الأحد، 23 مايو 2021

عن الثالوث القدوس .. شرح ابائي مُختصر

 

الله طبيعته روح بسيط ، بسيط بمعني مش مركب ولا مكون من اجزاءلان الله منذ الازل و هو ثالوث لم يتغير و لم يتحول من مفرد الي جمع ، و هو من الاصل ليس جمع بالمفهوم البشري لان الله لا ينطبق عليه العلوم البشريه ، بمعني اني مينفعش اجمع الله او اقول انه واحد بالعدد واحد في الوقت اللي هو فيه كائن في الكل و بيحتوي الكل .. . بيقول القديس يوحنا الدمشقي : [ و نقول ان لكل من الثلاثة اقنومه الكامل , لئلا نوهم بانهم طبيعة واحدة كاملة مركبة من ثلاثة غير كامل , و نقول ايضا ان في الاقانيم الثلاثة الكاملين جوهرا بسيطا واحدا فائق الكمال و قبل الكمال . لان كل مجموعة من غير كاملين تكون حتما مركبة , و لا يمكن ايجاد مركب من ثلاثة اقانيم . لذلك فنحن لا نتكلم عن نوعهم انه من اقانيم بل انه في ثلاثة اقانيم . و قد سميناها ناقصة تلك الاشياء التي لا تحتفظ بنوع الصنع المصنوع منها . فالحجر و الخشب و الحديد كل منها كامل بذاته في طبيعته الخاصة . اما بالنظر الي البيت المصنوع منها فكل منها ناقص . لان كل منها ليس في ذاته بيتا
و عليه اننا نقول بان الاقانيم كاملون لئلا نفكر بتركيب في الطبيعة الالهية . فالتركيب بدء التقسيم . و نقول ايضا ان كلا من الاقانيم الثلاثة هو في الاخر , لئلا نصير الي كثرة و جمهرة من الالهة . لذلك نقر بعدم تركيب الاقانيم الثلاثة و بعدم اختلاطهم , و لذلك ايضا نعترف بتساوي الاقانيم في الجوهر و بأن كل واحد منهم هو في الاخر و بأنها هي هي مشيئتهم و فعلهم و قوتهم و سلطتهم و حركتهم - اذا صح التعبير , و بأنهم اله واحد غير منقسم . فأن الله واحد حقا و هو الله و كلمته و روحه ...](1)

و يستخدم الاباء تعبير الاحتواء المتبادل ، و يعني ان الاقانيم الالهيه هي في احتواء دائم متبادل فيما بينها او بمعني اخر كل اقنوم هو بكامله و كماله ساكن في الاقنوم الاخر و لذلك نري كل اقنوم فيه كل الله و ليس جزء من الله و هذا ما قصده المسيح من قوله انا في الآب و الآب في .. يقول القديس كيرلس السكندري : [ " فالطبيعة الإلهية هي طبيعة بسيطة غير مركبة , ولا مثيل لها , تتسع لخصائص الأقانيم و تمايز الأشخاص و الأسماء , و تُعرف في ثالوث متحد إتحاداً طبيعياً و في تطابق لا يتغير من كل جهة فيها , تجعل الله واحد و هو بالأسم و الفعل هكذا , حتى أنه يكون لكل أقنوم من الأقانيم الثلاثة كمال الطبيعة , مع ما لكل منهم من خصائص , أي لكل منهم أقنومه الخاص . لأن كل أقنوم يظل على ما هو عليه , لكن بوحدته حسب الطبيعة - مع الأقنومين الآخرين يكون له الطبيعة ذاتها . لأن الآب يوجد في الإبن و الإبن في الروح القدس , و بالمثل الإبن و الروح يوجدان في الآب , الواحد في الآخر ....](2) ، و يقول ايضاً القديس يوحنا الدمشقي : [ ان اللاهوت لا يمكن ان ينقسم الي اقسام , و هو علي نحو ما يصير في ثلاثة شموس متواجدة بعضها في بعض و هي لا تنفصل , فيكون مزيج النور واحد و الاضائة واحدة . اذا عندما ننظر الي اللاهوت , علي انه العلة الاولي , و الرئاسة الواحدة , و الواحد , و حركة اللاهوت و مشيئته الواحدة - اذا صح القول - , و قوة الجوهر و فعل سيادته ذاتها , فالذي يتصور في ذهننا هو الواحد . ] (3) .

و ايضاً نؤمن بإن كل عمل يصدر عن احد الاقانيم كتخصيص هو صادر من الله بكامله و كماله ، فيقول القديس العلامه ديديموس الضرير : [ كل من يتصل بالروح القدس، ففي نفس اللحظة هو يتقابل مع الآب والابن. وكل من يشترك في مجد الآب، فأن هذا المجد في الواقع هو ممنوح له من الابن بالروح القدس . ](4) . و يقول ايضاً القديس اثناسيوس الرسولي : [ الثالوث المبارك لا يتجزأ ، وهو واحد في ذاته، لأنه حينما ذ ُكر الآب ذُكر الإبن الكلمة والروح القدس الذي في الإبن ، وإذا ذُكر الإبن فان الآب في الإبن ، والروح القدس ليس خارج الكلمة لأن الآب نعمة واحدة تتم بالإبن في الروح القدس ، وهناك طبيعة إلهية واحدة ](5)

