الخميس، 5 أكتوبر 2023

الخطية الأولى (الأصلية)، مفهومها وهل هي موروثة أم لا؟

 


ليس من المُناسب أنّ نقول بإن: “الجسد البشريّ في الخطية - εν αμαρτια”.. فحتّى هذا اليوم لم أجد أي شخص من أولئك الذين علَّموا في الكنائس باللغة اليونانية قد دوَّن هذا التعبير في أطروحاته.[1]

القديس ساويرس الأنطاكي

 

يجب أنّ نُدرِك جيدًا أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة لا تُعنى كثيرًا بالمُصطلحات في هذه الجدلية، بل جلَّ ما يُهمها هو المعنى المقصود من وراء الكلمات. فليست المُشكلة في لفظ الخطية الأولى، أو الخطية الأصلية، أو الخطية الجِدِية، بل فيما يعنيه هذا اللفظ، فالألفاظ الثلاثة وغيرهم استخدمها آباء الكنيسة شرقًا وغربًا على مرّ العصور، لكن، المقصود كان دائمًا مُختلفًا بين الشرق والغرب.

فآباء الكنيسة الذين كتبوا باليونانية رأوا أنّ خطيئة آدم كانت الخطيئة الأولى، وأنّ الجميع خطئوا بعد الإنسان الأول. فالخطيئة الأصلية مكوّنة إذًا، في نظرهم، ليس من خطيئة آدم وحسب، بل أيضًا من خطايا جميع الناس إذ أخطأ الجميع: “من أجل ذلك كإنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” (رو5: 12).

لذلك بينما ينظر أوغسطينوس وآباء الكنيسة اللاتينيّة إلى الخطيئة في أصلها التاريخي، فيتكلمون عن “خطيئة أصلية” اقترفها آدم وانتقلت منه بالوراثة إلى جميع البشر، ينظر آباء الكنيسة اليونانية إلى الخطيئة في واقعها الإنساني الشامل. وفي هذه النظرة تصبح مسؤولية الخطيئة مسؤولية شخصية يتحمّلها جميع الناس كما تحمّلها الإنسان الأول.

قد توغَّل هذا الفكر الأوّل في اللاهوت اللاتينيّ منذ عهد بعيد، وليس كما يقول البعض مع المُطوّب أغسطينوس فقط، بل منذ العلاَّمة ترتليان (230م تقريبًا)،[2] وتلميذه كبريانوس (280م تقريبًا).

 

مفهوم الخطية الأصلية

 

الخطية انتقلت وتفشَّت بطرق وأفعال لا حصر لها؛ نحن لم نرث الخطية كفعل، بل انتقل إلينا عُنصر الخطية الفعَّال للموت، وليس أنواع الخطية.[3] أخطر ما في خطية آدم هو استماعه لصوت الشيطان، لقد ورثنا منه الأُذن المفتوحة والعين المفتوحة، والفكر المفتوح على مشورة الشيطان لإفساد الذهن والحياة برمتها. هذا هو السم القاتل في الخطية الأصلية. وهو عنصر غريب علىنا دخل في صميم ميراثنا الجسدي: “أخاف انه كما خدعت الحيه حواء بمكرها هكذا تفسد ذهنكم عن البساطة التي في المسيح” (2 كو 11: 3). لذلك أصبح من المُحتّم خلع عنصر الفساد، هذا المميت والغريب على طبيعتنا والدخيل علىنا، ونحصل بالمقابل على عنصر الشفاء كهبة تفوق طبيعتنا: “ولكن ليس كالخطية هكذا أيضًا الهبة، لأنه أنّ كان بخطية الواحد مات الكثيرون فبالأولى كثيرًا نعمة الله، العطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين” (رو5: 15).[4] بخطيئة آدم قَبِلت الطبيعة البشريّة عُنصر الموت المُلازم للخطية، فأصبحت طبيعة الإنسان خاطئة، أي واقعه تحت سلطان الخطية... نستطيع أنّ نقول إنّ عنصر الخطية كان هو فقدان النعمة والحرمان من برِّ الله، وهذا ما وقع فيه آدم عندما أقترف العصيان والتعدي على وصية الله. فالذي أمات آدم هو فقدانه لنعمة الله وبره لمَّا أخطأ. لأن نعمة الله هيَ قوة الحياة، وبرّ الله مُحيي. فنحن ورثنا من آدم ليس فعل خطيته بل الطبيعة التي فقدت نعمة الله وحُرِمَتْ من برِّ الله، الطبيعة البشريّة الخاطئة –أي المفتوحةعلى الخطيةعلى الشيطان– وليس مُجرد فعل الخطية التي اقترفها.[5]

بالنسبة للأرثوذكسيّة الخطية ليست جريمة ضد العدالة الإلهية، لكنها مرض يتلف الإنسان. لم يأتِ المسيح لكي يشفي كرامة الله المجروحة، بل ليشفي الإنسان من مرضه. بسبب الخطية صار الإنسان أسير الموت والفساد. الله حياة، والإنسان قطع نفسه عن الله مصدر الحياة الأبدية. جاء المسيح ليُعيد هذه الحياه الضائعة للإنسان. بسبب خطيئة آدم وحواء صارت الطبيعة البشريّة فاسدة وأسيرة للموت. لم يرث الإنسان ذنب خطيئة آدم. هذا ذنبٌ شخصي. بل ورث نتائج السقوط التي أصابت الطبيعة البشريّة العامة ككل. أيضًا لم نرث طبيعة مائتة فحسب، بل أيضًا طبيعة أصاب الفساد ملَّكتها. الإرادة البشريّة صارت مشلولة بالخطية وتفضل الشرّ على الخير.[6]

لكن السؤال الدائم الذي نتساءله هو: لماذا نُعاقَب على ذنب آدم؟ كما تبيّن لنا أننا لا نُعاقَب على ذنب أحدٍ، بل فقط ورثنا أو حملنا في طبيعتنا البشريّة فساد ورغبة نحو فعل الشرِ ازدادت بخطايانا الشخصية لا بخطايا أحدٍ آخر، ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

