الأبوكريفا، كلمة يونانيّة معناها ”مخفي- مُخبّأ- سرّيّ“. في
البداية كانت كلمة أبوكريفا تُشير إلى كتاب مُقدّس جدًّا، وسرّيّ جدًّا لا يُعلن
لكل أحد، لابد أن يكون مخفيًا عن العامة ومحصورًا على قادة الجماعة أو الطائفة. كما
كان سبب التسمية هو أنها مشحونة بأفكار كاتبيها، لكنّها مُتسترة بغطاء مسيحيّ خارجيّ،
فهي مسيحيّة الشكل، شعبيّة اللاهوت، وفي بعض الأحيان هرطوقيّة.
قد استخدمها
الغنوصيّون وغيرهم من أصحاب المذاهب الباطنية القديمة للدلالة على كتبهم الخاصة
لِما كان لهذه الكتب من المكانة والقيمة في أعينهم بحيث لم يسمحوا إلَّا للأعضاء
الكاملين منهم بالاطلاع عليها.
بغية
أن تجد هذه الكتب قبولًا نُسبت إلى الرسل وتلاميذ الرّبّ الأتقياء. وبعد اكتشاف
تزييف نسبة هذه الكتب إلى مؤلفين لم يكونوا هم كتّابها الأصليون، تغيَّر مدلول
كلمة ”أبوكريفا“ فأصبحت تُشير إلى كتب مزيفة، مشكوك في صحتها ومرفوضة من الكنيسة قويمة
المعتقد.
استخدم
الآباء تعبير ”أبوكريفا“ للإشارة إلى:
-
كتابات مجهولة الأصل نُسبت خطأ لكاتب أو آخر.
-
كتابات تحوي حقائق نافعة جنبًا إلى جنب مع أخطاء عقائديّة.
-
كتابات لا يُسمح بقراءتها على الشعب في الكنيسة
وبالتالي هيَ ليست قانونيّة.
-
كتابات هرطوقيّة أو استخدمها الهراطقة.
لا تقع
تحت فئة خاصة بل تتنوع تنوعًا كبيرًا. ويقول إيرينيئوس في كتابه ”الرد على الهرطقات“.[1]
إنّ عدّد هذه الكتابات قد لا يُحصى. وغالبًا ما وقفت منها الكنيسة موقف العداء.
في الحقيقة لم يُقدّم لنا العهد
الجديد إلَّا معلومات قليلة عن طفولة الرّبّ وحياة أمه وانتقالها ورحلات رسله
التبشيرية، لذا لا عجب في أن خيال المسيحيّين الأتقياء قد تحرَّك ليكمل التفاصيل
الناقصة.[2] وهكذا تمت عملية كتابة الأساطير على مجال واسع من الحرية بهدف التثقيف
والتهذيب. ومن ناحية أُخرى، فقد شَعَرَ الهراطقة، خاصة الغنوصيّين، أنهم بحاجة إلى
روايات إنجيليّة تؤيد تعاليمهم العقائديّة. هكذا، نمت حول الأسفار القانونيّة
مجموعة من الأساطير تُشَكِل تلك الكتابات المعروفة بـ”أبوكريفا العهد
الجديد“، وقد ظهرت الأناجيل غير القانونيّة، والأسفار الرؤيويّة المنحولة،
والرسائل، وأسفار الأعمال المنحولة المنسوبة للرسل بوصفها متممة للأسفار القانونيّة. فقد خطَّ بعض الهراطقة والمبتدعين الكثير من الأناجيل المُزيفة
والأعمال والرؤى لتأكيد آرائهم الفاسدة وتدعيم موقفهم.
يستطيع حتّى القارئ البسيط
جدًّا أن يشعر بتدني هذه الكتابات مُقارنة بالأسفار القانونيّة، فهي تزخر
بالمعجزات المزعومة التي أحيانًا ما تكون مبتذلة إلى حد السخف. لكنّ بالرغم من
هذا، فللأبوكريفا أهمّيّة قصوى بالنسبة للمؤرخين الكنسيّين، لأنها تمدهم بمعلومات
قيمة عن الاتجاهات والعادات التي اتصفت بها الكنيسة الأولى. علاوة على ذلك، تُمثل
الأبوكريفا بدايات الأساطير المسيحيّة، والقصص الشعبية، والأدب الروائي المسيحيّ.