و عن الاسماء التي تطلق علي الاقانيم الآب و الابن فالمقصود منها ليس المقصود بها التعبير عن ما هو الله في ذاته لان الله لا يمكن ان يصفحه اي اسم ، لكن المقصود التعبير عن ما هو الله من نحونا نحن بمعني ما هو الله بحسب التدبير ( التدبير هو مشيئة الله و عمله تجاه البشر ) و لنعرف ان الإبن هو من نفس جوهر الآب لان كل مولود ابن هو من جوهر الذي ولده و لنعرف انه بسببب الإبن سنعطي البنوه لله لانه تجسد و اخذ ما لنا ليعطينا ما له ، و ايضاً لنعرف انهم واحد لان كلمة الابن مرتبطه دائماً بكلمة الآب مثلما ترتبط كلمة المخلوق بالخالق .. يقول القديس كيرلس الكبير : [ فحينما نتكلم عن الآب ، فإننا نثير في أذهان السامعين فكرة الإبن ، أي مجرد فكرة وجود كائن مولود ، والعكس صحيح ، فحينما نذكر الكائن المولود فإننا نجلب إلى الأذهان ذاك الذي يلد ، نفس الشئ ينطبق على الإتجاهات ، فحينما نتكلم عن إتجاه ما ، نتذكر الإتجاه الآخر ، أي حينما نقول اليمين يذهب فكرنا إلى وجود يسار ...] .(6) ، و يقول القديس امبرسيوس : [ من يذكر اسم واحد من الاقانيم فقد ذكر الثالوث , فإذا ذكرت اسم المسيح فأنت ضمناً تشير الي الله الآب الذي به الإبن قد مُسحَ , و الإبن نفسه الذي مُسحَ , و الروح القدس الذي تمت به المسحه ... و إذا تكلمت عن الروح فأنت تذكر الله الآب الذي منه ينبثق الروح , و تذكر ايضاً اإبن لانه روح الإبن ](7) ، و يقول القديس اثناسيوس : [ الابن هو الله بكامله و كماله ] .. و يكمل قائلاً : [ فالآب و الابن و الروح القدس هم واحد بلا انقسام و هم ازلياً في تواجد ( احتواء ) متبادل كل منهم في الآخر بكونهم الثالوث القدوس المبارك و لكنهم لاهوت واحد و رئاسه واحده ] .. ويقول ايضاً : [ فكل اقنوم هو الله بأكمله , و كل اقنوم هو كل ما هو الله منذ الازل ] (8)

فإننا عندما نعبر عن اقانيم اللاهوت بالثالوث هذا لا يعني العدد ثلاثة و لا الحد بالرقم ثلاثة و لكن يعني التمايز بين الاقانيم و انهم ليسوا اقنوماً واحداً بل ثلاثة اقانيم قائمين منذ الازل في وحدة الالوهية
و يقول القديس غريغوريوس النيزنزي : [ ولكن الحكم الواحد الناتج من تساوي الطبيعة وتناسق الإرادة ووحدة العمل والتقارب للالتقاء عند المصدر نتيجة للوحدة، وكل هذا غير ممكن في حالة الطبيعة المخلوقة. والنتيجة أنه رغم وجود تمايز عددي فليس هناك انقسام في الجوهر. ] (9) ، و يقول القديس باسيليوس الكبير : [ أما أولئك الذين يجلبون الدمار على أنفسهم، فيريدون استخدام طريقة العدّ ضد الإيمان. ومع أن الأشياء لا تتغير إذا حسبت عدديًا كلا بعد الآخر في تسلسل عددي لكن يا سادتي الحكماء إن الذي هو فوق الادراك هو فوق الحساب والاعداد أيضًا. وقدر العبرانيون هذا وبحكمة ووقار كتبوا اسم الله الذي لا ينطق بطريقة خاصة وهكذا عملوا على الاعلان عن مجده الفائق فوق كل الكائنات.
إذا شئت أن تستخدم الاعداد فأنت حر، ولكن لا تشوه الإيمان بل احترمه ما هو فوق بالصمت، أو أن شئت أن تقول عددًا صحيحًا فالله واحد هو الآب الواحد والابن الواحد والروح القدس الواحد.
ونحن نعلن عن كل أقنوم على حدة وإن كان يجب علينا استخدام الاعداد فاننا لا نسمح لانفسنا بأن تحملنا قواعد الحساب إلى تعدد الالهة في الوثنية.] (10)

[ لذلك نحن نقول إنه يوجد إله واحد وليس إلهان أو ثلاثة. لأنه من الخطأ القول بوجود ثلاثة آلهة لأن هذا ما وقعت فيه هرطقة الآريوسيين الكفرة، عديمة التقوى، بما فيها من تجاديف، وبهذا فإنها تقسّم ألوهية الثالوث، بينما فى قول الرب: " اذهبوا عمّدوا جميع الأمم باسم الآب والابن والروح القدس" يُوضِّح أن الثالوث هو قوة واحدة. نحن نعترف بالآب والابن والروح، وبذلك نفهم كمال ملء الألوهية وكمال وحدة القوة، فى ثالوث كامل. ] القديس امبرسيوس (11)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 - .المائة مقالة في الايمان الارثوذكسي . ص 70

2 - حوار حول الثالوث , الجزء السادس ( الحوار السابع ), مؤسسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية , نصوص آبائية - 169 - , صفحة 28

3 - يوحنا الدمشقي . احد اباء القرن الثامن. المائة مقالة في الايمان الارثوذكسي . ص 72 - 73

4 - القديس ديديموس الضرير . احد اباء القرن الثالث . كتابه عن الروح القدس فقره 17

5 - القديس اثناسيوس الرسولي . احد اباء القرن الثالث . الرسائل إلى سرابيون 1 : 14

6 - حوار حول الثالوث ج1 – المركز الأرثوذكسي للدراسات الأبائية ص 71 ، 72

7 - - الروح القدس - للقديس امبرسيوس اسقف ميلان . 1 : 12 : 14 .. npnf , second series , vol . x . p 99 .. الروح القدس كتابياً و ابائياً للراهب هرمينا البراموسي . ص 28

- الايمان بالثالوث الفكر الاهوتي الكتابي للكنيسه الجامعه في القرون الاولي . توماس . ف . تورانس .. ص 114 , 115

