعقائد الأفلاطونية الجديدة، على تفسير الكتاب المقدس العبري. ومن هُنا جاء ميلهم، مثل الإبيونيين، إلى الانطلاق من العهد القديم كنقطة بداية.

أمَّا الغنوصيّون المناهضون لليهوديّة فقد كانوا في الأصل فلاسفة أو علماء ثيوصوفيّين وثنيّين، انتقلوا إلى المسيحية الاسمية مباشرة، وليس من خلال اليهودية، ومن ثمّ كانوا يحتقرون العهد القديم بأكمله بازدراء عميق. لقد انتزعوا اليهوديّة من كلّ صلة بالمسيحيّة، واعتبروا أنّ الفهم الفلسفيّ الحقيقيّ للمسيحيّة، أو γνῶσις، يتلخص في إزالة كل ما هو يهوديّ. وكانت النتيجة أنّ هذين العقيدتين اللتين تشكلان حياة المسيحيّة، عقيدتي الخطية والفداء، قد طُردتا من مخطط الغنوصي المناهض لليهودية. وقد نزلتا من العهد القديم، وهما في الواقع جوهر اليهودية. وفي مكانهما، أدرج الغنوصي نظريات سخيفة تتعلق بأصل الكون والشر؛ نظريات تقول بأن الخلق لم يعد مخلوقًا، وأن الخطيئة لم تعد خطيئة.

من الواضح أنّ الغنوصية في شكليها، مثل الإبيونية، كان من الممكن مواجهتها بنجاح كبير والتغلُّب عليها بشكل منتصر من خلال الإعلان الواضح والصريح عن العلاقة الحقيقية بين المسيحية واليهودية. كلّ هذه الأخطاء الثلاثة نشأت من مفهوم خاطئ، وبالتالي لم يكن من الممكن التغلُّب عليها إلَّا من خلال تقديم المفهوم الحقيقيّ. إنَّ الدقة التي استقصاها رجال مثل إيريناوس (202) وترتليان (220) وإكليمندس الإسكندري (212-220) وأوريجانوس (254)[6] في دراسة الكتاب المقدس، من أجل عرض اليهودية والمسيحية في ضوء حقيقي، وفي ارتباطهما المتبادل وتناغمهما، تستحق كل الإعجاب، ففي كل عصر من عصور الكنيسة، يتعرض المرء إلى حد ما لإحياء الغنوصية المعادية للعبرانيّة، وذلك بسبب ميل الرجال إلى رفض العهد القديم أو إهماله على الأقل؛ ويرجع هذا في المقام الأول إلى حيوية تمثيلاته للشخصية الإلهية، والروحانية الشديدة التي يتسم بها مفهومه للخطيئة والكفارة.

 

الوثنيّة

 

وبينما كان المدافعون عن المسيحية في هذه الفترة مدعوين للدفاع عن المسيحية ضد الاعتراضات التي نشأت عن فهم رسمي وغير روحي لليهودية من ناحية، وروحانية زائفة رفضت العهد القديم بالكامل من ناحية أخرى، فقد اضطروا في الوقت نفسه إلى مواجهة ذلك النوع من الكفر الشائع في كل العصور، والذي يرفض الوحي بالكامل، ويزعم أن مبادئ العقل الطبيعي والدين الطبيعي كافية لتلبية الاحتياجات الدينية للبشرية، ويؤكِّد أنَّ النظام المسيحيّ يتناقض معها.

لذلك يتعيَّن علينا أن ننظر في الهجمات والدفاعات في هذه الفترة، بقدر ما يتعلّق الأمر بالمعارضة الوثنية الصرفة للمسيحيّة. هذه الهجمات، على عكس هجمات الإبيونية والغنوصيّة، لم تكن مرتبطة بأي شكل من الأشكال بدين الأمة اليهوديّة، بل كانت مبنية على تلك النظرات للطبيعة البشرية والله، والتي تنتمي إلى العالم الوثني أو غير اليهودي بأكمله.

كانت الاعتراضات الرئيسية التي قدمها ضد المسيحية فلاسفة وثنيون ومضاربون مثل كيلسوس (150)، وبورفيري († 304)، وهيروكليس (300)، على النحو التالي:

(1) لقد زعموا أنّ المسيحية غير دينية وغير أخلاقية؛ لأنّها تأسّست على فكرة ثوريّة عن الله، وخاصّة في العهد القديم، وكانت تحتوي على تمثيلات سخيفة للإله كانت غير مواتية للدين، على سبيل المثال، رواية خلق الإنسان وسقوطه، وميلاد المسيح، ومعجزاته، وموته، وخاصة قيامته. قارن بورفيري وكيلسوس رواية حياة المسيح وأفعاله المُسجّلة في الأناجيل، بالروايات الشعبيّة في الأساطير اليونانيّة والرومانيّة، ووضعوه في قائمة الأبطال الوثنيّين وأنصاف الآلهة. ولم ينكروا وجوده التاريخيّ، كما ينبغي أن نُلاحظ، لكنهم زعموا أنّ تلاميذه قد أعطوا بمهارة صورة مبالغ فيها وكاذبة لحياة رجل مخلص وصالح.

(2) زعمت المسيحيّة أنّها دين موحى به من السماء، ولكن الوحي من هذا النوع مستحيل وغير عقلاني. فالمتشكك الوثنيّ قد يُقرّ بإمكانيّة وجود اتصال عام من الإله، كما يظهر في الطبيعة والعقل البشريّ، ولكنه يُنكر حقيقة وجود مثل هذا الوحي الخاص والمكتوب الذي ادعت الكنيسة أنها تمتلكه في الكتاب المقدس.

كان أول هذه الاعتراضات عمليًّا في الأساس، وبالتالي فقد واجهه المدافعون بطريقة عمليّة. لقد أكّد المدافعون الأوائل عن المسيحية ضد الوثنية، يوستينوس الشهيد (163)، وتاتيان (174)، وأثيناغوراس (177)،[7] على القوة التحويلية للمسيحية؛ وعلى الموت السعيد للمسيحيّين؛ وعلى الأمان الأكبر في قبول المسيحيّة، حتّى لو ثبت أنّها وهم.

كانت هذه حقائق واضحة لا يمكن إنكارها. إنَّ تهمة الفجور، التي نشأت عن الحقد والكذب، والتي أعاد جيبون صياغتها بتلك الدقة في التضخيم البلاغي الذي يصاحب الرغبة في نقل الانطباع دون الجرأة على الإدلاء بتأكيد، تمّ دحضها بسهولة من خلال الأخلاق الصارمة في الكنيسة الأولى، والتي حملت الجماهير إلى المحرقة، أو المُدرّج الرومانيّ، ونقاء الحياة الذي كان في تناقض مذهل مع أخلاق الوثنيّة. وفيما يتعلّق بالتمثيلات اللاهوتية للعهدين القديم والجديد، كان على المدافعين المسيحيين الأوائل أن يؤدوا عملاً مماثلاً لذلك الذي قاموا به في المنافسة مع الأبيونيين والغنوصيين، أي إظهار الحقيقة كاملة في القضية. لقد قوبل الاعتراض القائل بأن التمثيل التوراتي للإله هو تمثيل أنثروبولوجي بتوجيه الانتباه إلى حقيقة تجاهلها المتشكك الوثني عمدًا أو عن غير قصد، وهي أن الدين اليهودي يحرم عبادة الأصنام، ويعلم وحدة وروحانية الإله، في وقت كان فيه بقية العالم متعدد الآلهة وماديًا في مفاهيمه اللاهوتية، واستخدم هذه التمثيلات الأنثروبولوجيه بطريقة مجازية فقط، باعتبارها الوسيلة غير الكافية ولكنها الأفضل للتواصل مع مخلوق متأثر بالزمن والحس، حتّى يوصل الفكرة الروحية العظيمة التي كان يعمل عليها. وعلاوة على ذلك، فإنّ العيش، كما فعل المدافعون المسيحيّون الأوائل، بالقرب من العصر الذي حدثت فيه الأحداث المسجلة في الإنجيليين، يمكن أن يُدفع بالحجة التاريخية لصحة وأصالة العهد الجديد بثقة ونجاح أعظم مما كانت عليه، أو يمكن أن تكون عليه، منذ ذلك الحين.[8]

إنَّ الرد على الاعتراض الثاني الذي تقدّم به الخصم الوثنيّ، وهو أنّ الوحي يتعارض مع العقل، يتطلّب فحصًا أعمق بكثير للموضوع برمته على أسس عقلانيّة وفلسفيّة. وهذا هو الاعتراض الأعظم الذي يعترض عليه الشكوكيون في كل العصور، وتاريخ الدفاعيات خاصة.