“إنه حقًا قد دخلت العبودية بواسطة خطية الأولين بسبب عصيانهم، غير أنه بعد دخولها بواسطتهم قد تسيدت على اللاحقين بسبب خطاياهم الخاصة. لأنهم أنّ كانوا قد استطاعوا أنّ يحفظوا أنفسهم من أي خطية لأمكن اعتبار اعتراضهم على حق، ولكن أنّ كانوا هم أنفسهم مسئولين فإنّ كلّ تلك الحجج لا لزوم لها”.[7]

إننا عادة ما نتكلم في الكنيسة عن سقوط الإنسان وعن الموت الذي حدث كنتيجة للسقوط. لقد حدث الموت الروحي أولًا، ثمّ تبعه الموت الجسدي. وفقدت النفس نعمة الله وكفَّت عن أنّ تكون على علاقة مع الله، ومِن ثمّ أُظلِمَت. ثمّ نقلت هذه الظلمة وهذا الموت للجسد. ويرى القديس غريغوريوس السينائي أنّ جسد الإنسان كان قد خُلِق على غير فساد، وأنه “سيقوم على هذا النحو”، وأن النفس كانت قد خُلِقَت بلا هوى. وحيث إنه كانت هُناك رابطة مُتماسكة جدًّا بين النفس والجسد بسبب تداخلهما وتواصلهما، فإنهما دخلا معًا إلى الفساد: “اكتسبت النفس سمات الأهواء أو بالأحرى سمات الشيطان، وأصبح الجسد مثل الحيوانات غير العاقلة بسبب الحالة التي سقط فيها وبسبب سيادة الفساد”. وحيث إنّ النفس والجسد قد فسدا فإنهما كوّنا معًا “كيانًا حيوانيًا واحدًا غير عاقل وعديم الحس مُعرَّضًا للغضب والشهوة”. إنه هكذا بحسب الكتاب المُقدّس كيف صار الإنسان “متحدًا بالحيوانات ومشابهًا لهم”.[8] امتلأت نفس الإنسان بالأهواء من خلال السقوط وصار جسده مثل الحيوانات وارتدى ثوب الانحلال والموت وصار مثل الحيوانات غير العاقلة.

لقد وصف الآباء بطريقة رائعة هذا المرض والعبودية وعدم الطهارة والموت الذي للنفس. أنّ كلّ خطية هيَ تكرار لخطية آدم ونعاني مع كلّ خطية من ظلمة وموت النفس الساقطة.

بالنسبة للتقليد الأرثوذكسى، فإنّ خطية آدم الأصلية تؤثر في الجنس البشريّ بكامله، ولها عواقب على المستويين المادي والأخلاقي معًا: فهي لم تُسبب فقط المرض والموت الطبيعي، بل تسببت أيضًا في الضعف والشلل الأخلاقي. فهل هيَ تتضمن أيضًا ذنبًا guilt متوارثًا؟

هُنا تتحفظ الأرثوذكسيّة جدًا. فالخطية الأصلية لا تُفسّر بمفاهيم قضائية أو شبه بيولوجية، وكأنَّها كانت وصمة عار طبيعية للذنب، تنتقل بواسطة الاتصال الجنسى. فالأرثوذكسيّة ترفض تمامًا هذه الصورة التي نقلتها النظرة الأوغسطينية (نسبة إلى أغسطينوس). أنّ تعليم الخطية الأصلية يعني بالأحرى أننا مولودون في بيئة يسهل فيها فعل الشر ويصعب فيها عمل الصلاح، يسهل فيها إيذاء الآخرين ويصعب فيها شفاء جراحهم، من السهل أنّ نثير شكوك الناس ومن الصعب أنّ نربح ثقتهم. وهذا معناه أنّ كلّ واحد فينا أصبح محكومًا بتضامن الجنس البشريّ كله في تراكم “فعل الخطأ”، “والتفكير الخطأ”، ومِن ثمّ “الكيان الخطأ”. وقد أضفنا نحن أنفسنا بأفعالنا المتّعمدة ـ إلى تراكم الخطأ هذا، فاتسعت الهوَّة أكثر فأكثر.

وفي تضامن الجنس البشريّ (في الخطية)، نجد هنا تفسيرًا لهذا الظلم الظاهري في تعليم الخطية الأصلية. ونحن نسأل، لماذا ينبغي أنّ يتألم الجنس البشريّ بأكمله بسبب سقوط آدم؟ والإجابة أنّ البشر، المخلوقين على صورة الله الثالوث، هم مُعتمدون على بعضهم البعض ويجمعهم أصلهم الفطري المُشترك معًا. فالإنسان، أي إنسان ليس جزيرة منعزلة. “لأننا بعضنا أعضاء بعض ” (أف4: 25)، ولهذا فإنّ أي فعل، يقوم به أي عضو في الجنس البشريّ، يؤثر حتمًا في كلّ الأعضاء الأُخرى. حتّى وإن كُنَّا غير “مذنبين” بالمعنى الدقيق للكلمة وأبرياء من خطايا الآخرين، إلاّ إننا - وبشكل ما - مُشتركون دائمًا معًا.

ويعلن “ألكسي خومياكوف”، “ حينما يسقط أي واحد، فإنّه يسقط وحده، ولكن ما من أحد يخلّص وحده”. أما كان ينبغي أنّ يقول أيضًا: “إنَّ لا أحد يسقط وحده؟”

وفي رواية ديستوفسكي “ الإخوة كرامازوف ”، فإنّ المرشد الروحي زُوسيما يقترب كثيرًا من الحقيقة حين يقول إنّ كلّ واحد فينا “مسئول عن كلّ واحد وعن كلّ شيء”:

“لا يوجد سوى طريق واحد للخلاص، هو أنّ تجعل نفسك مسئولًا عن خطايا كلّ الناس. وبمجرد أنّ تجعل نفسك مسئولًا بكلّ إخلاص عن كلّ شيء وعن كلّ واحد، ستجد على الفور أنّ الأمر هو في الحقيقة هكذا، وأنك في الواقع تُلام عن كلّ واحد وعن كلّ شيء”.[9]