9 - العظات اللاهوتيه . العظة 29 الفقرة 2

10 - 
الروح القدس . ترجمة د / جورج حبيب باباوي . مراجعة و تقديم نيافة الانبا يؤانس اسقف الغربيه المتنيح . اصدار مطرانية الغربيه . الفصل الثامن عشر . ص 135

11 - شرح الايمان المسيحي . ترجمة د / نصحي عبد الشهيد . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه . الكتاب الاول . فقرة 10

قيامة المسيا لإجلنا في فكر الاباء

 


بعد ان عبرنا مع المسيح في مر اسبوع الآلام و حزن الآلام الصليب اتينا معه إلي مجد القيامه , تكملة عمل الفداء و غايته . فقد كان هدف المُخلص ان يمحي الآثر المميت الذي نتج عن خطية ابوينا الاوليين أي الموت الذي ساد علي جنس البشر و الفساد الذي انجذب البشر نحوه بعيداً عن صلاح الله المُحب كما يقول اثناسيوس الرسولي : [ فإن البشر الذين رجعوا إلى الفساد بالمعصية يعيدهم إلى عدم الفساد ويحييهم من الموت بالجسد، الذي جعله جسده الخاص، وبنعمة القيامة يبيد الموت منهم كما تُبيد النار القش. ] (1) و لهذا قد تجسد الرب لكي يكون له جسد بشري قابل للموت هو جسده الخاص , و لاجل الحياة الالهيه التي في ذلك الجسد يموت الموت بهذه الحياه إذ لم يكن ممكناً ان يمسك الموت الحياه ( اع 2 : 24 ) و لا ان تدرك الظلمه النور ( يو 1 : 5 ) و يعلق علي ذلك القديس غريغوريوس النيسي قائلاً : [ المُحتقر صار ممجداً , و الجسد القابل للفساد و الموت قام ممجداً منتصراً علي الموت ... الآن لم يستطع الموت ان يمسك ذاك الذي يمسك كل شئ بكلمته ] (2) و كما يقول اثناسيوس : [ فإن كلمة الله الذي بدون جسد قد لبس الجسد لكى لا يعود الموت والفساد يُرهب الجسد لأنه قد لبس الحياة ثوبا وهكذا أبيد منه الفساد الذي كان فيه. ] (3) و يقول في موضع اخر : [ لذا فإن كلمة الله المحب للبشر لبس ـ بمشيئة الآب ـ الجسد المخلوق لكى يُحيّى بدم نفسه هذا الجسد الذى أماته الإنسان الأول بسبب تعدّيه، كما قال الرسول:" وكرّس لنا طريقًا حيًا حديثًا بالحجاب أى جسده". وهو ما شار إليه فى موضع آخر حينما قال: " إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكلّ قد صار جديدًا" . فإن كان كلّ شئ قد صار خليقة جديدة فمن الضرورى أن يكون هناك شخص هو بكر هذه الخليقة. ولا يمكن أن يكون هو الإنسان الضعيف الترابى .. ] (4) , و في هذا ايضاً يقول كيرلس عمود الدين : [ إن كلمة الله حي إلي الابد , و بحسب طبيعته هو الحياه ذاتها , و لكنه عندما اخلي ذاته , و وضع نفسه ليصير مثلنا , فإنه ذاق الموت , و لكنه برهن علي موت الموت , لإنه قام من الموت ليصير هو الطريق الذي به ليس هو فقط بل نحن ايضاً نعود إلي عدم الفساد . ليت لا احد يبحث عن – هذا الحي إلي الأبد – بين الاموات . ] (5) و يقول ايضاً : [فالموت قد قُهر و الطبيعه البشريه قد خلعت عنها الفساد في شخصه كباكوه ] (6)

فأصبح الله الكلمه بتجسده بكر وسط الخليقه او بحسب تعبير كتابي آخر هو آدم الجديد و المقصود من كلا التعبيريين انه اصبح رأس جديد للخليقه فقد زرع ادم في الخليقه التوجه نحو الفساد و الشر و معرفة طريق البعد عن الله و الإنجذاب نحوه , بينما جاء المسيح كرأس آخر او بدايه جديده لجنس البشر به نبتعد عن الفساد و لو جزئياً بقبول عمل و سُكني الروح و المسيح فينا كهيكل إلهي و كأبناء الله نشتاق إليه و ننظر نحوه فلا نري غيره و لا يشبعنا بعد اي شهوة في الخطيه بل يشبعنا فقط الملء من روحه و سكناه داخلنا , هذه العطيه التي كان المفتاح لها هو مجد القيامه و مدخلها الصعود العظيم و تحققت في علية اورشليم و انسكبت من خلالها بالمعموديه المقدسه إلي باقي الجنس البشري .

و لقب الإبن البكر لا يشير إلي ان الابن مخلوق بل قد قيل كما قلنا لاجل انه تجسد ليصبح رأساً جديداً لجنس البشر بدل الرأس الاول آدم و في ذلك يقول القديس اثناسيوس الرسولي : [ أما لفظ "البكر" فيشير إلى التنازل إلى الخليقة، لأنه بسببها سُمى بكرًا... لأنه لو كان "بكرًا" لما كان "وحيدًا" لأنه غير ممكن أن يكون هو نفسه "وحيدًا" و "بكرًا" إلا إذا كان يشير إلى أمرين مختلفين. فهو "الابن الوحيد " بسبب الولادة من الآب، ولكنه يسمى "بكرًا" لسبب التنازل إلى الخليقة وجعله الكثيرين أخوة له. .. إذن فهو لم يُدعَ "بكرًا" بسبب كونه من الآب، بل بسبب أن الخليقة قد صارت به. وكما كان الابن نفسه كائنًا قبل الخليقة وهو الذى به قد صارت الخليقة، هكذا أيضًا فإنه قبل أن يُسمى "بكر كل الخليقة" كان هو الكلمة ذاته عند الله. ] (7)