وبقدر ما يتعلق الأمر بدفاعات هذه الفترة المبكرة في التاريخ الكنسي، يمكن ملاحظة أنّه في حين أكّد الآباء الأوائل على المعقوليّة الجوهريّة للمسيحيّة، وقاموا ببعض المحاولات للدفاع عنها على أسس فلسفيّة، إلَّا أنّها لم تكن الطريقة المُفضّلة والسائدة لديهم. لقد رفض كثير من المدافعين خاصة اللاتينيين منهم الفلسفة، واعتبروا أنَّ الأنظمة المختلفة والمتضاربة للفلسفات القديمة هي مصادر الهرطقة.[9] ولقد أدى سوء استخدام الفلسفة من قبل الغنوصيين على وجه الخصوص إلى جعلهم حذرين في استخدام التكهنات في الدفاع عن الدين الموحى به، بل وحتى حذرين إلى حد ما في تأكيدهم على أنه يمكن الدفاع عنه على أساس مبادئ عقلانية. ولقد فضلوا، كما رأينا، استخدام الحجج التفسيرية والتاريخية والعملية في معارضة المتشككين. وهذا ينطبق بشكل خاص على الدفاعات التي وضعها المدافعون اللاتينيون ترتليان ومينوسيوس فيليكس Minucius Felix في القرن الثاني.[10] لقد حددوا المسيحية ودافعوا عنها أكثر بالإشارة إلى طبيعتها العملية وتأثيرها على الحياة الخاصّة والعامّة. ومع ذلك، فإنّ ترتليان العنيف، الذي دفعته كراهيته للغنوصية إلى التهجم بمرارة لا تُميز دائمًا ضد الفلسفة، يلجأ إلى "شهادة الروح الطبيعيّة المسيحيّة" - إلى شهادة الطبيعة البشريّة الحقيقيّة والصادقة التي تؤيد الحقيقة! إنَّ هذا ما كان ليجده، قبل فسادها وتعقيدها بواسطة الفلسفة المزعومة زوراً، في التعبيرات العفوية للإنسان في أكثر لحظاته جدية وصدقاً. يقول:

"أنت أيها الروح، تقف في الوسط، سواء كنت شيئاً إلهياً وخالداً وفقاً لمعظم الفلاسفة، وبالتالي أقل قدرة على التكلم زوراً، أو كما يبدو لأبيقور وحده، سواء كنت لست إلهياً بأي حال من الأحوال، لأنك مادي وفانٍ ... سواء بدأت بالجسد، أو أُرسلت إلى الجسد بعد تكوينه، من أي مصدر، وبأي طريقة تجعل الإنسان مخلوقاً عاقلاً، أكثر قدرة من أي شخص على الفهم والمعرفة، قف واشهد. لكنني لا أدعوك مثل أولئك الذين نشأوا في المدارس، وتدربوا في المكتبات، ونشأوا في الأكاديميات وأروقة أثينا، الذين ينطقون بحكمتهم الخام. أنا أخاطبك باعتباري بسيطاً، وفظًا، وغير مصقول، وغير متعلم؛ مثلهم مثل أولئك الذين لديهم كمثل الذين ليس لديهم شيء سواك"،[11] "إنني في احتياج إلى تطهيرك (إمبريتيا)، لأن تطهيرك مهما كان صغيراً لا يؤمن به أحد. إنني أطالبك بتلك الحقائق التي تحملها معك إلى الإنسان، والتي تعلمت أن تعرفها إما من نفسك أو من مؤلف وجودك، أياً كان هذا المؤلف. إنني أعلم أنك لست روحاً مسيحية؛ لأنك لم تولد مسيحياً، بل يجب أن تصبح مسيحياً. ومع ذلك، فإن المسيحيين أنفسهم يطالبون الآن بشهادة منك، أنت الغريب، ضد أصدقائك، حتى يخجلوا منك، لكراهيتك لنا وسخريتك منا، بسبب تلك الأشياء ذاتها التي تحتجزك الآن كطرف ضدهم".[12]

ويستند هذا الأب الإفريقي الفصيح والعنيف بنفس الطريقة إلى قناعات الإنسان العفويّة، لإثبات الوجود الإلهي. فيقول:

"يثبت الله أنّه إله، وأنّه الإله الوحيد، من خلال حقيقة أنّه معروف لجميع الأمم؛ لأن وجود أي إله آخر غيره يجب أن يُبرهن أولاً. إنَّ الوعي بالله هو الكنز الأصلي للنفس؛ وهو نفس ما نجده عند الجميع: في مصر، وفي سوريا، وفي بنطس؛ لأنّ إله اليهود هو الذي تسميه أرواح البشر إلههم. نحن نعبد إلهًا واحدًا، وهو الذي تعرفونه جميعًا بشكل طبيعيّ، والذي ترتعدون من بروقه ورعوده، وتفرحون ببركاته". "هل تريدون أن نثبت الوجود الإلهي بشهادة الروح نفسها، التي على الرغم من حبسها في سجن الجسد، وعلى الرغم من تقييدها بتدريب سيئ، وعلى الرغم من إضعافها بالشهوات والعواطف، وعلى الرغم من جعلها خادمة لآلهة كاذبة، إلَّا أنّها عندما تستعيد نفسها كما لو كانت متبعة من التخمة، كما لو كانت مستيقظة من نوم، كما لو كانت من قائمة ضعف ما، وتكون في حالتها السليمة من الصحة، فإنَّها تدعو الله بهذا الاسم فقط، لأنَّه الاسم الصحيح للإله الحقيقيّ".[13] "الله العظيم"، "الإله الصالح"، و"الله يمنح" [deus not dii] هي كلمات في كل فم. كما تشهد الروح أيضًا أنه قاضيها، عندما تقول "الله يرى"، "الله سيكافئني". يا لها من شهادة من روح مسيحية بطبيعتها! [أو توحيدية]. أخيرًا، في نطقها بهذه الكلمات، لا تنظر إلى العاصمة الرومانية بل إلى السماء؛ لأنَّها تعرف مسكن الإله الحقيقيّ؛ "منه جائت، ومنه نزلت".[14]

هذه هي تأكيدات شخص يطلق في مكان آخر على الفلاسفة لقب "بطاركة الهراطقة"، وأفلاطون نفسه المؤلف الذي "يزيد التوابل لجميع التكهنات الهرطوقية".[15]

وبنفس الأسلوب من التفكير، يزعم مينوسيوس فيليكس. فهو يتحدث عن العقلانية الطبيعية للإنسان التي تجد المسيحية فيها تأكيدًا، ويصفها بأنها قوة إدراك "لا تنتجها الدراسة، بل تتولد من تكوين وبنية العقل البشري ذاته".[16] يشير هذا الكاتب أيضًا إلى الاتفاق الجزئي بين الفلسفة الوثنية والمسيحية، ومع ذلك يهاجم سقراط بعنف، حيث يتحدث عنه، بعد عبارة زينون على الأرجح، باعتباره ذلك المهرج الأتيكي (scurra Atticus).

بالانتقال إلى المدافعين اليونانيَّين في هذه الفترة، يوستينوس، وأثيناغوراس، وتاتيان، نجد الفلسفة أكثر تماهيًا مع المسيحيّة، مما نجده في الدفاعات الغربيّة. إنَّ هؤلاء الفلاسفة لم يحرصوا على التمييز بين الدين الطبيعيّ والدين الموحى به. فقد كانوا يميلون إلى اعتبار كلّ حقيقة دينية وحياً من الله، واعتبروها جزئياً وحياً خارقاً للطبيعة من العقل الإلهي، وفي أحيان أُخرى "نور الطبيعة". ومن ثمّ فإنَّهم لم يُميّزوا دائماً بعناية كافية بين ما هو نتاج العقل البشريّ الذي ترك لعملياته التلقائيّة، وما يتمّ توصيله إليه من خلال وحي خاص. وأحياناً نجد نفس العقل ينتقل من وجهة نظر إلى أخرى؛ فيمزج في البداية بين الدين الطبيعيّ والدين الموحى به، ثمّ يفصل بينهما بعد ذلك. ويُعد يوستينوس الشهيد مثالاً على ذلك في دفاعاته، التي وجهها إلى الإمبراطور الرومانيّ، حيث يعترف بالتشابه بين مبادئ الدين الطبيعيّ وأخلاقيَّات المسيحيّة، من أجل جعل الفيلسوف الفاضل ماركوس أوريليوس، أو أنطونيوس بيوس، متسامحين مع الدين الجديد.[17] ولكن في عمله اللاحق، الموجه ضد أولئك الذين أكدوا أن الدين الطبيعي والأخلاق كانت كافية لتلبية احتياجات الإنسان، وبالتالي يمكن أن تحل محل المسيحية، يأخذ على أساس أن تعاليم أفلاطون وسقراط وصلت إلى الإغريق عن طريق تعلُّمهم من اليهود في مصر.[18]