ولا غنى عن الأبوكريفا لفهم الفن المسيحيّ، فهي التي أوحت بلوحات الموزاييك
الموجودة في كثير من الكنائس القديمة، مثل بازيليكا ”سانتا ماريا ماجيوري“ (Santa Maria Maggiore) بمدينة روما، وأيضًا الحفر البارز الذي كان يُزيِّن النعوش المسيحيّة القديمة.
كما أن الرسومات الصغيرة التي تزين الكتب اللِّيتورجيَّة والنوافذ الملونة الخاصة
بكاتدرائيات العصور الوسطى كانت ستصبح غير مفهومة إن لم تكن تشير إلى القصص
المذكورة في هذه الأبوكريفا. وللأبوكريفا أيضًا تأثير قوي على الأعمال المسرحية
التي كانت تدور حول المعجزات أو الغوامض في العصور اللاحقة، فحتى ”دانتي“ قد استخدمها
كمصدر للمشاهد الأخروية التي أوردها في عمله المعروف بـ ”الكوميديا الإلهيّة“،
لذلك نحن نمتلك من خلالها صورة واضحة ومصدرًا مباشرًا للفكر المسيحيّ المبكر.
في الحقيقة، لا ينبغي أن يُنظر
لهذه الكتب فقط من الزاوية التي تدّعيها لنفسها (من جهة قانونيّتها) فهي – من كلّ الجوانب
الأُخرى – لها فوائد عظيمة في مجالات أُخرى غير عقيدية، وإذا كانت كتب الأبوكريفا
ليست بمصادر تاريخيّة جيدة من وجهة ما، فهي كذلك من وجهة أُخرى، تُسجِل تخيُّلات
وآمال ومخاوف من كتبوها؛ إنها تُظهِر الأمور التي كان يقبلها المسيحيّون غير
المتعلمين في القرون الأولى، وتلك التي كانت تشغلهم، وتلك التي كانت تعجبهم؛
والأمثلة السلوكية التي كانوا متعلقين بها في هذه الحياة، والأمور التي كانوا
يظنون أنهم يجدونها في النص. أمّا بالنسبة للقصص الشعبية والروايات، سنجد مرة
أُخرى أن الأبوكريفا ثمينة جدًّا. كما أنها تكشف لمحبي ودارسي أدب العصور الوسطى
وفنّها عن جزء ليس بصغير من أصولهما، هذا بالإضافة إلى أنها تعطيهم حلولًا لألغاز
كثيرة تقابلهم. ولقد تركت الأبوكريفا بالفعل تأثيرًا عظيمًا جدًّا وواسعًا جدًّا –
لا يتناسب إجمالًا مع قيمتها الداخليّة – حتّى إنه لا يمكن لشخص مهتم بتاريخ الفكر
المسيحيّ والفن المسيحيّ أن يهملها.[3]
في عصر
أدب الآباء اليونان المتأخر (في عصر إيرينيئوس، ومن بعده)، وفي الأعمال اللاتينية
بدءًا من القديس جيروم، كانت كلمة ”أبوكريفا“ تعني ”غير قانونيّة“ وذلك يحمل ضمنًا
معنى كونها أقل بكثير من حيث موضوعها ومحتواها من الأسفار القانونيّة، وما يرد
فيها من الخوارق والغرائب والأمور غير المقبولة يترك لدى القاريء انطباعًا سيئًا.
من هذه
الكتابات المزيفة أو المنحولة نستطيع أن نستخلّص أربعة أنماط أدبية توازي أنماط
العهد الجديد وهي:
الإنجيل حسب العبرانيّين إنجيل المصريين إنجيل بطرس إنجيل متياس إنجيل توما (الطفولة) إنجيل توما (الأقوال) إنجيل أندراوس إنجيل برنابا إنجيل برثلماوس إنجيل نيقوديموس (ويشمل أعمال بيلاطس) إنجيل يهوذا الإسخريوطي إنجيل كيرينثوس إنجيل فالِنتينوس إنجيل حواء إنجيل ابلليس إنجيل باسيليدس إنجيل الإبيونيين الإنجيل الأوّل ليعقوب (دُعي بالأوّل لأنّه يتكلم
عن تاريخ ما قبل ولادة يسوع) إنجيل يوحنا (غير إنجيل يوحنا القانونيّ) إنجيل متّى (غير إنجيل متّى القانونيّ) إنجيل فيلبس إنجيل تداوس الإنجيل العربي لطفولة يسوع التاريخ العربي ليوسف النجار.