و قد حدثت القيامه بقدرة ابن الله الالهيه لانه هو الله الغير محدود و الغير محوي اتحد بجسده الخاص منذ اللحظه الاولي للميلاد البتولي و منذ ذلك الوقت لم ينفصل الله الكلمه عن هذا الجسد البشري ( الإنسان ) المكون من نفس و جسد , حتي في وقت موت المسيح بالجسد فقد ظل الله لانه غير محدود ( لا يخلو منه مكان ) و قادرعلي كل شئ متصلاً بالجسد الراقد في القبر و النفس التي نزلت بمشيئة الله الي الجحيم لتبشر الذين رقدوا علي رجاء مجئ المُخلص . و لان انفصالاً بين الجسد و النفس عن الله لم يحدث فقد أعاد الله النفس إلي الجسد مرةَ اُخري بدون صلاه و لا دعاء و لا شفاعة من آخر كما قام كل الآخرين الذين ذكرهم الكتاب في العهدين . ذلك كما يُعلمنا القديس غريغوريوس النيسي قائلاً : [ بعدما أعاد الله بقوته صياغة الإنسان كله في شخصه، وجعله شريكًا للطبيعة الإلهية، لم ينفصل في وقت الآلام بحسب التدبير عن هذا العنصر الآخر (أى الجسد) الذي اتحد به مرة واحدة، لأن هبات الله ودعوته هى بلا ندامة (رو29:11). فإن كانت الألوهية بإرادتها فصلت النفس عن الجسد، إلاّ أنها أوضحت أنها هى ذاتها بقيت في النفس والجسد. في الجسد الذي يعتريه الفساد بالموت كما جاء بالمزمور " لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فسادًا" (أع27:2)، وهكذا أبطل ذاك الذي له سلطان الموت (عب14:1)؛ بينما بالنفس فتح الطريق للص للدخول إلى الفردوس. وهذا الأمران تحققا في آن واحد. أى أن الألوهية تُحقق الصلاح للاثنين، فقد تحقق بطلان الموت بعدم فساد الجسد، وبعودة النفس إلى موضعها، يُفتح الطريق لعودة البشر مرة اخرى إلى الفردوس. ] (8) و يقول القديس يوحنا الدمشقي : [ و إذا كانت النفس قد انفصلت عن الجسد إنفصالاً مكانياً , فقد ظلت مُتحدة به إتحاداً إقنومياً بواسطة الكلمه ] (9)

و هكذا فكل ما عمله و علمه الرب منذ ان اتخذ جسداً حسب التدبير الالهي هو لاجلنا نحن فتجسده وميلاده و عماده و صلبه و موته و قيامته و صعوده جميعها لاجل ان نأخذ نحن العتق من الفساد و يحيا فينا المسيح و يسكن فينا الروح و نأخذ برهان القيامه و الصعود الي يمين الآب و التمتع بإشراق و مجد اللاهوت الذي لا تشبع منه النفس . و يقول القديس مقاريوس [ لأن مجئ الرب كان كله لأجل الإنسان ـ الإنسان الذى كان مطروحًا ميتًا فى قبر الظلمة والخطية والروح النجس والقوات الشريرة ـ لكى يقيم الإنسان ويحييه فى هذه الحياة الحاضرة ويطهره من كل سواد وظلمة، وينيره بنوره الخاص، ويُلبسه ثوبه الخاص، أى الثوب السماوى الذى هو ثوب اللاهوت. ] (10)

فبالمسيح كبكر مقام لاجلنا من الاموات ينكشف لنا ايضاً سر احد الاعياد اليهوديه و هو عيد الباكورات و يقام هذا العيد في السادس عشر من شهر نيسان , اي بعد عيدي الفصح و الفطير (11) . و هذا العيد جاء ذكره في العهد القديم كرمز لقيامة المسيح كالأتي : [ وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: 10«كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: مَتَى جِئْتُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَا أُعْطِيكُمْ وَحَصَدْتُمْ حَصِيدَهَا، تَأْتُونَ بِحُزْمَةِ أَوَّلِ حَصِيدِكُمْ إِلَى الْكَاهِنِ. 11فَيُرَدِّدُ الْحُزْمَةَ أَمَامَ الرَّبِّ لِلرِّضَا عَنْكُمْ. فِي غَدِ السَّبْتِ يُرَدِّدُهَا الْكَاهِنُ. 12وَتَعْمَلُونَ يَوْمَ تَرْدِيدِكُمُ الْحُزْمَةَ خَرُوفًا صَحِيحًا حَوْلِيًّا مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ. 13وَتَقْدِمَتَهُ عُشْرَيْنِ مِنْ دَقِيق مَلْتُوتٍ بِزَيْتٍ، وَقُودًا لِلرَّبِّ رَائِحَةَ سَرُورٍ، وَسَكِيبَهُ رُبْعَ الْهِينِ مِنْ خَمْرٍ. 14وَخُبْزًا وَفَرِيكًا وَسَوِيقًا لاَ تَأْكُلُوا إِلَى هذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ، إِلَى أَنْ تَأْتُوا بِقُرْبَانِ إِلهِكُمْ، فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً فِي أَجْيَالِكُمْ فِي جَمِيعِ مَسَاكِنِكُمْ. ] ( لا 23 : 9 – 11 ) . و المعني انه يقدم كل شخص باكورة او اول ما يحصده من غلة و يقدمه للرب و طالما قبله الرب فهذا ضمان له ان بقية حصاده سيأتي ببركة و مضمون ايضاً , و هذا ما حدث في قيامة المسيح إذ هو كباكورة قام من الاموات و قبل الله ان يقام جسده البشري الخاص فاعطانا ضماناً بأننا ايضاً كمثل الباكورة سيقبلنا الرب لنقوم مثله .