اعتقد المدافع أنّه منقاد إلى هذه النظرة بتجانس العقل والوحي، من خلال بعض النصوص في الكتاب المقدس، وخاصة تلك الأجزاء من كتابات الرسول يوحنا التي تتحدث عن الكلمة (اللوجوس) باعتباره يضيء لكل إنسان آتٍ إلى العالم. لقد افترض بعض الكُتَّاب المُعاصرين أنّ فكرة الكلمة أو العقل الإلهيّ المُتجسِّد، والتي تظهر بشكل مُتكرِّر في الكتابات الدفاعيّة للآباء الأوائل، كانت مستمدة بشكل رئيسيّ من الفلسفة الأفلاطونية وكتابات الفيلسوف اليهودي فيلون. ولكن ملاحظة بومغارتن-كروسيوس Baumgarten-Crusius، الذي لم يقتنع بها بدافع من أي اهتمام أو شعور لاهوتي بحت، هي أن فكرة الكلمة في العهد الجديد كانت أكثر تأثيرًا في تشكيل المفاهيم الفلسفية العامة للكنيسة في هذا الوقت. إن إكليمندس الإسكندري، ومدرسة أوريجانوس بشكل عام، يعزون المعرفة الدينية الأفضل للعالم الوثني، في وقت ما إلى الكلمة، وفي وقت آخر إلى الكتاب المقدس، لأنهم رأوا أن العقل الأسمى هو نفسه الذي نقل المعرفة في كلا الشكلين. ومع ذلك، فهم حريصون على ملاحظة أن الوحي غير المكتوب غير كامل وإنَّ النصوص الدينية الأُخرى دون الكتاب المقدس متقطعة وغير كافية لتلبية جميع الاحتياجات الدينية لعرق خاطئ، في حين أنّ الكلمة المكتوبة كاملة وشاملة وكافية.[19]



[1] William G. T. Shedd, A History of Christian Doctrine, Vol. 1 (Eugene, OR: Wipf and Stock Publishers, 1999). 131.

[2] يبدو أنه كان هناك بعض التنوع في آراء الإبيونيين فيما يتعلق بدرجة وجود المسيح؛ فبعضهم اعتبره مخلوقًا أسمى بكثير من غيره. لكن وقد اتفقوا جميعًا على إنكار ألوهيته ومكانته في الثالوث. ويصف يوسابيوس (Eccl. Hist. III. 27) الأبيونيين بأنهم يعتقدون أن المسيح رجل عادي، ولد من العذراء مريم بحبل عادي. أما إبيفانيوس (Haer. XXX. 3) فقد قال: يمثلهم باعتباره روحًا سامية، مخلوقة قبل كل المخلوقات الأخرى. يُميِّز أوريجانوس (Cont. Celsum, V. 61) بين فئتين من الإبيونيين، إحداهما اعترفت بالميلاد الخارق للطبيعة للمسيح، والأخرى رفضته. ولكن لم يعترف أي من الفئتين بألوهيته. كان جزء من الأبيونيين، وربما كان هذا الجزء صغيرًا. كانت يهوديتهم مختلطة بالميول الثيوصوفية، وهم يبشرون بالغنوصية الوشيكة. ربما كان الإلكيسائيون Elcesaites فرع من هذه الفروع. أولئك المسيحيون اليهود التزموا بشعائرهم الوطنية (كما سُمح لهم بذلك، بموجب الاتفاقية الرسولية، أعمال 15)، لم يُطلق عليهم اسم الإبيونيين بل الناصريين، وكانوا يعيشون حتى نهاية القرن الرابع.

Compare Neander: I. 341–366; Guericke: § 43; Olshausen: Commentary on Acts 15:1.

[3] ولنتذكر أن الأبيونيين كانوا يؤمنون بالمسيح كرسول مفوض من الله، والمسيح الذي سيأتي؛ كما كانوا يؤمنون بجزء من العهد الجديد.

[4]

[5] See Kaye’s Justin Martyr, p. 24 sq; William G. T. Shedd, A History of Christian Doctrine, Vol. 1 (Eugene, OR: Wipf and Stock Publishers, 1999).

[6] Irenaeus: Adversus Haereses. Tertullianus: Adversus Marcionem; De prescriptionibus haereticorum; Adversus Valentinos; Contra Gnosticos scorpiacum.

[7] The apologists who replied with most effect to the objections of the Pagan skeptic were: Justin Martyr: Apologia I and II; Tatian: Λόγος πρὸς Ἕλληνας; Athenagoras: Πρεσβεία περὶ Χρίστιανῶν; Clemens Alexandrinus: Cohortatio ad Gentes, a searching examination of the pagan mythologies; Origen: Contra Celsum; Tertullian: Apologeticus, De Idolatria; Cyprian: De idolorum vanitate; Minucius Felix: Octavius. See Guericke: Church History, §§ 29, 57–59.

[8] يكتب يوستينوس: "كان من الممكن أن يقنعنا بأن نؤمن بأن رجلاً مصلوباً هو المولود الأول للإله غير المولود، وأنه سيأتي بعد ذلك ليكون قاضياً للعالم كله، لو لم نقابل تلك الشهادات النبوية عنه [في العهد القديم] التي أُعلنت قبل تجسده بوقت طويل؟ ألم نكن شهود عيان على تحقيقها؟ ألم نرَ خراب اليهودية، ورجالاً من كل الأمم يتبنون الإيمان بواسطة رسله، وينكرون الأخطاء القديمة التي نشأوا عليها؟" (Apologia I. Ch. 88)

[9] "يقول ترتليان (في ضد الهرطقات، الفصل السابع): "إنَّ الهرطقات ذاتها تخدعها الفلسفة. ومن هُنا جاءت كلمة "الأزمنة"، ولا أدري ما هي "الأشكال" اللانهائية، و"ثالوث الإنسان" حسب قول فالنتينوس الذي كان أفلاطونياً. ومن هُنا جاء إله مرقيون، الذي كان أكثر تميزاً بسبب كسله: كان ينتمي إلى الرواقيين. ويؤيد الأبيقوريون عقيدة موت الروح؛ وينكرون قيامة الجسد من المدرسة الموحدة لكل الفلاسفة؛ وحيثما تساوي المادة بالله، فهناك عقيدة زينون؛ وحيثما يُزعم أي شيء يتعلق بإله يتكون من نار، فهناك عقيدة هيراقليطس. ونفس الأمر يُحرَّك ويُشوَّه من قِبَل الهراطقة والفلاسفة؛ ونفس الأسئلة مطروحة: من أين يأتي الشر؟ ولماذا؟ ومن أين يأتي الإنسان؟ وكيف؟ "و(ما طرحه فالنتينوس مؤخرًا) من أين جاء الله؟ أي من التطور العقلي والإجهاضية (enthymesi et ectromate). أرسطو البائس! علمهم فن الجدل، الماكر في البناء والهدم، باستخدام العديد من التحولات في الجمل، والتخمين القسري للحقائق، والمتصلب في الحجج، والمنشغل بإثارة الخلافات، على عكس نفسه، والتعامل مع كل موضوع ذهابًا وإيابًا، بحيث لا يتعامل حقًا مع أي شيء ... إذن ما علاقة أثينا بالقدس؟ وما دخل الأكاديمية بالكنيسة؟ وماذا شأن الهراطقة بالمسيحيين؟ مدرستنا هي من رواق سليمان، الذي سلمنا هو أيضًا أنّه يجب علينا ببساطة القلب (الحكمة 1: 1) أن نبحث عن الرب. بعيدًا عن أولئك الذين قدّموا المسيحية الرواقيّة والأفلاطونيّة والجدليّة."

هذا ويلاحظ أكيرمان Ackermann (Christian Element in Plato, p. 24) بحق أن الآباء الأوائل فضلوا الفلسفة أو خافوها بحسب رؤيتهم لها، هل ادعت أنها خادمة للمسيحية أم بديلة لها؟! وهذا يفسِّر حقيقة أننا كثيراً ما نجد في نفس آباء الكنيسة تعبيرات متناقضة فيما يتصل بالأفلاطونية والفلسفة عموماً.