 

الخطية الأصلية مرض أصاب البشريّة

 

تعليم القديس كيرلس


وهكذا فإنّ الآباء الشرقيّون يقرأون نصوص مثل: “كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة” (رومية 5: 19). لا بمصطلحات قضائية ولكن “طبية”. بمعنى أنّ الطبيعة البشريّة أصبحت مريضة. ويفسرها القديس كيرلس السكندري هكذا:

“بعدما سقط آدم بالخطية وغرق في الفساد، فعلى الفور تدفقت اللَّذات النجسة وانفجر قانون الغابة في أعضائنا. وهكذا أصبحت الطبيعة مريضة بالخطية من خلال معصية الواحد الذي هو آدم. وبعد ذلك صار الكثيرون خطاة لا كشركاء في المعصية مع آدم، لأنهم لم يكونوا حتّى موجودين، ولكن لكونهم من نفس الطبيعة التي سقطت تحت ناموس الخطية. لقد أصبحت الطبيعة البشريّة مريضة في آدم من خلال فساد المعصية وهكذا دخلت اليها الأهواء”.[10]

 ويستخدم نفس الأب في موضعٍ آخر صورة الجذر. لقد أتى بالموت لكلّ الجنس البشريّ، تمامًا مثلما يُصاب جذر النبات فيتعين على كلّ البراعم الصغيرة التي تأتي منه أنّ تذبل.[11]

وفي كتابه “ضد الذين يتصورون أنّ لله هيئة بشرية”، هذا الكتاب الذي يُعد مرجعًا في الأسئلة العقائدية، يكتب القديس كيرلس:

“ينبغي أنّ نفحص كيف نقل لنا آدم الأب الأوّل العقاب الذي لَحِقَه من جرّاء مخالفته.. من غير الفساد صار فاسدًا خاضعًا للموت، وعندما صار الإنسان الساقط بالفعل في الموت أولادٌ، أي هؤلاء الذين ولدوا منه، وُلِدنا نحن فاسدين بما أننا أتينا من الفاسد، وبهذه الطريقة نحن وارثون لعنة آدم، لكن، على أية حال، لم نُعاقب لأننا مُذنبين مع آدم، أو خالفنا الوصية التي أوصيَّ بها ذاك، لكن، كما قلت، لأن الإنسان حين صار مائتًا، نقل اللعنة للأولاد الذين ولدهم، أي صرنا فانون من الفاني.. نستنتج إذًا أنّ اللعنة الجامعة والعامة لمُخالفة آدم هيَ الفساد والموت”.[12]

ذات التعليم الذي يُكرره في كتابه التفسيري “جلافيرا”:

“لإنه يكون من الجهل أنّ نعتقد بأن قوة لعنة آدم الذي كان أرضيًا وإنسانًا قد نُقِلَت بطريقة طبيعية إلى الجنس البشريّ كما لو كانت ميراثًا، بينما نزعم أنّ هؤلاء الذين يفضلون أنّ يعيشوا معه حياة الإيمان لا يشتركون في الحياة الغنية التي لعمانوئيل الذي أتى من فوق ومن السماء، وهو من طبيعة الله، وهو الذي صار شبيهًا بنا، أي صار آدم الثاني. لأننا صرنا جسدًا واحدًا معه بواسطة البركة السرائرية. واتحدنا بطريقة أُخرى معًا، لأننا صرنا شُركاء طبيعته بالروح. لأن الروح سكن في نفوس القديسين، وكما يقول يوحنا الطوباوى: ‘وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا’ (1يو24:3)”.[13]

“حينما تعرّض آدم للسقوط في الخطية، وغاص فيها حتّى وصل إلى أعماق الفساد والموت، من هذا الوقت فصاعدًا بدأت الشهوات غير الطاهرة مُهاجمتها للطبيعة الجسدية، وبدأ ناموس الخطية ينشب أظافره في أعضائنا، ولذلك، فالطبيعة البشريّة احتضنت مرض الخطية من خلال عصيان إنسان واحد هو آدم، وبهذه الطريقة أصبح الكثيرون خطاة، ليس هكذا بتعديهم الفعلي، لأنهم لم يكونوا قد وجدوا في الحياة الفعلية بعد، ولكن، إذ صار لهم نفس الطبيعة البشريّة، سقطوا تحت ناموس الخطية مثل آدم... وهكذا نمت الطبيعة البشريّة ضعيفة، وقابلة للفساد في شخص آدم، بسبب فعل المعصية، وهكذا دخلت في مُعاناة الآلام.. ولكن، في شخص المسيح، نالت البشريّة حريتها، وصارت مُطيعة للآب، ولم تعد ترتكب الخطية”.[14]

 

تعاليم الآباء الشرقيين

 

ويكتب ذهبي الفم نافيًا عنَّا وراثة الذنب من آدم:

“ربّما يقول أحد: لماذا أُعاني أنا؟ هل بسبب آدم سأهلك أنا؟ بالتأكيد ليس بسبب آدم، فأنت أيضًا لم تبق هكذا بلا خطية، بل حتّى وإن كنت لم ترتكب نفس الخطية، لكنك على أية حال أرتكبت خطية أُخرى”.[15]

ويكتب أيضًا:

"لأن الطفل لا يتكبد العقوبة من أجل أبويه".[16]

ويكتب أيضًا:

"لا يجوز أن يُعاقب أحد إذا أخطأ آخر، فقد أزال هذا الوهم بلسان حزقيال النبي إذ قال: "وكان إليّ كلام الرب قائلاً: ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم، وأسنان الأبناء ضرست. حي أنا يقول السيد الرب لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل. ها كل النفوس هي لي، نفس الآب كنفس الابن، كلاهما لي النفس التي تخطئ هي تموت" (حز 18: 1-4). هذا وقد قال موسى النبي: "لا يُقتل الآباء عن الأبناء، ولا يُقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيته يُقتل" (تث 24: 16).