و هذه هي القيامه التي بها آخذنا القدره و البرهان علي قيامتنا في المسيح في اليوم الاخير لحياة جديده معه كما يقول القديس مقاريوس : [ فهكذا ستتمجد أجساد القديسين وتضىء مثل البرق. فالمجد الذى كان فى داخل المسيح فاض على جسده وأضاء، وبنفس هذه الطريقة ما يحدث فى القديسين، فإن قوة المسيح التى فى داخلهم ستنسكب فى ذلك اليوم على أجسادهم من الخارج. فإنهم منذ الآن يشتركون فى جوهره وطبيعته فى عقولهم، لأنه مكتوب " الذى يقدس والذين يتقدسون جميعهم من واحد" (عب11:2). وأيضا " وأنا قد أعطيتهم المجد الذى أعطيتنى" (يو22:17). وكما أن مصابيحًا كثيرة توقد من نار واحدة هكذا أجساد القديسين إذ هى أعضاء المسيح فإنها بالضرورة تصير مثل المسيح نفسه وليس شيئًا آخر. ] (12) . و يقول اثناسيوس : [ والآن إذ قد مات مخلّص الجميع نيابة عنا فإننا نحن الذين نؤمن بالمسيح لن نموت (بحكم) الموت الذى كان سابقًا حسب وعيد الناموس لأن هذا الحكم قد أُبطل؛ وبما أن الفساد قد بَطُل وأُبيدَ بنعمة القيامة فإننا من ذلك الوقت وبحسب طبيعة أجسادنا المائتة ننحل فى الوقت الذى حدده الله لكل واحد، حتى يمكن أن ننال قيامة أفضل . ] (13) و يقول ايضاً : [ وهناك اعتبارات أخرى تجعل المرء يدرك لماذا كان يليق بجسد الرب أن يتمّم هذه الغاية. لأن الرب كان مهتمًا بصفة خاصة بقيامة الجسد التى كان مزمعًا أن يتممها، إذ أنها دليل أمام الجميع على انتصاره على الموت، ولكى يؤكد للكل أنه أزال الفساد، وأنه منح أجسادهم عدم الفساد من ذلك الحين فصاعدًا. وكضمان وبرهان على القيامة المُعَدّة للجميع فقد حفظ جسده بغير فساد. ] (14)

كل هذا المجد قد صنعه لنا المُخلص و اعده من أجلنا , فلنستمع إذا لوصية القديس مقاريوس : [ فلنطلب إذن من الله ونتوسل إليه أن يلبسنا لباس الخلاص وهو الرب يسوع المسيح، النور الفائق الوصف الذى إذا لبسته النفوس لا تخلعه قط، بل تتمجد أجسادهم أيضا فى القيامة بمجد ذلك النور الذى تلبسه النفوس الأمينة الفاضلة منذ الآن حسب قول الرسول " إن ذلك الذى أقام المسيح من بين الأموات سيحيى أجسادهم المائتة أيضا بروحه الساكن فيكم" (رو11:8). فالمجد لمراحمه المتعطفة ولرأفته التى تفوق كل وصف وكل تعبير. ] (15)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
1 - تجسد الكلمه 8 : 4 .. ترجمة د / جوزيف موريس فلتس . ص 23

2 - قيامة المسيح و إشراق النور الالهي للقديس غريغوريوس
النيسي . ترجمة عن اليونانيه . د / سعيد حكيم يعقوب .. ص 19

3 - تجسد الكلمه . ترجمة د / جوزيف موريس فلتس . اصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه 44 : 8 . ص 141

4 - ضد الاريوسيين . ترجمة أ/ صموئيل كامل , د/ نصحي عبد الشهيد . مراجعة د/ جوزيف موريس فلتس . 2 , 21: 65 .. المقاله الثانيه . ص 122

5 - تفسير انجيل لوقا للقديس كيرلس السكندري . ترجمة د/ نصحي عبد الشهيد . اصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه ص 754

6 - مرجع سابق ص 759

7 - ضد الاريوسيين . ترجمة أ/ صموئيل كامل , د/ نصحي عبد الشهيد . مراجعة د/ جوزيف موريس فلتس . 2 , 21: 62 , 63 .. المقاله الثانيه . ص 117 , 118

8 - و قام في اليوم الثالث . للقديس غريغوريوس النيسي . ترجمة د / سعيد حكيم يعقوب . ص 22 , 23

9 - المائة مقاله في الإيمان الارثوذكسي . للقديس يوحنا الدمشقي . ص 208

10 - عظه 34 : 2 . عظات القديس مقاريوس . ص 298

11 - و هو الوقت الذي قام فيه المسيح من الاموات حيث قدم نفسه في الفصح و كان جسده في القبر في عيد الفطير و قام من الاموات في عيد الباكورات , بل ان كل الاعياد التي اعطاها الرب فريضة لبني إسرائيل هي إشاره لمجئ المسيح و عمله الخلاصي و قبول الروح القدس في حياة الكنيسه . لقراءة المزيد في هذا الامر راجع المسيح في الاعياد اليهوديه للراهب القمص رافائيل البرموسي
12 - عظات القديس مقاريوس .. عظه 15 : 38 , ترجمة د/ نصحي عبد الشهيد . ص 158

13 - تجسد الكلمه . ترجمة د / جوزيف موريس فلتس . اصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه 21 : 1 . ص 64

14 - تجسد الكلمه . ترجمة د / جوزيف موريس فلتس . اصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه 22 : 4 . ص 69

15 - عظات القديس مقاريوس . مرجع سابق .. عظه 20 : 3 . ص 204

لماذا خلقنا الله . عمل الخلق في الفكر المسيحي


 

في حياتنا اليومية تتبادر دوماً إلى أذهاننا أسئلة عن أصل الأشياء وأصل الانسان: مَن صنع هذا الشيء وما هو مصنوع؟ من أين أتى هذا الانسان؟ مَن هم ذووه؟ أين وُلد وأين تعلَّم؟ من خلال ماضي الانسان نحاول أن نكتشف حاضره. وللتعمّق في معرفة ذواتنا نحاول أن نتذكّر نحن أيضاً تاريخنا الماضي وحياتنا السالفة.