[10] "يلاحظ ترتليان (De praescrip. Ch. 8) أنَّ جزءًا من الكنيسة كان أكثر ميلاً إلى التفلسف بشأن المسيحية من الجزء الآخر". "لذلك، وصلت إلى النقطة التي طرحها حتى إخوتنا كسبب للدخول في تحقيق فضولي، والتي يحث عليها الهراطقة لإثارة الشك الفضولي. لقد كتبوا: "اطلبوا تجدوا". "دعونا نتذكر عندما نطق ربنا بهذه العبارة: في البداية، على ما أعتقد، من تعليمه، عندما كان الجميع يشككون في أنه المسيح؛ عندما لم يكن حتى بطرس قد أعلن أنه ابن الله... لذلك قيل حينها لسبب وجيه: "اطلبوا تجدوا".

[11] By philosophy I mean neither the Stoic, nor the Platonic, nor the Epicurean and Aristotelian. But whatever things have been properly said by each of those sects, inculcating righteousness and devout knowledge, this whole selection I call philosophy.” Clemens Alexandrinus: Stromata, Lib. I. p. 288. Ed. Paris, 1640.

[12] Tertullian: De testimonio animae, Ch. 1.

[13] إن الوثنيين يخاطبون الإله في هذه الحالة "السليمة" غير المتطورة باسم "ديوس deus"، وليس باسم جوبيتر أو أبولو أو أي اسم آخر.

[14] ترتليان: Adversus Marcionem, I. 10; Ad Scapulam, 2; Apologeticus, 17. - تؤكِّد المقاطع التالية من الكتابات الوثنيّة هذه التأكيدات لترتليان:

"هُناك إله (est deus) في السماء يسمع ويرى ما نفعله". Plautus: Captivi. "كن سعيدًا يا بني، يوجد إله عظيم (Ζεῦς) في السماء يراقب ويحكم كل شيء". Sophocles: Electra, 175. "ولكن ماذا يجب أن أقول؟ سقراط كان يُحقّق مشيئة الله! (ὅτι εἂν Θεὸς ἐθέλη)." Plato: Alcibiades I. 135. يزعم مينوسيوس فيليكس (Octavius, 18, 19) أنّ الوثنيين الأكثر حكمة علّموا بوحدة الله. انظر أيضًا أوغسطين (De Civitate. Lib. VIII) فيما يتعلّق بآراء أفلاطون. يلخص كالفن (Institutions I. 10) هذا الرأي بالكامل على النحو التالي:

"في جميع العصور تقريبًا، تم إفساد الدين بشكل عام. صحيح حقًا أنّ اسم الإله الأعظم الواحد كان معروفًا ومحتفلًا به عالميًا. بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا عبادة عدد كبير من الآلهة، كلما تحدثوا وفقًا للحس الحقيقيّ للطبيعة، استخدموا ببساطة اسم الله في العدد المفرد، كما لو كانوا راضين بإله واحد. وقد لاحظ هذا بحكمة يوستينوس الشهيد، الذي كتب لهذا الغرض كتابًا "عن سيادة الله On the Monarchy of God"، حيث يوضِّح، من خلال شهادات عديدة، أنّ وحدة الله كانت مبدأً مطبوعًا عالميًا في قلوب البشر.

ويثبت ترتليان (في كتابه De Idolatria) نفس النقطة من خلال العبارات الشائعة. ولكن بما أنَّ جميع البشر بلا استثناء أصبحوا باطلين في فهمهم، فإنَّ كل إدراكهم الطبيعيّ للوحدة الإلهيّة لم يخدم إلَّا في جعلهم غير قابلين للتبرير.

[15] Philosophi patriarchae haereticorum” (De Anima, 3, and Adv. Hermogenem, 8). “Plato omnium haereticorum condimentarius” (De Anima, 23).

[16] Ingenium quod non studio paratur, sed cum ipsa mentis formatione generatur” (Octavius, 16).

[17] "لأضع أمامك [الإمبراطور] باختصار ما نتوقعه وما تعلمناه من المسيح وما نُعلِّمه للعالم، خذه على النحو التالي: أفلاطون ونحن متفقان على حكم مستقبليّ، لكننا نختلف بشأن القضاة؛ رادامانثوس ومينوس هما قاضياه، والمسيح قاضينا. وعلاوة على ذلك، نقول إنَّ أرواح الأشرار عندما تتحد في نفس الأجساد ستُسلم إلى العذاب الأبديّ، وليس كما سيقول أفلاطون في تيماوس، لفترة ألف عام فقط. إذا كُنَّا نتمسّك ببعض الآراء القريبة من الشُعراء والفلاسفة الأكثر شهرة بينكم، وغيرهم من سلالة إلهيّة، لكن نظرتنا أعمق، ولدينا براهين لصالحنا، فلماذا نكره ظلماً ونتميز في البؤس عن بقية البشر؟ لأنَّه عندما نقول إنَّ كلّ الأشياء قد صنعت بهذا النظام الجميل من قِبَل الله، فماذا يبدو أنّنا نقول أكثر من أفلاطون"؟ "عندما نُعلِّم عن نيران جهنم، ما الذي نعلمه أكثر من الرواقيين؟ عندما نؤكِّد أنّ الأرواح الراحلة في حالة وعي، وأنّ الأشرار في عذاب، ولكن الأخيار أحرار من الألم وفي حالة سعيدة، فإنَّنا لا نؤكد أكثر من شعرائكم وفلاسفتكم. عندما قال أفلاطون (الجمهورية، الكتاب العاشر) أن "اللوم يقع على عاتق من يريد الخطيئة، لكن الله لا يريد الشر وبلا لوم"، فقد استعار المثل من موسى."

Justin Martyr: Apol. I. Ch. 8, 18, 57

يقول "المسيحي" في كتاب أوكتافيوس لـ"مينوسيوس فيليكس": "لقد شرحت آراء جميع الفلاسفة تقريبًا، الذين كان مجدهم الأكثر شهرة هو أنهم عبدوا إلهًا واحدًا، وإن كان تحت أسماء مختلفة؛ بحيث قد يفترض المرء إمَّا أنّ المسيحيّين في الوقت الحاضر هم فلاسفة، أو أنّ الفلاسفة القدامى كانوا مسيحيّين بالفعل."

[18] يحتوي كتاب Theophilus Gale's Court of the Gentiles، وكتاب Cudworth's Intellectual System، على الكثير مما يدعم هذا الرأي. يُعبِّر أوغسطين عن نفس هذا الرأي بتشكُك: De Civitate Dei, VII. 11, 12. يذهب إكليمندس الإسكندري إلى حد التأكيد على أن "الإغريق استمدوا حتى مهاراتهم الإستراتيجية من اليهود؛ وأن ميلتيادس، في مسيرته الليلية ضد الفرس، قلد تكتيكات موسى في قيادة بني إسرائيل للخروج من مصر". كما أنه "يُرجِّع الأعمدة الوثنية الأولى للقدماء إلى سماعهم للعمود الناري والسحاب الذي مرّ أمام شعب الله". Bolton: Evidences, pp. 82, 118, 123.

[19] The unwritten word is termed μέρος τοῦ λόγου σπερματικός λόγος

الجمعة، 13 سبتمبر 2024

اللاهوت السكندري

 


اللاهوت السكندري[1]

 

لقد تطوَّر اللاهوت المسيحيّ في معارضة للفلسفة اليونانية والاتجاهات الهرطوقيّة. لقد ردَّ المدافعون عن اللاهوت اعتراضات العالم الوثني وقدموا المسيحية باعتبارها الفلسفة الحقيقية؛ أما الآباء المناهضون للغنوصية فقد طوروا، على أساس الكتاب المقدس والتقاليد، لاهوتًا مصممًا لحماية الأرثوذكسية من تكهنات الغنوصية والفلسفة اليونانية. ولكن ما قدمه السكندريون كبديل كان نظرة عالمية منهجية قائمة على البصيرة الفلسفية، والتي تم إدراج المسيحية فيها ودعمها باعتبارها أعلى حكمة.