فإن قال قائل: فكيف قال الرب لموسى النبي: "لأني أنا الرب إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي" (خر 20: 5)؟ فنقول له: إن هذه القضية ليست كلية، لكنها إنما قيلت عن أناسٍ من الذين خرجوا من مصر، فالذي يقول هذا معناه: لما خرج اليهود من مصر وصاروا بعد رؤيتهم لآيات وعجائب أشر من والديهم وأجدادهم الذين لم يشاهدوا مثل هذه العجائب، سيقاسون المصائب نفسها التي قاساها أولئك إذ قد تجاسروا على هذه الأعمال نفسها".[17]

هذا أيضًا ما يؤكده القديس يوستينوس، هذا الفيلسوف المُدافع عن المسيحيّة، والذي كان سباقًا في نحت الألفاظ اللاهوتيّة الخاصة بالتعليم النظامي، مثله في ذلك كمثل بني عصره جميعهم، إذ يكتب:

“إنّ المسيح لم يتنازل ويولد ويُصلب لأنه كان مُحتاجًا للميلاد أو الصلب، بل فعل هذا فقط لأجل الإنسان الذي منذ وقت آدم وهو ساقط تحت سلطان الموت وغواية الحية، إذ كان لكلّ إنسان تعدياته وشروره الخاصة”.[18]

 

تعاليم الكنيسة القبطية في العصر الحديث


هذا التعليم الآبائيّ هو الذي ترَّسخ في وعي كنيستنا القبطيّة، على مدى العصور، وليس كما يقول البعض بإنّ كنيستنا قد مرّت بعصور وُسطى أثرت في تعاليمها ولاهوتها كما حدث في الغرب، فهذا غير صحيح على الإطلاق، فالكتابات القبطيّة الأرثوذكسيّة ظلّت مُحافظة على طابعها الآبائي الشرقيّ على مدى العصور، وحتى القرن التاسع عشر، والذي حدث فيه اختلاط بين ثقافتنا السكندرية الشرقيّة، والثقافة الغربية، بسبب فترات الاحتلال التي مرّت بها بلادنا الشرق أوسطية.

فبالرجوع إلى الكتابات القبطيّة في القرن الثالث عشر والرابع عشر نجد أنّها لم تحِد قيد أنمُلة عن كتابات الآباء الشرقيّين، فمن يتصفح كتابات أبناء العسال وابن كاتب قيصر وغيرهم من علماء القبط في ذلك الزمان، فإنّه سوف يُفاجأ من مدى التطابق بين ما يُعلمون به، وما تركه لنا آبائنا الأولين.

ربما قد تشذّبت عقولهم بتعاليم الآباء التي حُفِظت بالقبطيّة في بعض النُسخ التي هيَ الآن زخيرة حية داخل أديرتنا العامرة. فها هو أبي إسحق بن أبي الفضل بن العسّال، المُكنَّى بـ“مؤتمن الدولة”، في كتابه الأشهر: “أبلغ الوسائل إلى علّم الرسائل”، والذي يُعد دراسة مُختصرة جيدة جدًّا عن رسائل وتعاليم القديس بولس الرسول، وفي معرض حديثه عن رسالة روميه نجده يكتب:

“إنَّ خطية آدم كانت موجبة لموته وموت الناس جميعًا، أمَّا تسلط الموت على آدم فكان بسبب مُخالفة ربه، وبأكله من الشجرة، وأمّا تسلطه على بنيه فلأجل ما يفعلوا من خطايا. فآدم أظهر الخطية الموجبة للموت، إلَّا إنّ أفعالها اختلفت منه ومن بنيه.. أمَّا قوله أنّ الموت تسلط على الذين لم يُخطئوا، فيُشير إلى الأنبياء والمُرسلين كموسى وبطرس الذيّن لم تُعد لهم خطايا كبار، بل سهوات وهفوات”.[19]

ومُعاصره ابن كاتب قيصر[20] يقول:

“إن الخطية دخلت إلى العالم بتوسط إنسان واحد، وبها ملّك الموت على كلّ الناس من آدم إلى موسى، وليس لأنهم أخطأوا كخطيئة آدم من أكل الشجرة، لكن فعلوا غير ذلك من الخطايا”.[21]

والشمَّاس العلاَّمة يوسف حبيب، يكتب في تفسيره الآبائي الذي وضعه على مزمور التوبة:

يتكلّم داود عن الجسد فيقول إنه بالإثم صوِّر، قد شوّهته الخطية، ليس كما خلقه الله، لكن، كما من أبوينا الأولين، فإننا دخلنا إلى العالم ومعنا طبيعة فاسدة، تدهوّرت من الهارة والاستقامة الأولى، لصورة تعسة، ولدينا فخاخ الخطية منذ ولدنا، في أجسادنا وفي أنفسنا بذور الخطية، وعلينا لطخة الإثم، هذه هيَ الخطية الأصلية، هيَ السبب في تعدياتنا الفعلّية، وهيَ الجهل الذي يوجد في قلب الإنسان، والاشتياق للشرّ، والتخلُّف عن الصلاح”.[22]

والقس منسّى يوحنا، والذي هو من أعلام الأقباط في القرن العشرين، يكتب:

“إنّ الخطيئة الأصلية ليست إثمًا نرتكبه بإردتنا، ولا يحكم الله عليه بالعذاب حاسبًا إياها على إرادتنا، بل هيَ موت النفس، والموت هو الخلو من الحياة، وحياة النفس الروحية هيَ النعمة المُبرِّرة، فالخطيئة الأصلية هيَ خلو من البر الأصلي، أي الخلو من النعمة المُبررة، وضياع الحالة المجانية الأولى، لأن ذريته صاروا يولدون دون هذه النعمة”.[23]

ونيافة المُتنيح الأنبا أثناسيوس مُطران بني سويف، وفي مَعرِض تفسيره لرسالة رومية، يقول:

“يقول البعض إنّنا نرث خطية آدم، ونؤمن لكي تُغفر لنا هذه الخطية، لكن الكتاب يقول عكس ذلك على لسان إرميا النبي (31: 29 - 30)، وحزقيال النبي (حز18: 2 - 4)، بل أنّ الخطية ساكنة في الطبيعة البشريّة، ونحن نأخذ منها ونُحاسب على خطايانا نحن (انظر: يع1: 13 - 14). لو كُنَّا نُحاسب على خطية أبينا آدم لكانت غُفِرت منذ أنّ تمّ الفداء والعفو عن آدم (زك9: 11 - 12).. فمهما كانت خطايا البشر وجُمِعت كلها، فإنها تُعد محدودة، أمَّا فداء يسوع فإنّه غير محدود..[24] فالإنسان يفعل الشر ويموت بخطيته هو وليس بإثم غيره”.[25]

 

عن كتاب: قصة الحب العجيب، قراءة في لاهوت الخلق والسقوط والفداء، أمجد بشارة، 2017

[1] Contra Additiones Juliani, (CSCO 296), P. 27 - 28.

[2] العفة 2: 5.

[3]الأب متى المسكين. القديس بولس الرسول، حياته. لاهوته. أعماله، ص 234.

[4]المرجع السابق، ص 235.

[5]المرجع السابق، ص 234.

[6]د/ عدنان أديب طرابلسي ومجموعة من العلماء واللاهوتيّين الأرثوذكس. سألتني فأجبتك الجزء الأول. ص 289.

[7] يوحنا ذهبي الفم (القديس). عظات على سفر التكوين. ترجمة د/ جورج فرج ومراجعة د/ جورج عوض إبراهيم. ص 90.

[8] Acrostics, 82. Writings, p. 52.

[9] كاليستوس وير، الطريق الأرثوذكسيّ، ص 88، 89.

[10] Commentary on Epistle to the Romans. PG 64, 788f.

[11] Ibid. PG 64, 785f.

[12] ضد الذين يتصورون أنّ لله هيئة بشرية، 8.

[13] تعليقات لامعة على سفر التكوين، 3.

[14] PG. 74, 788D - 789B.

[15] تفسير كورنثوس الأولى 17: 5.

[16] Homilies on St. John, 56: 1.

[17] Hom. 56. PG 59:327.

[18] الحوار مع تريفو 88: 4.

[19] مؤتمن الدولة بن العسال، أبلغ الوسائل إلى علّم الرسائل، تقديم ومُراجعة الأنبا ديمتريوس أسقف ملوي (مريوط: دير الشهيد مارمينا العجائبي)، ص 89.

[20] علّم الرئاسة أبو إسحق إبراهيم ولد الثناء ابن صفي الدولة أبي الفضائل كاتب قيصر، وكنيته ابن كاتب قيصر، أحد العلماء الأقباط في القرن الثالث عشر، كان أباه صفي الدولة كاتبًا للأمير علم الدين قيصر. كان مُعاصرًا لأولاد العسّال، ولحق أيام ابن الراهب. له كتاب عن قواعد اللغة القبطيّة، وتفسير لسفر الرؤيا، وتفاسير على رسائل بولس الرسول (المسيحيّة والحضارة العربية، الأب الدكتور جورج شحاته قنواتي، ص 193).

[21] ابن كاتب قيصر، تفسير رسالة رومية (القاهرة: جمعية أبناء الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة)، ص 108.

[22]  يوسف حبيب، تفسير مزمور التوبة، لكبار آباء الكنيسة، 1975، ص 27.

[23] القس منسى يوحنا، حياة آدم، ص 105.

[24] أثناسيوس (نيافة مُثلث الرحمات الأنبا)، رسالة رومية (بني سويف: لجنة التحرير والنشر بمطرانية بني سويف، 1997)، ص 65.

[25] المرجع السابق، ص 19.

الاثنين، 2 أكتوبر 2023

يسوع وعلم الساعة!

 


"«وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ الابْنُ، إِلاَّ الآبُ."  περὶ δὲ τῆς ἡμέρας ἐκείνης ἢ τῆς ὥρας οὐδεὶς οἶδεν, οὐδὲ οἱ ἄγγελοι ἐν οὐρανῷ οὐδὲ ὁ υἱός, εἰ μὴ ὁ πατήρ. (مر 13: 32).

 

معرفة الساعة في التقليد اليهودي:[1]


التقاليد اليهودية أن الله يعرف كل شيء، بما في ذلك المستقبل (على سبيل المثال، إشعياء 46: 10؛ زك 14: 7؛ عزرا 4: 51-52؛ 2 بار 21: 8).

هناك أيضًا تقاليد تعلن أن البشر، أو حتى الملائكة، لا يعرفون ولا يمكنهم معرفة المستقبل.

4 عزرا 4: 44-52، حيث يسأل عزرا عما إذا كان سيكون على قيد الحياة في الأيام الأخيرة فيقول له الملاك: "أنا لا أعرف".

وفي مزامير سليمان 17: 21، حيث يطلب صاحب المزمور من الله أن "يقيم لهم ملكهم ابن داود ليسود على عبدك إسرائيل في الوقت الذي تعلمه يا الله".

وأيضًا (2 بار 21: 8) يقول في صلاة إلى الله: "أنت وحدك تعلم نهاية الأزمنة قبل أن تأتي".

في مناقشة طول فترة حكم المسيح (b. Sanh. 99a)، يعلق الحاخام سمعان بن لاكيش على أن إشعياء 63: 4، 

"لأن يوم الانتقام كان في قلبي، وجاءت سنة فدائي،" ضمنيًا. أن الله لم يكشف عن خططه الأخروية للملائكة، لأن معرفة هذا اليوم هي في قلب الله فقط، وليس في قلب أحد آخر.

تعليق يهودي آخر على خروج 16: 28-36 [Wayyassa˓ §6]، 

"لا أحد يعلم متى ستُعاد مملكة بيت داود إلى وضعها السابق، ولا متى ستُقتلع هذه المملكة الشريرة [أي روما]."

 

ماذا يقول العهد الجديد:

 

"كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ." (يو 16: 15).

"الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ." (كو 2: 3).

"فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا." (كو 2: 9).

لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ." (يو 2: 25).

"اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ." (يو 16: 30). 

«يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ." (يو 21: 17).

"كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ." (مت 11: 27).

 

تغيب عبارة "ولا الابن" عن الفولجاتا اللاتينية وكثير من النسخ السريانية والقبطية، كما يغيب عن نص الأغلبية أيضًا (Majority Text) لذا نجد بعض الآباء كأمبرسيوس وجيروم يقولون أن هذه العبارة تم إقحامها بواسطة الآريوسيين.[2]

 

فقرات مثل متى 11: 27؛ يوحنا ١٠: ١٥؛ 16:15؛ وأعمال الرسل ١: ٧، توضح أن يسوع كان يعرف وقت النهاية.[3] ففي النهاية، كان يعرف علامات الدينونة المستقبلية، لذا لا بد أنه كان يعرف يومها وساعتها أيضًا.[4] يؤكد كثيرون،[5] أن معنى الآية هو أنه على الرغم من أن يسوع نفسه كان يعرف "الساعة"، إلا أنه حجب معرفتها عن تلاميذه. أحد نصوص الإثبات الأكثر شيوعًا هو أعمال الرسل 1: 7، "ليس لكم [أيها التلاميذ] أن تعرفوا الأزمنة والأوقات": لم يقل المسيح، "ليس لي أن أعرف" بل "ليس لكم أن تعرفوا"،[6] مما يعني أنه هو نفسه يعرف.[7]

 

يقول القديس هيلاري اسقف بواتييه:[8]

لأنه في كل الأحوال التي يعلن فيها الله أنه يجهل، فهو ليس تحت سلطان الجهل، ولكن إما أن هذا ليس وقتًا مناسبًا للكلام، أو أنه يقصد عدم البوح. ولكن إذا قيل إن الله قد عرف أن إبراهيم أحبه، بينما لم يخف تلك المعرفة عن إبراهيم، فيترتب على ذلك أن الآب يعرف اليوم، لأنه لم يخفها عن الابن. (تك 22: 12)، على العكس من ذلك يقال إن الآب وحده يعرف، لأنه ليس صامتًا. ولكن حاشا لله أن تنسب أي تغييرات جسدية جديدة إلى الآب أو الابن. أخيرًا، ولئلا يقال عنه إنه يجهل من الضعف، أضاف على الفور: "انتبهوا واسهروا وصلوا لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت".[9]

هل من المعقول أن الشخص الذي يقف على كل الأشياء باعتباره خالق الزمان، الحاضر والمستقبل، ألا يعرف كل شيء؟ هل يمكن لأي شيء أن يكون بعيدًا عن متناول طبيعته، والذي من خلاله يتم تنفيذ واحتواء كل ما هو كائن وما سيكون؟ عندما يقول الله إنه لا يعلم، فهو يعترف بالجهل حقًا، لكنه ليس تحت عيب الجهل. ليس بسبب ضعف الجهل الذي لا يعرفه، بل لأنه لم يحن بعد وقت الكلام، أو في الخطة الإلهية للعمل.[10]

 

ويقول أغسطينوس:

إنه يجهل هذا بالمعنى الخاص الذي يجعل الآخرين يجهلونها. ولم "يعرف" أي لا يعرف أن يكشفها لهم الآن. تذكر أنه بطريقة مماثلة قيل لإبراهيم: "الآن علمت أنك خائف الله"، بمعنى أنني الآن آخذك خلال رحلة مستمرة لتعرف نفسك، لأن إبراهيم لم يعرف نفسه إلا بعد اختبر في محنته…. لم يكن يسوع يعرف ما كان تلاميذه غير قادرين على معرفته بعد. لقد قال فقط ما كان مناسبًا لهم أن يعرفوه في ذلك الوقت.[11]

ولم يكن جزءًا من مقامه كسيدنا أن من خلاله يجب أن نعرف اليوم. ويبقى صحيحًا أن الآب لا يعرف شيئًا لا يعرفه الابن، لأن ابنه، الكلمة، هو حكمته، وحكمته أن يعرف. ولكن لم يكن من خيرنا أن نعرف كل ما كان معروفاً للذي جاء ليعلمنا. من المؤكد أنه لم يأت ليعلمنا ما ليس من الجيد لنا أن نعرفه. بصفته معلمًا، قام بتعليم بعض الأشياء وترك أشياء أخرى دون تدريس. لقد عرف كيف يعلمنا ما هو جيد لنا أن نعرفه، وكيف لا يعلمنا ما ليس من الجيد أن نعرفه. ووفقًا لهذا الشكل الشائع من الكلام يقال إن الابن "لا يعرف" ما لم يختار أن يعلمه. نحن معتادون على التحدث بهذه الطريقة يوميًا. وبناء على ذلك يقال إنه "لا يعرف" ما يجعلنا لا نعرفه.[12]

 

بينما يقدم أثناسيوس تفسيرًا مفاده،[13] أن المسيح عرف الساعة في طبيعته الإلهية ولكن ليس في طبيعته البشرية. واتفق معه أيضًا غريغوريوس النيزنزي وبعض الآباء الآخرين. يقول أثناسيوس:

لأنه أيضًا، كإنسان، يحيا في حدود الحالة الإنسانية. لقد قال هذا ليُظهر أنه، كإنسان عادي، لا يعرف المستقبل، لأن الجهل بالمستقبل هو سمة الحالة الإنسانية. وبقدر ما يُنظر إليه بحسب لاهوته على أنه الكلمة الآتي والديان وعريسًا، فإنه يعرف متى وفي أية ساعة سيأتي…. لأنه عندما أصبح إنسانًا، فإنه يجوع ويعطش ويتألم، مع جميع البشر، تمامًا مثل الإنسان، فهو لا يرى المستقبل. ولكنه بحسب لاهوته ككلمة الآب وحكمته، فهو يعرف، وليس هناك شيء لا يعرفه.[14]

 

ويوافقه أيضًا غريغوريوس النيزنزي:

كيف يمكن أن يجهل مصدر الحكمة أي شيء أي الحكمة التي خلقت العالم، والتي تكمل الكل، والتي تعيد تشكيل الكل الذي هو غاية كل المخلوقات، الذي يعرف أشياء الله وروح الإنسان، ويعلم ما يكمن في الأعماق؟ لأنه أي شيء يمكن أن يكون أكمل من هذه المعرفة؟ فكيف يمكنك أن تقول إنه يعرف بدقة كل ما قبل تلك الساعة، وكل ما سيحدث عن وقت النهاية، لكنه يجهل الساعة نفسها؟ لأن مثل هذا الشيء سيكون مثل اللغز. وكأنه يقول إنه يعرف بدقة كل ما أمام الجدار، لكنه لا يعرف الجدار نفسه. أو أنه يعلم آخر النهار ولا يعرف أول الليل. ومع ذلك فإن معرفة أحدهما تعني بالضرورة الآخر.