لا يكتفي الايمان بتلك العودة في الزمن إلى ماضي الأشياء وماضي الانسان، بل يحاول اكتشاف الأصل اللازمني لجميع الكائنات، أي علّة وجودها ومبدأ كيانها.
كل انسان يختبر حدود وجوده في المكان والزمان، ولا سيمَا في أوقات الضيق والمرض والضعف والموت. من خلال تلك الخبرة يكتشف المؤمن أن الكائن المحدود لا يمكن أن يكون هو أصل ذاته. عندئذٍ ينفتح الكائن المطلق ويرى فيه أصل كل كيان وكل وجود. ويدرك إذّاك ان حياته هي نعمة أُعطيت له من قبل الله.

هذا ما تؤمن به مختلف الديانات وتعبّرعنه في عقيدة الخلق. وتلك العقيدة ليست نظرية علميّة تهدف إلى تفسير الطريقة التي خلق الله بها الكون، بل تعبير عن إيمان الانسان بعلاقته بالله أصل كيانه وعلّة وجوده. (1)

و في حديثنا هذا عن لماذا الخلق وجدنا ان الاباء بالاساس وضوعوه بين اربعة اسباب :
1 - الخلق يعرف من خلال التجسد .
2 - الخلق شركه .
3 - الخلق نتاج صلاح الله و نعمته .
4 - الخلق عمل اله منتج مبدع ( كفنان عظيم ) .
5 - الخلق عمل حب .

1 - الخلق يعرف من خلال التجسد :

كان تنازل الله الواضح و اعلانه عن ذاته في يسوع المسيح ابنه الحبيب – الذي به خُلِقت كل الاشياء – هو المنطلق الذي من خلاله تأمل الاباء في الاصل المُحير للكون كواقع حقيقي خارج عن الله . و كان خلق العالم من العدم و استمرار وجوده ، يُفهم علي انه نابع من – و قائم علي – محبة الله غير المحدوده ، هذه المحبه التي هي الله ذاته منذ الازل كآب و إبن و روح قدس , و هي التي يريد ان يشرك خليقته فيها . فالخلق مثله مثل الفداء ، كان عملاً من اعمال نعمة الله المحضه التي تعلو علي الشرح ، و التي ظهرت في ابنه المتجسد . (2) كما قال القديس اثناسيوس : أن الكون المخلوق ، بدون الابن الكلمه ، لا يعتبر في ذاته كافياً ليجعل الله معروفاً لنا . و لكن التأمل الصحيح في الكون إنما يكون في اللوغوس و من خلاله ، إذ هو انشأ الكون و اعطاه نظامه المنطقي ، و فيه ( أي في الكلمه ) يتماسك الكون بثبات معاً . (3)


2 - الخلق شركه :

لتفسير كيفية خلق العالم وخلق الانسان، تستخدم الرواية الأولى من سفر التكوين عبارة "وقال الله...". وتعود تلك العبارة عشر مرات في النص مذكرة بوصايا الله العشر. فكلمة الله في الوصايا تمنح الانسان الخلاص والحياة، وكلمة الله في الخلق تمنح الانسان الوجود والكيان. وكل كلمة وقول علاقة حوار بين أشخاص. فالانسان الذي أتى إلى الوجود بكلمة من الله، إنما هو في صميم كيانه علاقة حوار مع الله، والحوار يفترض الحرية، فالخلق إذاً ليس استعباداً للانسان ولا احتقاراً لكيانه ولا امتهاناً لكرامته.
لقد رفض ماركس وجود الله الخالق لأنه اعتبر ان مثل هذا الوجود ينقص من قيمة الانسان. ولكن ماركس لم يفهم معنى الخلق الصحيح، وما رفضه لله الخالق إلا رفض لصورة خاطئة عن الله الخالق. فبالخلق يعطي الله الانسان الوجود، إلا أن عطاءه هذا ليس عطاء سيّد لعبد ولا عطاء محسن لمستجدي، بل عطاء صديق لصديقه وأب لابنه وحبيب لحبيبه. "ان الله محبة"، والخلق هو أول أعماله التي بها أظهر محبته. يبقى أن يفتح الانسان قلبه لتلك المحبة، لتكون حياته وكلها جواباً على محبته تعالى له. (4)

قال القديس ايرنيئوس : انه علي الرغم من ان الله مكتفٍ ذاتياً تماماً في الشركه الداخليه التي لكيانه ( كما يقول القديس هيلاري اسقف بواتييه ان الله في ذاته ليس منعزلاً لانه كأب و إبن و روح قدس هو في ذاته شركه ازليه للحب و الوجو الشخصي . [5] ) ، إلا انه لا يريد ان يكون وجوده هو لذاته فقط ، بل بتلقائية و حريه قد احضر العالم إلي الوجود من العدم و أعطاه تكاملاً خاصاً به ، و وضع فيه كائنات مخلوقه عاقله يمكنه ان يهبها من نعمه و يشركها معه في شركة الحب الخاصه به . و مع ان الله متعال بصوره فائقه إلا انه ليس بمعزل عن خليقته ، بل هو حاضر و عامل فيها بلا عائق ، كما انه يتدخل شخصياً بعنايته الالهيه في احداث العالم و في شئون خليقته من البشر . (6)