كانت هذه أول محاولة لإنتاج توليفة فعلية بين المسيحية والفلسفة اليونانية. وعلى عكس الآباء المدافعين، لم يكتف السكندريون بتقديم التقاليد المسيحية باعتبارها نظيرًا متفوقًا للفلسفة. وعلى عكس الغنوصيين، لم يسعوا إلى استبدال المسيحية بعقيدة خلاصية توفيقية تخلت عن بعض العناصر الأساسية للإيمان المسيحي.

لقد أراد علماء اللاهوت السكندريون الحفاظ على التقاليد المسيحية بطريقة أمينة، وللقيام بذلك فقد وقفوا بثبات على النصوص الكتابيّة. لقد كان أوريجانوس من أوائل علماء اللاهوت في كل العصور، وكان لا يريد أن يفعل شيئاً غير عرض وتفسير معنى الكتاب المقدس. ولكن نتيجة لخلفيته الفلسفية كان لديه ميل إلى قراءة المضامين الفلسفية والتأملية في مقاطع الكتاب المقدس باعتبارها أعمق في المعنى. وقد فعل ذلك بمساعدة الطريقة الرمزية في التفسير. وبسبب هذا، أصبح نظام أوريجانوس يحمل بصمة الفلسفة اليونانية التي تطوَّرت في عصره (وقبل ذلك) في الإسكندرية، التي كانت المركز الرئيسي للتعليم اليوناني في تلك الفترة. لقد كان هذا هو العنصر الأساسي لهذه الفلسفة الذي شكَّل بشكل كبير اللاهوت السكندري كما طوَّره إكليمندس وأوريجانوس.

 

الأفلاطونيّة السكندريّة

 

يقال عادة إنَّ الخلفية الفلسفيّة التي يمكن تمييزها في لاهوت أوريجانوس هي أفلاطونية محدثة. وهذا ليس صحيحًا تمامًا. كان المؤسِّس الفعليّ للمدرسة الأفلاطونية المحدثة هو أفلوطين، وهو معاصر أصغر سنًا لأوريجانوس. تأسّست هذه المدرسة في عام 244م، بعد ظهور اللاهوت السكندري. لذلك، يجب أن نقول بشكل أكثر دقة إنَّ الأفلاطونيّة المُحدثة كانت موازية فلسفيّة للنظام اللاهوتي السكندري. لكن أفلوطين وأوريجانوس كان لهما نفس المعلم، هو: أمونيوس ساكاس. من خلاله وقع أوريجانوس تحت تأثير الأفلاطونية المحدثة، ومع ذلك، أظهرت الأبحاث اللاحقة[2] أنّ هذا التأثير لم يكن كبيرًا كما كان يُفترض. في واقع الأمر، كان أوريجانوس انتقائيًّا. ولكن فيما يتصل بالمدارس الفلسفية، فقد كان أقرب إلى الأفلاطونية التي نشأت في الإسكندرية خلال القرون الأولى من العصر المسيحي، والتي يشار إليها عادة باسم الأفلاطونية الوسطى. وكانت هذه استمراراً للأكاديمية القديمة، ولكنها حوَّلت الأفلاطونية الكلاسيكية إلى نظام عالمي شامل حيث كان الدين وليس المعرفة النظرية هو المكون المميز لها. ولم يكن عالم الأفكار كما هو موضح هنا مجرد عالم مفاهيمي، بل كان قبل كل شيء العالم الروحي الذي نشأ عن الألوهية. وقد ظهرت الجوانب الأساسية لهذا النظام مرة أخرى في كل من الأفلاطونية المحدثة واللاهوتيين السكندريين.

"إن مخطط العالم السكندري"[3] كان قائماً على الأفلاطونية القديمة، بقدر ما كان ينبع من التناقض بين العقل والمادة، بين عالم الأفكار والعالم التجريبي. وكان هذا التناقض أساسياً.

في إطار "مخطط العالم" هذا، كان يُنظر إلى الله باعتباره الواحد الوحيد، المتعالي على كل شيء آخر. كان العالم المعقول ينبثق من الله في عملية أبدية. كان الفكر (νοῦς) هو المرحلة الأولى؛ وكانت المرحلة التالية هي روح العالم، وهي الأدنى داخل العالم الروحي. ونتيجة للسقوط الذي حدث في العالم الروحي، انفصلت الروح البشرية واتحدت مع المادة. إن الحدث العالمي يسعى إلى تحقيق هذا الغرض، وهو أن الكائنات العاقلة التي انحرفت عن حالتها الأصلية بدرجة أو بأخرى، قد تتمكن من خلال التدريب والتطهير من النهوض إلى الحضرة الإلهية وبالتالي التحرُّر من قيود العالم الماديّ. وبعبارة أخرى، كان الهدف هو تحقيق إنجماع كليّ مع الله (ὁμοίωσις θεῷ) من خلال هذه العملية المستمرة للتدريب والتطهير.

هذا المخطط الدوري، الذي ظهر بالفعل في شكل آخر بين الغنوصيين، تم تطويره بالكامل في أفلاطونية الإسكندرية وشكَّل الخلفية للاهوت أوريجانوس وإكليمندس. لقد استخدموا نفس المخطط مع بعض التغييرات والإضافات. وفي إطاره تم وضع عقيدة الخلاص.

 

إكليمندس السكندريّ

 

في الإسكندرية، التي لا نعرف الكثير عن أول جماعة مسيحية فيها، نشأت مدرسة للتعليم الديني في منتصف القرن الثاني، وكانت أول مؤسسة مسيحية للتعليم العالي. وفي نهاية القرن الثاني شهدت هذه المدرسة نمواً غير عادي وأصبحت مؤسسة اللاهوت السكندري. وكان أول عالم لاهوت معروف مرتبط بالمدرسة الدينية في الإسكندرية هو بانتينوس، الذي سرعان ما طغى عليه تلميذه إكليمندس (حوالي 150-215)، والذي قام بدوره بتدريس أوريجانوس. وقد طور إكليمندس السمات الرئيسية للنظام اللاهوتي الصحيح، ولكن استخدام أوريجانوس لهذا النظام هو الذي جعله بارزاً.

إن الجانب الأساسي في لاهوت إكليمندس هو فكرة التربية الإلهية. ولكي تتمكن روح الإنسان الساقطة من الصعود إلى الله والعودة إليه، فإن التعليم مطلوب. ويتم ذلك من خلال التأديب والعقاب، ومن خلال التوبيخ والإرشاد. وهذا التدريب هو الغرض الحقيقي من وجود العالم المادي. وقد أوضح إكليمندس هذا الأمر بوضوح في كتبه الرئيسية، مثل "النصيحة لليونانيين"، و"المعلم"، و"المنوعات".

إن تربية الإنسان تتم من خلال الكلمة، الذي كشف عن نفسه بطريقة نهائية داخل المسيحية. ولكن كانت هناك أيضًا مرحلة تحضيرية، قبل مجيء المسيحية، والكلمة نفسه الذي ظهر في المسيح مارس أيضًا تأثيرًا تربويًا على البشر في تلك الفترة. بين اليهود أعلن الشريعة، وبين اليونانيين كانت الفلسفة هي التي مهدت الطريق لمجيء المسيح بطريقة مماثلة. بعبارة أخرى، كانت الفلسفة اليونانية مرحلة في تربية الله، مماثلة لشريعة اليهود. كلاهما ساعد في إعداد البشر للتجسد وخرجا من نفس المصدر، الكلمة أو اللوجوس، الذي ظهر للبشر حتى قبل ميلاد المسيح من خلال تعاليم الفلاسفة. ومن وجهة النظر هذه، فإن الفلسفة، مثل الشريعة، هي موقف مهزوم، بقدر ما جاء المسيح بالمعرفة الخلاصية التي يتم بها جلب البشر إلى الإيمان.

إن ما قيل الآن هو شرح جزئي لوجهة نظر إكليمندس في المسيحية والفلسفة. فالمسيحية والفلسفة، وفقًا لإكليمندس، ليسا متعارضين. بل إن الفلسفة تعبر عن نفس الوحي الذي اكتمل لاحقًا في المسيحية. لذلك، وفقًا لإكليمندس، فإن الفلسفة قادرة على العمل كـ "نوع من المدرسة التحضيرية لأولئك الذين يحصلون على الإيمان من خلال الدليل".