وهكذا يجب على الجميع أن يدركوا أن الابن يعرف كإله، ولا يعرف كإنسان (إذا جاز لنا، لأغراض البرهنة، أن نميز بين ما يُدرك بالبصر وما يُدرك بالفكر وحده). لأن الاستخدام المطلق وغير المشروط لاسم "الابن" في هذا المقطع، دون إضافة ابن الله، يقودنا إلى هذا الاستنتاج: علينا أن نفهم الجهل بالمعنى الأكثر احترامًا، من خلال نسبته إلى ابنه البشري. إلى الإنسان وليس إلى اللاهوت.[15]

 

بينما يذهب الأب متى المسكين إلى بعض لاهوتي آخر، متعلق بأن الساعة هي خارج الزمن ونهايته، فيقول:

هذا اليوم هو ليس يوماً بعد، وهذه ساعة ليست ساعة، فنحن عند ذلك نكون خارج الزمان، لأن مجيء ابن الإنسان هو اكتمال زمان الأُمم، فيكون "قد كمل الزمان"، فابن الإنسان بحسب إرساليته من الآب جاء ليخدم زمن الخلاص للأُمم وللعائدين من إسرائيل. وخارج زمن الخلاص ماذا هو وماذا يكون فهو في معرفة الآب "ومتى أخضع له الكل (الآب) فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل" (1كو 28:15)، حيث لا زمان بعد بل أبدية سعيدة. بمعنى أن يوم انتهاء الزمان ليس من اختصاص أهل الزمان، ولا هو من اختصاص العاملين لحساب الإنسان في الزمان، سواء ملائكة السماء أو حتى ابن الإنسان. إذ أن هذا اليوم داخل في تدبير الأبد الذي هو لله وحده.[16]

 

يجب ألا نغفل حقيقة أن غرض القول في إنجيل مرقس ليس في المقام الأول تعليم حقيقة كريستولوجية بل أن يكون بمثابة أساس لحث الكنيسة على أن تكون مستعدة في كل وقت للمجيء "ذلك اليوم" لأنه لا يعلم أحد متى يأتي رب البيت (13: 33، 35).[17]

فردًا على سؤال التلاميذ: "متى يكون هذا؟" (الآية 3)، يقول يسوع: لا أحد يعرف، ولا الابن، إلا الآب وحده. في حياته المتجسدة، تعلم يسوع أشياء كما يتعلمها البشر الآخرون (راجع لوقا ٢: ٥٢؛ عب ٥: ٨). ومن ناحية أخرى، كان يسوع أيضًا الله الكامل، وكإله، كانت لديه معرفة غير محدودة (راجع يوحنا ٢: ٢٥؛ ١٦: ٣٠؛ ٢١: ١٧).

ومن الواضح أنه يتحدث هنا من حيث طبيعته البشرية. وهذا مشابه لأقوال أخرى عن يسوع والتي يمكن أن تكون صحيحة عن طبيعته البشرية فقط، وليس عن طبيعته الإلهية (لقد نما وقوي، لوقا ٢: ٤٠؛ وازدادت قامته، لوقا ٢: ٥٢؛ وكان عمره حوالي ٣٠ عامًا، لوقا 3: 23؛ كان متعبا، يوحنا 4: 6؛ كان عطشانا، يوحنا 19: 28؛ جاع، متى 4: 2؛ صلب، 1 كورنثوس 2: 8).

وإذ أخذ في الاعتبار هذه الآيات، مع آيات كثيرة تؤكد ألوهية المسيح، فالمسيح كان “كاملاً في اللاهوت، وكاملاً أيضاً في الناسوت (أي طبيعته البشرية)؛ كان إنسان حقيقي وإله حقيقي معًا. ومع ذلك فإن يسوع كان "شخصًا واحدًا وأقنومًا واحدًا". وفيما يتعلق بخصائص طبيعته البشرية وطبيعته الإلهية، أكد الإيمان المسيحي أن المسيح “معترف به في طبيعتين، غير مختلطتين، غير متغيرتين، غير منقسمتين، غير منفصلتين؛ لا يتم بأي حال من الأحوال إلغاء التمييز بين الطبائع من خلال الاتحاد، بل يتم الحفاظ على خصائص كل طبيعة. وهذا يعني الحفاظ على خصائص الإله وخصائص الإنسان. إن كيفية حصول يسوع على معرفة محدودة ومع ذلك معرفة كل شيء أمر صعب، ويظل لغزًا، لأنه لم يكن أي شخص آخر إلهًا وإنسانًا في نفس الوقت. أحد الاحتمالات هو أن يسوع عاش بانتظام على أساس معرفته الإنسانية، لكنه كان يستطيع في أي وقت أن يستحضر إلى ذهنه أي شيء من معرفته اللامتناهية.[18]

ويقدم العهد الجديد تجسد الابن كفترة اتضاع وطاعة (في2: 5-11). عندما أصبح الابن إنسانًا، لم يتوقف عن كونه إلهًا، لكنه تنازل ليعيش كما ينبغي للبشر بشكل لائق – في الاعتماد الكامل على الله الآب والخضوع له بقوة الروح القدس. عند هذه النقطة، وحده الآب يعرف توقيت مجيء يسوع الثاني.[19]