و يقول الاب تادرس يعقوب مالطي : لم يخلق الله الإنسان لكي يستعرض عظمته وأمجاده، ولا لكي يضيف إلى الطغمات السمائية طغمة من الأرضيين تتعبد له. فهو ليس في حاجةٍ إلى من يمجده أو يخدمه أو يتعبد له. خلق الله الإنسان من التراب، ووهبه نسمة من فيه ليحتضنه بالحب، ويقدم له شركة معه في الأمجاد السماوية. أوجده ليرتفع به إلى الخلود في أمجادٍ لا يُعبر عنها، وهي أمجاد حبه الفائق له.
الإيمان بالله، سواء خلال الناموس الطبيعي، أو التأمل في الطبيعة والمخلوقات المنظورة، أو الناموس الموسوي، أو الإعلانات الإلهية عبر العصور، غايته أن يختبر الإنسان حب الله، ويتذوق عذوبة اهتمامه به، وقد بلغ تلك القمة بالإعلان عن سرّ الثالوث القدوس، هذا الإعلان الذي غايته التمتع بالحب الإلهي. (7)

3 - الخلق نتاج صلاح الله و نعمته :

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم : و لماذا الخلق ؟ من فيض صلاحه خلقك . (8)

خلق العالم من العدم و استمرار وجوده ، يُفهم علي انه نابع من – و قائم علي – محبة الله غير المحدوده ، هذه المحبه التي هي الله ذاته منذ الازل كآب و إبن و روح قدس , و هي التي يريد ان يشرك خليقته فيها . فالخلق مثله مثل الفداء ، كان عملاً من اعمال نعمة الله المحضه التي تعلو علي الشرح ، و التي ظهرت في ابنه المتجسد . (9)


و كان القديس ايرينيئوس قد وجه الانتباه الي تعليم افلاطون الذي في رده علي سؤال : لماذا خلق الله العالم ؟ قد اشار الي صلاح الله الذي بلا حسد ، و الذي بدلاً من ان يحتفظ بصلاحه لنفسه ، كون العالم لكي يعكس من خلاله صلاحه و نظامه الخاص . (10) . و كما يقول غريغوريوس النيزنزي : كان يجب أن يُسكب الصلاح وينتشر خارج ذاته، لكى يكثر الذين ينالون من إحسانه . (11)

و يقول ايضاً يوحنا الدمشقي : إذ كان الله صالحا و فائق الصلاح , لم يكتف بمشاهدته ذاته , بل ارتضي بدافع فائق من صلاحه أن يكون من يحسن اليهم و يشركهم بصلاحه , فأخرج الكل من العدم الي الوجود و خلق ما يري و ما لا يري , جاعلا الانسان مركبا من منظور و غير منظور . انه تعالي قد خلق بفكره , و فكره اضحي عملا بمؤازرة كلمته , و كمل بالروح . (12)


4 - الخلق اله منتج مبدع ( كفنان عظيم ) :

بقولنا ان الله خالق نؤكد أنه فنّان ومبدع وشاعر. فلفظة "خلَق" في اليونانية تعني "أبدع الشعر". فانه قد أبدع الكون كما يبدع الشاعر الشعر.
إلهنا ليس ساحراً يقوم بأعمال سحر وبراعة. انه شاعر يخلق الحياة ويبدع الجمال. انه شاعر ينير كل ما يلمسه بالمجد والبهاء. الشاعر يخلق ما هو نفسه عليه..... الله هو الشاعر الأسمى. لا بدّ لنا لمعرفة شاعر من درس شعره وأعماله. العالِم والفنّان والباحث هم الدارسون لشعر الله. وحصيلة درسهم تنهّدات أعجاب ورهبة أمام روعة عمله. وهذا الإعجاب، وما يرافقه من تنهّدات، هو الطريقة الفضلى لعبادة الله والسجود له. ثم ان من يعاشر شاعراً يتشرّب شعره ويمتلئ منه.

المسيحي يعيش في ألفة إله شاعرالعالِم والفنان والباحث هم اللاعبون الملهمون لألعاب الله والمرنّمون لموسيقاه وشعره. عندما نفكر بالله نفكر به دوماً كشاعر مبدع: "أومن بإله واحد، الخالق الشاعر، مبدع السماء والأرض، كل ما يرى وما لا يرى". (13) . لقد نظم الله عدداً لا يحصى من القصائد. نظمٍ قصيدة ودعاها "السماء"، ونظم قصيدة أخرى ودعاها "الأرض"، ونظم أيضا قصائد أخرى دعاها "النجوم" و"الكواكب" و"الماء" و"الحيوان" و"الملاك" و"الشجر" و"الزهر" و"الزرع". كل قصيدة من قصائد الله هي مصدر مفاجأة ومدعاة فرح. كل قصيدة من قصائد الله هي ينبوع مفاجآت توسّع إمكاناتنا وتملأنا إعجاباً وابتهاجاً. (14)


5 - الخلق عمل حب :

في التعبير عن الإيمان المسيحي بالله الخالق نجد صلة وثيقة بين الخلق وأُبوَّة الله. فالإله الذي نؤمن بأنه خلق السماء والأرض ليس الإله المتجبِّر المتسلِّط بل الله الآب. لذلك نعتبر أن الإيمان بالله الخالق هو الإيمان بأن محبة الله هي التي أوجدت الخلائق كلها، وان العالم ليس وليد صدفة بل ثمرة اختيار الله وقصده المحبّ.
لقد أوجز يوحنا الانجيلي فحوى الإيمان المسيحي بقوله: "نحن قد عرفنا المحبة التي لله فينا وآمنّا بها" (1 يو 4: 16). إنّ في أصل الكون وفي أصل الإنسان كائناً محباً من فيض محبته يعطي الوجود لجميع الكائنات.
ان الإيمان بالله الخالق هو نتيجة لقاء بين كشف الله عن ذاته وخبرة الانسان لمحبة الله. وهذا اللقاء نقرأ حكايته في الكتاب المقدّس في كلا العهدَين القديم والجديد. ففي العهد القديم اختبر اليهود محبة الله المخلّص الذي أنقذهم من عبودية مصر، وانطلاقاً من تلك الخبرة راحوا يتأملون في الإله الخالق. فالإله الذي أحبّهم وخلّصهم هو نفسه الإله الذي أحبّهم وخلقهم وخلق الكون بأسره . (15)