ولكن تأثير الفلسفة على إكليمندس تم التعبير عنه بشكل خاص في هذا، حيث قادته إلى الاستنتاج بأن "المعرفة" على مستوى أعلى من الإيمان. لذلك ميز بين πίστις و γνῶσις. الأول، وفقًا لإكليمندس، هو الإيمان المسيحي الأساسيّ البسيط، الحرفي تمامًا في طبيعته، والمهتم بالخوف من العقاب والأمل في المكافأة. من ناحية أخرى، يُعتبر الأخير شكلًا أعلى من المعرفة، والذي لا يؤمن على أساس السلطة بل يقيم ويقبل محتوى الإيمان في ضوء قناعاته الداخلية. إن "المعرفة" تؤدي إلى الحب، والحب يحفز على الأفعال التي لا تنجم عن الخوف. وقد أكد إكليمندس بقوة على الادعاء بأن المعرفة هي المستوى الأعلى الذي يصل به الإيمان إلى الكمال. ولا يمكن إلا لـ "الغنوصي" أن يكون مسيحياً كاملاً.

لم يفكر إكليمندس في أن البشر مقدرون مسبقاً لفئة أو أخرى. كما لم يتصور أن المعرفة المستمدة من المستوى الأعلى من نوع مختلف عن المعرفة الموجودة في الإيمان. قيل إن الإيمان يحتوي على كل شيء إلى حد ما. لكن الإيمان الخارجي غير قادر على إدراك المعنى الحقيقي للإيمان، بقدر ما يقبل العقيدة ببساطة على أساس السلطة. من ناحية أخرى، يستطيع "الغنوصي" إدراك معنى الإيمان، بعد استيعابه داخلياً. وبالتالي، كان التحدي الذي وجهه إكليمندس للمسيحي هو الانتقال من الإيمان إلى المعرفة. إن المعرفة تؤدي إلى رؤية الله وإلى حياة المحبة تجاه القريب. لقد رغب إكليمندس في استبدال المعرفة الزائفة للغنوصية بالمعرفة الحقيقية الكتابية للمسيحية. إن المعرفة العليا التي علمها لم تتعارض مع الإيمان. ولكن تطوير إكليمندس للغنوصية المسيحية كان متأثراً بشدة بالفلسفة الأفلاطونية، التي شكلت قاعدة عمله والتي كانت، كما رأى، بمثابة مدرسة تحضيرية للمسيحية لأولئك الذين سينتقلون من "الإيمان العاري" إلى الفهم الأعمق للإيمان.

إن الأفكار الرئيسية في المعرفة المسيحية، كما طورها إكليمندس، تكررت في النظام اللاهوتي لأوريجانوس، ولهذا السبب لن نناقشها أكثر في هذه المرحلة.

 

أوريجانوس

 

إن ظروف حياة أوريجانوس معروفة إلى حد كبير، وخاصة نتيجة لعمل يوسابيوس (التاريخ الكنسي، الكتاب السادس). ولد أوريجانوس في الإسكندرية عام 185 لأبوين مسيحيين، وأظهر حماسه للقضية المسيحية في سن مبكرة. في الواقع، بينما كان لا يزال شابًا، كاد يموت شهيدًا، مثل والده. في عام 203، خلف إكليمندس كرئيس للمدرسة التعليمية في الإسكندرية، وخدم هناك لسنوات عديدة. لقد حقق نجاحًا غير عادي كمدرس، لكن معارضة أسقف الإسكندرية أجبرته على المنفى. ذهب إلى فلسطين، حيث أسس مدرسة في قيصرية مماثلة لتلك الموجودة في الإسكندرية واستمر في نشاطه. وتوفي في قيصرية عام 251 - أو وفقًا لمصدر آخر، في صور عام 254.

ككاتب في مجال اللاهوت، كانت إنتاجية أوريجانوس هائلة. لم يتم الحفاظ إلا على جزء من كتاباته. تتألف أعمال أوريجانوس التفسيرية من التعليقات والعظات وطبع النصوص. وقد تمكن أوريجانوس من الوصول إلى عدد من المخطوطات التي فقدت منذ ذلك الحين. وفي أعظم أعماله، الهيكسابلا ("السداسية")، وضع أوريجانوس ست نسخ مختلفة من العهد القديم في أعمدة متوازية في محاولة لتحديد النص الصحيح. ولكن جزءًا صغيرًا فقط من الهيكسابلا لا يزال موجودًا، وينطبق الشيء نفسه على عظاته وتعليقاته العديدة. وقد تم التعبير عن وجهة نظر أوريجانوس اللاهوتية بشكل أكثر وضوحًا في معركته الأدبية الكبرى مع كلسوس (ضد كلسوس) وكذلك في العمل الذي سعى فيه إلى تقديم عرض شامل للإيمان المسيحي. وقد تم الحفاظ على هذا الأخير في ترجمة لاتينية بواسطة روفينوس (كتاب: في المبادئ). من الصعب أن نتخيل النطاق الأصلي لإنتاج أوريجانوس. قدر جيروم أنه أنتج ما يصل إلى 2000 كتاب.

في وقت مبكر من حياته المهنية واجه أوريجانوس معارضة من أولئك الذين اتهموه بتدريس عقيدة زائفة. لقد تجسدت في لاهوته مجموعة من وجهات النظر الفريدة، والتي كانت متأثرة بشكل عام بالفلسفة اليونانية. ولهذا السبب أصبح لاهوت أوريجانوس مثيراً للجدل بشكل متزايد، وفي النهاية أدانه المجمع المسكوني الخامس (553) باعتباره هرطوقياً. ولكن على الرغم من هذا، فقد أثبت أوريجانوس أنه لاهوتي مؤثر للغاية. ويمكن القول، في واقع الأمر، إنه كان مؤسس التقاليد اللاهوتية الشرقية، تماماً كما كان ترتليانوس مؤسس التقاليد الغربية.

كان أوريجانوس لاهوتياً كتابياً، ولكن نتيجة لاستخدامه للطريقة الرمزية (المستعارة من التقليد الأفلاطوني) سمح تفسيره للكتاب المقدس أيضاً بقبول النظرة العالمية التي تطورت داخل المدرسة الفلسفية في الإسكندرية.

ومع ذلك، يجب الإشارة إلى أن أوريجانوس لم يكتف بالتفسير الرمزي. وباعتباره المفسر المتميز، فقد أظهر أيضاً فهماً للمعنى التاريخي للنصوص التي عمل عليها. إن تفسيراته النمطية لابد وأن تميز أيضاً عن ميله إلى الاستعارة. فالأولى كانت تتضمن عرض مادة العهد القديم في إطار تاريخ الخلاص؛ أما أوريجانوس فقد فسر هذا الأمر على أساس آخر الزمان، وعلى أساس المسيحانية، وعلى أساس الأسرار المقدسة. والتفسير الصوفي، الذي يشير إلى الخبرة الداخلية للمسيحي. وقد استُخدِمت هذه الطرق في تفسير الكتاب المقدس إلى حد ما في مختلف التقاليد المسيحية. ولكن ما كان غير عادي في أوريجانوس هو أنه استخدم أيضاً الطريقة الاستعارية. وقد استخدم هذه الطريقة من قبل الفيلسوف اليهودي فيلون السكندري، الذي قرأ الفلسفة الأفلاطونية بعيون العهد القديم. ومن حيث المبدأ، ترتبط هذه الطريقة بوجهة النظر الأفلاطونية. وهي تميز بين الحرف والروح بنفس الطريقة التي تميز بها الأفلاطونية عموماً بين الجوهر والفكرة.

عند أوريجانوس، تقوم الاستعارة على فهم وجود معنى روحي في خلفية كل فقرة من الكتاب المقدس. وكما أن الإنسان يتألف من جسد ونفس وروح، فإن الكتاب المقدس يمتلك دلالة حرفية (أو "جسدية")، وأخلاقية (أو "نفسانية")، وروحية (أو "روحانية"). والمعنى الأخير حاضر دائمًا، وعندما يبدو التفسير الحرفي غير معقول، يجب على المرء أن يلتزم بالروحانية للنص بشكل صارم.

وعلاوة على ذلك، تفترض الطريقة الرمزية أن كل التفاصيل في الكتاب المقدس ترمز إلى حقائق روحية كونيّة عظيمة، على سبيل المثال، قوى الروح والأحداث الكونيّة. وبالتالي، فإنَّ المجازي يترك الأساس التاريخيّ المتين ويتصوَّر التصريحات الكتابية كظواهر روحية أو مثالية بحتة. وهذا يمثل الفرق بين المجاز والنمطية. ومن الواضح أن هذه الطريقة كانت مناسبة تمامًا لاستنباط الأفكار الروحانيّة من الكتاب المقدس والتي توجد في النظام اللاهوتي لأوريجانوس. وقد مكنته الطريقة الرمزية من خلق توليفة بين الأفكار المسيحية والهلنستية.