أعمال يوحنا أعمال تداوس أعمال أندراوس أعمال توما أعمال بطرس أعمال بولس (بولس وتكلا) أعمال بطرس وبولس أعمال كرازة بطرس وبولس أعمال فيلبس أعمال أندراوس ومتياس.
حوار بعد القيامة بين السيد المسيح
وتلاميذه.
رسائل القديس بولس إلى: اللاودكيين، الإسكندريّين،
بولس وماركيون، الرسالة الثالثة إلى أهل كورنثوس، مراسلة بين القديس بولس والفيلسوف
سينيكا، ثماني رسائل قصيرة لسينيكا، وست رسائل قصيرة تحوي ردود للقديس بولس عليه،
وهيَ فقيرة من حيث الأسلوب. ويشهد جيروم أن كثيرين كانوا يقرأونها.[4]
أسطورة تحوُّل سينيكا إلى الإيمان، والتي
تُبنى عليها الخطابات السابق ذكرها، رُبّما يعود أصلها إلى صفة الأخلاق والتوحيد
بالله التي تتميّز بها كتابات سينيكا رسائل تلاميذ القديس بولس ومنها رسالة
برنابا.[5]
رؤيا استفانوس رؤيا توما رؤيا يوحنا رؤيا العذراء رؤيا بطرس رؤيا بولس.
ودون الدخول في تفاصيل كثيرة،
فإنّ هذه الكتابات تُعد فنًا أدبيًا كان له بعض الأثر في الإيمان الشعبي في الكنيسة
الأولى. فهي تراث لا يحسن إهماله. فهي شعور شعبي بالوحي، نقله من مكانته العلائقية
مع الله، إلى المُخيلة البشريّة التي سبقت التوضيح العقائديّ الأصيل. فبعضها يُعد
تعبيرًا عن الإيمان الشعبي الذي لا يُحسن اختيار ألفاظه المُعبّرة عنه، وقد استخدمت
في العظات القديمة.[6]
ونحن في عصر، يُمكننا فيه أن ندرس دور تلك النماذج من المعرفة الأولى عن المسيحيّة،
وتمييز ما فيها من جانب تاريخيّ رُبّما يُساعدنا على فهم تقليد الكنيسة الأولى.
التعاليم
عن الثالوث في الكتابات الأبوكريفية
التعاليم اللاهوتيّة الخاصة بالابن
يقول كاتب إنجيل يعقوب على لسان
الملاك، إنّ المولود من مريم هو من قوة الله، قدّوس ويُدعى ابن الله.[7]
وعند زيارة مريم إلى أليصابات تقول لها: ”من أين لي هذا أن تأتي أم رّبّي لزيارتي؟“[8]
وعند ميلاده قد أحاط به
الملائكة وسجدوا له.[9]
حتّى الثور والحمار في المزود سجدوا له.[10] وسجدت
له الأسود حين دخل مغارة كانوا يسكنون فيها على مرآى من الجميع.[11]
كما دُعيَّ صراحةً إلهًا على
لسان مُعلِّمه زكّا، حين قال: ”سيكون له شأن عظيم، إنه إله أو ملاك، لست أدري!“[12]
وتكرّر نفس هذا القول على لسان امرأة أقام يسوع ابنها.[13]
ومرة أُخرى على لسان أفرودوسيوس حاكم المدينة التي سقطت الأوثان فيها على وجهها
عند مجئ المسيح، حين قال: ”لو لم يكن هذا الطفل إلهًا، لما كانت ألهتنا قد سقطت
على وجهها“.[14]
وكان يخلق من الطين كهيئة
الطير.[15]
والخلق صفة مُلازمة للإله.