و اوضح القيس اثناسيوس : ان الله خلق كل الاشياء من العدم و انه يريد للبشرية الوجود بسبب محبته للبشر ، تلك التي اظهرها للعالم في يسوع المسيح الكلمه الذاتي المتجسد ، الذي به احضرت كل الاشياء الي الوجود و أُعطيت كياناً واقعياً . و بدلاً من ان يضن الله علي الخليقه بالوجود – كواقع خالج عن ذاته . أحضرها بحريته إلي الوجود بواعز من كرمه المحض لكي ما يغدق عليها حبه . (16)
و يكمل القديس غريغوريوس النيسي : ثبت لنا خلال المباحثات المنطقية أن كلمة الله (أو الحكمة أو القوة) هو خالق الطبيعة البشرية، لم يكن مُلزمًا تحت ضرورة ما لخلقة الإنسان، لكنه جاء بالإنسان إلى الوجود من أجل فرط محبته له. (17)


هذا هو في النهاية المفهوم الصحيح للخلق: إن بين الخليقة والله ارتباطاً دائماً، فالكائنات كلها متعلّقة بالله تعلُّقها بمبدإ وجودها ومصدر كيانها.
ان عقيدة الخلق في الإيمان المسيحي لا تقصد تفسير كيفية وجود العالم وكيفية تكوينه. بل جلّ قصدها إظهار معنى وجود العالم والتأكيد أن هذا الوجود يستقيه من الله ينبوع كل وجود ومصدر كل كيان. واذا استطاع العلم يوماً تفسير كيفية تكوين العالم تفسيراً أكيداً ونهائياً -كل التفسيرات التي يعطيها اليوم العلم إنما هي مجرد نظريات قابلة للنقاش- فالإيمان وحده يستطيع اكتشاف العلاقة الحميمة التي تربط هذا العالم بالله.
وتلك العلاقة هي علاقة محبة، فالعالم هو فيض من محبة الله اللامتناهية وعطيّة مجانية من إله العطاء والمحبة. (18)



وليس شئ من النطق يستطيع أن يحد لجة محبتك للبشر. خلقتني إنساناً كمحب للبشر، ولم تكن أنت محتاجاً إلي عبوديتي، بل أنا المحتاج إلي ربوبيتك.من أجل تعطفاتك الجزيلة، كوَنتني أذ لم أكن. ..... لم تدعني معوزاً شيئاً من أعمال كرامتك. أنت الذي جبلتني. ووضعت يدك عليَّ. وكتبت فيَّ صورة سلطانك. ووضعت فيَّ موهبة النطق. وفتحت لي الفردوس لأتنعم. واعطيتني علم معرفتك. أظهرت لي شجرة الحياة. وعرفتني شوكة الموت.
(القداس الغريغوري).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ

1 - اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 50


2 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 133 . basil, hex., 1.2;Gregory nyss., or. Cat., 5 ; de an . et res ., mpg 46.9bff; gregor naz., or ., 38.9; 45.5.see also athenagoras, de res ., 12-13 .
Athanasius,de inc ., 1,1ff; con. Ar., 2.14, 44-65 ; 3.43,67;4.33

3 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 134 . Athanasius, con . ar 3.59-62

4 - اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 98

5 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 131 . Hilary , de syn , 37 ; de trin ., 4 . 21 ; 6 . 12 , 19 ; 7 . 3 , 8 , 39 ; 8 .52 .

6 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 131 . irenaeus , adv haer ., 2 . 47 . 2 , vol . 1 , pp 367f ; 2 . 6 . 1f , p 382 f ; 4.25 . 1f vol2 , pp. 184f; 4.34 . 1f , pp. 212ff; 4.63.1f , pp 294ff; dem., 3ff , 11f

7 - الحب الالهي . للاب تادرس يعقوب مالطي . إصدار كنيسة مارجرجس اسبورتنج . ص 353

8 - شرح الرساله إلي اهل فيلبي ( في 1 : 30 ) ترجمة أ / نشأت مرجان . إصدار دار النشر الاسقفيه . ص 77

9 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 133 . basil, hex., 1.2;Gregory nyss., or. Cat., 5 ; de an . et res ., mpg 46.9bff; gregor naz., or ., 38.9; 45.5.see also athenagoras, de res ., 12-13 .
Athanasius,de inc ., 1,1ff; con. Ar., 2.14, 44-65 ; 3.43,67;4.33

10 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 132 . irenaeus , adv haer , . 3 . praef . and 41 , vol 2 pp 1ff , ; 4.25.1f,pp 184ff; 4.63 . 1 , p. 294 f; plato, timaeus, 29e-30b . cf. philo, de migr . abr., 32 .

11 - القديس غريغوريوس النيزنزي . ثيوفانيا: ميلاد المسيح، ترجمة الدكتور نصحى عبد الشهيد، دكتور جورج عوض، المركز الأرثوذكسى للدراسات الابائية، يناير 2004، ص20.

12 - المائة مقالة في الايمان الارثوذكسي . ترجمه عن اليونانيه / الارشمندريت أدريانوس شكور . مترجم عن : migne . P . G ., t . 94 , vol . 789 – 1228 . ص 89

13 - اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 30

14 - اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 30

15 - اللاهوت المسيحي و الانسان المعاصر . المطران كيرلس سليم بسترس . ج1 . ص 75

16 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 132 . Athanasius , con. Gent ., 41 ; de inc., 3; cf. con ar., 2.29

17 - القديس غريغوريوس النيسي . الحب الالهي .للاب تادرس يعقوب مالطي . ص 15 . Orat. Cat. 5 ترجمة الدكتورة نورا العجمي

18 - اللاهوت المسيحي و الانسان المعاصر . المطران كيرلس سليم بسترس . ج1 . ص 75