إن قاعدة الإيمان، بحسب أوريجانوس، متطابقة مع محتوى الكتاب المقدس. وقد قدم ملخصًا في الجزء الأول من كتابه "في المبادئ"، حيث قدم نظامه اللاهوتي بأوضح صورة. وهنا أدرج أفكارًا من التقليد المسيحي في إطار مخطط العالم السكندري. ويمكن العثور على ثلاثة موضوعات رئيسية هنا:

1) فيما يتعلق بالله والعالم السماويّ؛

2) فيما يتعلق بالسقوط في الخطيئة والعالم الأرضيّ؛

3) فيما يتعلق بالخلاص واستعادة الأرواح المحدودة.

إن أحد العناصر المميزة في لاهوت أوريجانوس يتعلق بتربية المخلوقات العاقلة الساقطة من خلال العناية الإلهية. وقد افترض الأفكار الأساسية الثلاثة التالية: (أ) إن مسار العالم موجه بالعناية الإلهية؛ وكان له أصله في الله، وكل الأشياء من حركات الأجرام السماوية إلى علاقات الإنسان الأرضية تحكمها قوة إلهية. (ب) إن هدف رعاية الله العاقلة للعالم (الذي يشكل الإنسان فيه مركزًا) هو استعادة المخلوقات العاقلة التي هي سجينة هنا في أجسادها إلى أصلها الإلهي. (ج) إن هذه الاستعادة سوف تتم نتيجة للتعليم (παίδευσις) - وهذا يعني أنها ليست ظاهرة طبيعية، ولا يتم استخدام أي إكراه، ولكن يجب أن يتم ذلك من خلال التأثير على إرادة الإنسان الحرة. إن امتلاك الإنسان لإرادة حرة كان، بالنسبة لأوريجانوس، حقيقة ثابتة بموجب قاعدة الإيمان نفسها. وعلى هذا بنى أوريجانوس نظامه اللاهوتي، ونتيجة لذلك تم تقديم مفهومه للخلاص من حيث التعليم. وكما كان الحال مع كليمنت، كانت فكرة التربية الإلهية الأساسية في نظام أوريجانوس.

1. وصف أوريجانوس الله بأنه الكائن الروحي الأعلى، بعيدًا عن المادة والجسد قدر الإمكان. وفي ضوء هذا، يجب إعادة تفسير التشبيهات البشرية في الكتاب المقدس. فهي لا تحمل أي أهمية حرفية. إن الجسدانية غير متوافقة مع الله. وفي هذا يعارض أوريجانوس ترتليان تمامًا.

لقد خلق الله، بدافع من الخير والمحبة، عالماً معقولاً من نوع روحي بحت. هذا العالم الروحي ينبثق من الله طوال الأبدية. إن "الكلمة المتجسد"، المسيح، جزء من هذا العالم. رفض أوريجانوس فكرة ظهور الكلمة أولاً في وقت الخلق. وبدلاً من ذلك، أكد أن الكلمة كان موجودًا أزلياً ("لم يكن هناك وقت لم يكن فيه موجودًا"). لم يُخلق الكلمة في وقت مُعيَّن؛ لقد ولد من الله في الأزل. وكما تصوَّر أوريجانوس، فإن ولادة الابن في الأزل كانت انبثاقًا مشابهًا لظهور العالم الروحي من الألوهية (قارن بين إيريناوس، الذي قدَّم نفس الفكرة بعيدًا عن هذه الخلفية الفلسفية). أدى هذا إلى ظهور السؤال: كيف يرتبط الابن بالآب؟ على أساس تعليمه عن ولادة الابن في الأزل، قال أوريجانوس (أ) أن الكلمة من نفس جوهر الآب (ὁμοούσιος)، ولكن أيضًا (ب) أن الابن مع ذلك مختلف عن الآب من جهة الأقنوم. الابن هو "مولود"، والآب وحده "غير مولود" (ἀγέννητος). لذلك نجد مفهوم الهومووسيوس في لاهوت أوريجانوس.

2. لقد شهدت الكائنات الروحية سقوطًا، حيث ابتعد بعضها عن أصلها أكثر من غيرها. لقد "بردوا" (ψῦχος، بارد)، إذا جاز التعبير، وأصبحوا مخلوقات عاقلة، ψυχαι (جمع ψυχή، نفس). وهكذا ظهرت الملائكة والبشر والشياطين. "لقد خُلِق العالم المرئي نتيجة للسقوط، وذلك لمعاقبة الإنسان وتطهيره. ويوفر العالم المكان والظروف التي يمكن أن تتم فيها التعاليم الإلهية. لذلك، لم ينظر أوريجانوس إلى الخلق باعتباره شيئًا شريرًا (كما فعل الغنوصيون). بل إنه أكد في الواقع أن الله خلق العالم المرئي، ولكن فقط لغرض أن يتلقى الإنسان التعليم داخله. وليس للخلق أي أهمية مستقلة. إن الوجود في العالم المادي هو، جزئيًا، عقاب للأرواح العاقلة، ولكن هذا ليس كل شيء. فكما رأى أوريجانوس، فإن الأشياء الأرضية ترمز إلى الحقائق السماوية، وعند التأمل فيها، نأمل أن يرتفع الإنسان إلى المستوى السماوي. وهكذا كان العالم المادي أيضًا مشاركًا في التعليم الإلهي للروح البشرية.

3. تصوَّر أوريجانوس الخلاص بالطريقة التالية. الإنسان هو روح سقطت من العالم المعقول وتم تطعيمها في جسد حي بالروح. ولكي يخلص الإنسان، لابد أن ينهض من جديد إلى العالم الروحي، ليتحد هناك مع الله. وقد تم هذا الخلاص من خلال المسيح، الكلمة الذي صار إنسانًا. لم تسقط روح المسيح من حالتها النقية. بل دخلت روحه جسده، وهكذا اتحدت الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية.

إن الذين يجدون أنفسهم على المستوى الأدنى من الإيمان، كما رأى، كان التركيز الرئيسي على التعليم الذي يمنحه المسيح فيما يتعلق بأسرار الإيمان. الخلاص لا يكتمل إلا بعد الموت. تستمر عملية التطهير بعد الموت، ونتيجة لهذا يصل الرجال إلى الكمال ويتحدون مع الله - أولاً الرجال الصالحين، ولكن أيضًا، في النهاية، الأشرار. كل شيء سوف يتحد مع أصله (ἀποκατάστασις πάντων).

في نظام أوريجانوس، تم الجمع بين الأفكار الأفلاطونية النموذجية والتقاليد المسيحية. بعض جوانب هذا النظام هي ذات طبيعة هلنستية تمامًا، وبالتالي ليس لها علاقة بالإعلان التوراتي. هذا صحيح، على سبيل المثال، فيما يتعلق بفكرة انبثاق العالم المعقول من اللاهوت، واستعادة كل الأشياء في النهاية، وتوقف كل ما هو مادي وجسدي. في حالات أخرى، تم الحفاظ على التقليد التوراتي بأمانة. ومع ذلك، غالبًا ما فعل أوريجانوس هذا من خلال الجمع بين وجهتي النظر هاتين في ارتباط وثيق لدرجة أنه من المستحيل التمييز بين العنصر المسيحي والهلنستي. تطورت طريقة أوريجانوس إلى نمط موحد ومنهجي من الفكر كان مسيحيًا وهلنستيًا في نفس الوقت. مفهوم التربية، على سبيل المثال، هو فكرة يونانية، لكن أوريجانوس استخدمها في نفس الوقت للتعبير عن قناعاته المسيحية. لقد اختار عمداً أن يقدم وصفاً موحداً لمحتوى قاعدة الإيمان وفي نفس الوقت يقدم إجابة للأسئلة الفلسفية حول الحياة والتي كانت شائعة في عصره.

مختصر تاريخ القرن الأول

 


مختصر تاريخ القرن الأوّل[1]

 

يسوع والرسل

 

يبدأ القرن الأول من العصر المسيحي بميلاد يسوع المسيح من العذراء مريم في بيت لحم. عاش المسيح، وكرز، وقام بأعمال عظيمة، وصُلب، وقام من بين الأموات، وصعد إلى السماء في العقود الأولى من القرن الأول. بعد صعوده إلى السماء، أرسل الله الروح القدس على تلاميذ المسيح في عيد العنصرة (أعمال الرسل 2)، مما مكنهم من حمل إنجيل المسيح إلى أقاصي العالم المعروف.