فهذا ليس إنكارًا لعلم ربنا الإلهي، بل مجرد تأكيدًا على أنه في تدبير الفداء البشري، لم يكن له أن "يعرف الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب بسلطانه" أعمال 1: 7. عرف يسوع أنه سيأتي مرة أخرى، وكثيرًا ما تحدث عن مجيئه الثاني، ولكن لم يقع على عاتق منصبه كـ"ابن متجسد" تحديد تاريخ عودته.[20] فهنا عدم المعرفة يعني عدم امكانية كشف هذا العلم للآخرين.[21]

 

الهدف من النص:

"اِسْهَرُوا إِذًا وَتَضَرَّعُوا فِي كُلِّ حِينٍ، لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلًا لِلنَّجَاةِ مِنْ جَمِيعِ هذَا الْمُزْمِعِ أَنْ يَكُونَ، وَتَقِفُوا قُدَّامَ ابْنِ الإِنْسَانِ»." (لو 21: 36).

"اُنْظُرُوا! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ." (مر 13: 33).

"اِسْهَرُوا إِذًا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَمْ صَبَاحًا." (مر 13: 35).

"«اِسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي رَبُّكُمْ." (مت 24: 42).

"فَاسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ." (مت 25: 13).[22]

 

الخلاصة:

1- النصوص الكتابية تؤكد أن المسيح هو خالق الزمان وسيده.

2- النصوص الكتابية تؤكد أن المسيح حدد بدقة جميع الأحداث التي تسبق مجيئه.

3- الساعة يقصد بها المجيء الثاني للمسيح، للمسيح نفسه وليس أي شخص آخر، فكيف لا يعرف صاحب الساعة والعريس موعد العُرس؟

4- يتفق المفسرون سواء من الآباء أو المعاصرون أن المسيح يعرف الساعة بلاهوته.

5- يوضح كل مفسر بطريقته سبب ذكر تلك العبارة، فالبعض أرجعها إلى عدم قدرة التلاميذ على معرفة الساعة وهو لا يعرف أن يضرنا، وبعضهم أرجعها إلى أن المسيح أخلى نفسه كما جاء في رسالة فيلبي، ففي مرحلة الإخلاء هذه كان خاضعًا لحدود الزمن والإنسانية، ولهذا قال بحق أنه لا يعرف الساعة، وهذا ما تغير بمجرد قيامته حيث أوضح أنه ليس جيدًا لهم هم أن يعرفوا الساعة، وليس له هو.



[1] Craig A. Evans, Word Biblical Commentary: Mark 8:27-16:20, Word Biblical Commentary (Dallas: Word, Incorporated, 2002). 336.

[2] Ambrose, On Faith 5.16.191–93; Jerome, Commentary on Matthew 4

Joel Marcus, Mark 8-16: A New Translation With Introduction and Commentary (New Haven;  London: Yale University Press, 2009). 913.

[3] Madigan, K. “Christus Nesciens? Was Christ Ignorant of the Day of Judgment? Arian and Orthodox Interpretations of Mark 13:32 in the Ancient Latin West.” HTR 96 (2003): 255–78.

[4] Ambrose, Exposition of Luke 8.35; On Faith 5.16.206–7

[5] مثل أوغسطينوس (في الثالوث 1.12.1)

[6] Joel Marcus, Mark 8-16: A New Translation With Introduction and Commentary (New Haven;  London: Yale University Press, 2009). 914.

[7] see Ambrose, On Faith 5.17.212; Jerome, Commentary on Matthew 4; Augustine, Question 60

[8] de Trin. Ix, On the Trinity 9.58-62

[9] Saint Thomas Aquinas and John Henry Newman, Catena Aurea: Commentary on the Four Gospels, Collected Out of the Works of the Fathers, Volume 2: St. Mark (Oxford: John Henry Parker, 1842). 269.

[10] Thomas C. Oden and Christopher A. Hall, Mark, Ancient Christian Commentary on Scripture NT 2. (Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 2005). 193.

[11] On the Trinity 1.12.23.

[12] On the Psalms 37.1

[13] Four Discourses Against the Arians 3.46

[14] ضد الآريوسيين 3: 46

[15] Oration 30, On the Son, Second Oration 15

[16] تفسير إنجيل القديس مرقس، 13: 32.

[17] Robert H. Stein, Baker Exegetical Commentary on the New Testament: Mark (Grand Rapids, MI: Baker Academic, 2008). 623.

[18] Crossway Bibles, The ESV Study Bible (Wheaton, IL: Crossway Bibles, 2008). 1875; see also: Robert Jamieson, A. R. Fausset, A. R. Fausset, David Brown and David Brown, A Commentary, Critical and Explanatory, on the Old and New Testaments (Oak Harbor, WA: Logos Research Systems, Inc., 1997). Mk 13:32.

[19] Ted Cabal, Chad Owen Brand, E. Ray Clendenen, Paul Copan, J.P. Moreland and Doug Powell, The Apologetics Study Bible: Real Questions, Straight Answers, Stronger Faith (Nashville, TN: Holman Bible Publishers, 2007). 1496.

[20]  James H. Brookes, “I Am Coming,” p. 40

[21] William MacDonald and Arthur Farstad, Believer's Bible Commentary : Old and New Testaments (Nashville: Thomas Nelson, 1997, c1995). Mk 13:32.

[22] وهذا يثبت عبث وخطيئة كل محاولة من جانب الإنسان للتنبؤ بالتاريخ الذي سيعود فيه يسوع، سواء كان ذلك التاريخ المتخيل هو 1843، 1844، أو على وجه التحديد 22 أكتوبر 1844، أو خريف 1914، أو أي تاريخ لاحق. انظر سفر التثنية. 29:29. الفضول رائع. ليس هناك عذر للفضول والتطفل والوقاحة.

William Hendriksen and Simon J. Kistemaker, New Testament Commentary: Exposition of the Gospel According to Mark, New Testament Commentary (Grand Rapids: Baker Book House, 1953-2001). 541.