وهو الأزليّ، كما قال: ”لقد رأيت
إبراهيم الذي تقولون إنه أبوكم، ورآني“.[16] ودعى
الإلوهيّة على نفسه، إذ يقول: ”حيث يكون هُناك إلهين أو إله واحد، فإني سأكون
هُناك“.[17]
وفي موضع آخر من نفس الكتاب، يقول: ”أنا هو النور الذي يكون فوق الكلّ، أنا هو
الكلّ، مني جاء الكلّ، ولي يتسع كلّ شئ“.[18]
التعاليم اللاهوتيّة الخاصة بالثالوث القدوس
في نهاية إنجيل يعقوب، نجد
الكاتب يختتم كتابه على منهج المواعظ المسيحيّة، بذكر التمجيد للثالوث القدوس،
فيقول:
”سيدنا يسوع المسيح، الذي له المجد والقوة مع الآب والروح القدس المُحيي، الآن وكلّ آوان وإلى أبد الأبد. آمين“.[19]
ويذكر أبيفانيوس صائد الهرطقات،
أنه جاء في إنجيل الأبيونيين قصة التجلي كما وردت في إنجيليّ متّى ومرقس، حيث يسوع
الابن صاعد من المياه، والروح القدس على هيئة حمامة، وصوت الآب من السماء.[20]
وفي
إنجيل توما المنحول، وهو أقدم الأناجيل الأبوكريفية التي وصلت إلينا، يقول الكاتب:
”حيث يكون هُناك ثلاثة آلهة، فإنهم آلهة“.[21]
وفي
موضوع آخر، يكتب:
”من يجدف على الآب يُغفر له، ومن يُجدف على الابن يُغفر له، أمّا من يُجدف على الروح القدس فلن يُغفر له“.[22]
[1]
Haer.1.20.
[2] الكتاب المُقدّس –كما نعلم- ليس مجموعة من القصص، ولا يهدف في
الأساس إلى تدوين سيّر حياة بعض الأشخاص، بل قد كُتِبَّ كما يقول يوحنا الرسول: ”وَأَمَّا هذِهِ فقد كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أنّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ
تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ“ (يو20: 31)، ويقول ق. كيرلس عمود الدين: ”أمور
التاريخ العشوائية المذكورة عرضًا“ (P. G. 68, 585, D). فالكتاب المُقدّس لا
يسرد لنا قصصًا عن التاريخ وحياة الأشخاص بهدف تدوين السيّر الذاتية، وتدوين تاريخ
لشعوب بعينها. بل، قد كان هدف الروح القدس، مدوّن الكتاب، في الأساس هو إيصال
رسالة شخصيّة تربط بين الإله والإنسان، عن طريق الأشخاص والأحداث والأنساب
والأمثال، وكلّ ما استطاع الكاتب الموحى إليه أن يستخدمه ليوصل رسالة ذات جوهر
إلهيّ، ترشد الإنسان إلى الله. وهذا ما يجعل من كتابات الأبوكريفا بعيدة تمامًا عن
الوحي القانونيّ، إذ هدفها الأساسيّ هو الإبهار بالمعجزات التي هيَ غذاء اللاهوت
الشعبي، كما أسهبت في تفاصيل إسطورية، لا طائل من ورائها سوى إشباع الرغبة
الطفولية في معرفة تفاصيل هيَ خارج الهدف الرئيسي للكتاب المُقدّس.
[3] جوهانس
كواستن، علم الآبائيّات ”الباترولوجي“،
ترجمة أنبا مقار (القاهرة: بناريون، 2015)، ص 119- 122.
[4]
De vir. illus. 12.
[5] تادرس يعقوب (القمص)، نظرة
شاملة لعلم الباترولوجي في الستة قرون الأولى (الإسكندريّة: كنيسة مارجرجس
اسبورتينج، 2008).
[6] أوغسطين دبورة (الأب)، خلاصة اللاهوت المريمي، ترجمة. الأب يوسف
قوشاقجي (بيروت: دار المشرق، 2002)، ص 22.
[7] إنجيل يعقوب، 11.
[8] إنجيل يعقوب، 12.
[9] إنجيل متّى المنحول، 13.
[10] إنجيل متّى المنحول، 14.
[11] إنجيل متّى المنحول، 35.
[12] إنجيل توما الإسرائيلي، 7.
[13] إنجيل توما الإسرائيلي، 17.
[14] إنجيل متّى المنحول، 24.
[15] إنجيل توما الإسرائيلي، 4.
[16] إنجيل متّى المنحول، 30.
[17] إنجيل توما، 30.
[18] إنجيل توما، 77.
[19] إنجيل يعقوب، 25.
[20]
Panarion, 30: 13: 6- 8
[21] إنجيل توما، 30.
[22] المرجع السابق، 44.