خلال حياته على الأرض، اختار يسوع التلاميذ - أولاً الاثني عشر (متى 10: 2-4) ثم السبعين (لوقا 10: 1). دربهم ليكونوا قادة كنيسته. بعد العنصرة، بشر الرسل بإنجيل المسيح على نطاق واسع. لا نعرف بالضبط أين سافر جميع الرسل، لكننا نعرف الكثير عن الرحلات التبشيرية للقديس بولس، والتي تم تسجيلها في سفر أعمال الرسل (الأصحاحات 13-28). في رحلاته الواسعة، أسّس القديس بولس العديد من الكنائس في آسيا الصغرى واليونان. مات جميع الرسل الاثني عشر (بما في ذلك القديس متياس، الذي حلّ محلّ يهوذا - أعمال الرسل 1: 15-26) وباستثناء القديس يوحنا، وكذلك العديد من السبعين استشهدوا لإيمانهم بالمسيح.

لقد كتبت الأناجيل والرسائل، وكل الكتب السبع والعشرين التي اختارتها الكنيسة في النهاية لتكون أسفار العهد الجديد، في القرن الأول. وفي هذا الوقت أيضًا، تأسست مجتمعات مسيحية في المدن الرئيسية في سوريا وآسيا الصغرى واليونان ومصر، وحتى في أرمينيا والهند.

ولأنّ الكنيسة في أنطاكية كانت تنمو بشكل كبير، ذهب القديسان بولس وبرنابا إلى هُناك للتبشير والتعليم. وهُناك دُعيَّ أتباع المسيح مسيحيّين لأوَّل مرة (أعمال الرسل 11: 19-30). كما أرسلت هذه الكنيسة القديسين بولس وبرنابا في رحلتهما التبشيرية الأولى (أعمال الرسل 13: 1). ورُبَّما تفوَّقت أنطاكية على القدس باعتبارها المركز المسيحيّ الرائد بحلول الوقت الذي فرَّ فيه المسيحيّون من القدس قبل وقت قصير من اندلاع الثورة اليهوديّة ضد الرومان في عام 66 م.

تأسّست الكنيسة أيضًا في روما. وقد تعزّزت المكانة الطبيعيّة للكنيسة في روما باعتبارها عاصمة الإمبراطوريّة عندما استشهد الرسولان الأعظمان، القديسان بطرس وبولس، هُناك في عهد الإمبراطور نيرون حواليّ عام 67 م. وأصبحت قبورهما أماكن مهمّة للزيارة، وتم تأسيس عيدهما المشترك (29 يونيو) في الكنيسة بحلول منتصف القرن الثاني.

ورغم أنّ المسيحيّين الأوائل كانوا يهوداً، فإنَّ المسيحيّين الأوائل كانوا يكتبون باللغة اليونانيّة، وهي اللغة السائدة في الإمبراطورية الرومانية. وحتى الكنيسة في روما كانت تستخدم اللغة اليونانية حتى بداية القرن الثالث.

 

الكنيسة

 

كانت الكنيسة المسيحية في البداية ظاهرة محليّة لم تنتشر إلَّا فيما بعد إلى المناطق الريفيّة. وكانت تتألَّف في الأساس من أناس ينتمون إلى ما نسميه اليوم "الطبقة المتوسطة" في المجتمع. وليس صحيحاً أنّ المسيحيّة اكتسبت موطئ قدم لها في العالم في المقام الأوَّل بين الناس غير المُتعلمين والمتخلفين الذين كانوا يبحثون عن العزاء السماويّ في مواجهة ظروف معيشيّة ظالمة لا تطاق على الأرض.

كان القرار الأكثر أهمّيّة الذي كان على الكنيسة أن تتخذه خلال القرن الأوَّل هو ما إذا كان من الممكن قبول الأشخاص غير اليهود (الأمميين) في الكنيسة بالإيمان بالمسيح دون أن يُطلب منهم اتباع المتطلبات الطقسيّة للشريعة الموسويّة، بما في ذلك الختان. بناءً على فهم القديس بولس للعهد القديم، وعلى شهادة القديس بطرس حول كيفيّة تلقي قائد المئة الروماني كورنيليوس وأسرته للروح القدس حتّى بينما كان بطرس لا يزال يتحدث إليهم (أعمال الرسل 10 و11)، قرَّر أول مجمع للكنيسة، الذي عقد في أورشليم في حوالي عام 49 م، أنّ المتحولين من الأمم لن يخضعوا للشريعة الموسويّة (أعمال الرسل 15). يُعتبر هذا المجمع، الذي عُقِد تحت قيادة القديس يعقوب، أخو الرب وأوّل أسقف لأورشليم، النموذج الأوليّ لجميع مجامع الكنيسة اللاحقة.

وبينما دخلت الكنيسة المسيحيّة المجتمع الإمبراطوري الروماني "تحت حجاب" اليهوديّة، سرعان ما انفصلت عن الإيمان اليهوديّ. واحتضنت الكنيسة كلّ أولئك، مهما كانت خلفيتهم العرقيّة، الذين من خلال الإيمان بيسوع ربًا ومسيحًا، ومن خلال التوبة عن الخطيئة، والكنيسة، والمعموديّة، اندمجوا في جسد المسيح، وأيضًا بوضع يد أحد الرسل أو أحد الذين رُسموا من قِبَل أحد الرسل، تلقّى المسيحيّون الجُدد عطيّة الروح القدس (انظر أعمال الرسل 2: 37-39 و8: 14-17)، ثمّ شاركوا في الاحتفال بالعشاء الرباني.

لقد ازداد انفصال الكنيسة عن اليهودية حدة عندما سحق الجيش الرومانيّ في عام 70 م ثورة اليهود ضد حكم روما. لقد دمَّر الرومان الهيكل اليهوديّ، مما وضع حدًّا للعبادة والتضحية الحيوانيّة (التي كانت تتمّ في البداية في خيمة الاجتماع، ثمّ في الهيكل) والتي كانت مركزيّة لليهوديّة منذ زمن موسى. بالنسبة للمسيحيّين، كان تدمير الهيكل تحقيقًا لنبوءة المسيح (متى 24: 1-2)، والدليل النهائيّ على أنّ الرب يسوع قد أعطى الملكوت بالفعل لكلّ من آمن به، سواء من اليهود أو من الأمم.

لقد تأسّست الكنيسة في كلّ مكان كجماعة محليّة. وكانت تجتمع في كثير من الأحيان في بيوت خاصّة، مثل بيت القديسين بريسكلا وأكيلا ـ أوَّلاً في أفسس (1كو16: 19) ثمّ في روما (روم16: 3-5). وكانت هذه الجماعات المبكرة يقودها أولئك الذين يُدعَون أساقفة (مشرفين) أو شيوخ (قساوسة) تلقوا وضع الأيدي (رسامة) من الرسل (انظر أعمال14: 23). وبما أنّ الرسل أنفسهم كانوا مدعوين لنشر الإنجيل في جميع أنحاء العالم، فإنَّهم لم يخدموا كأساقفة، أي قادة محليّين، لأي جماعة مسيحيّة مُعيَّنة في أي مكان.

كان لكلٍّ من الجماعات المسيحيّة الأولى طابعها الفريد وتحديَّاتها، كما تكشف كتابات العهد الجديد. كانت كلّ كنيسة تهتمّ كثيرًا بالآخرين، وكانت جميعها مدعوة لتعليم نفس العقائد وممارسة نفس الفضائل، والعيش معًا في نفس حياة الشركة والعبادة المُقدَّسة في المسيح والروح القدس. يكتب القديس لوقا أنّ الكنيسة الأولى في أورشليم "واظبت على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات" (أعمال 2: 42). كانت روابط المحبّة والإيمان قوية جدًّا بين المسيحيّين الأوائل حتّى أنّهم "كانوا يمتلكون كل شيء مشتركًا، ويبيعون ممتلكاتهم ومقتنياتهم ويقسمونها بين الجميع كما يحتاج كل واحد" (أعمال 2: 44-45).

وهكذا، فإنَّ الكرازة وتفسير إنجيل الله في يسوع، والبنية الأساسيّة للكنيسة، والطبيعة الأساسيّة للعبادة المسيحيّة، كانت كُلّها في مكانها الصحيح بحلول نهاية القرن الأول.



[1] Church History, Volume 3, written by Protopresbyter Thomas Hopko and revised and expanded by Dr. David C. Ford.

https://www.oca.org/orthodoxy/the-orthodox-faith/church-history/first-century/christ-and-the-apostles