يُحفظ
الكتاب المقدس، بشكل دائم على المائدة المقدسة في كل كنيسة أرثوذكسية. من على هذه المائدة
يأخذ الكاهن النصّ، المعروف ليتورجيًا بـ”الإنجيل المقدس”، ليقرأه في اجتماع المؤمنين
الليتورجي ثم يعيده إلى مكانه بعد القراءة. هذا يشير إلى المكانة المهمّة التي لكلمة
الله وكذلك إلى عمق العلاقة القائمة بين الكتابات المقدسة والكنيسة الأرثوذكسية. فالكنيسة
لا تحافظ على هذه الكتب ثم تقرؤها للمؤمنين فقط، لكنها أيضاً تفسرها بطريقة مسؤولة
وذلك عبر العصور.[1]
يفرِّق
اللاهوت الأرثوذكسي بين الحق، الذي هو الله نفسه كما أُعلن بيسوع المسيح وقد
“حلَّ بيننا” (يو14:1)، وبين تدوين الحقيقة الخلاصيّة في أسفار الكتاب المقدس.
هذا التمييز بين التدوين والحق يؤدي، بحسب ثيودور ستيليانوبولوس، إلى النتائج المهمة التالية:
أولاً،
إنه يقي من تماهي سر الله مع حرفية الكتابات.
ثانياً،
إنه يسمح بأن تُرى في الإنجيل خبرة أشخاص عديدين في علاقتهم مع الله مكتوبة بلغتهم
الخاصة، في عصرهم وظروفهم، في رموزهم وصورهم وفي أفكارهم الخاصة عن العالم.
بتعبير
آخر، إنه يسمح بعلاقة ديناميكية بين كلمة الله، الموجودة في الكتب المقدسة، وبين كلمات
البشر، التي هي أشكال بشرية بها تُنقل كلمة الله.
ثالثاً،
إنه يفترض أن الكنيسة الأرثوذكسية تَجُلّ أيضاً بشكل عالٍ كتابات أخرى عن الخبرة مع
الله ككتابات الآباء القديسين، والأشكال الليتورجية ونصوصها ومقررات المجامع المسكونية.
هذا ينقذ الكنيسة من حصر تركيزها في الكتاب المقدس.
أخيراً،
الاعتراف بعلاقة متحرّكة بين الحرف والروح يقضي على التطرف الكتابي العقائدي كموقف
لاهوتي (وهو القول أن الله أملى الكلمات التي نقلها حرفياً فيما بعد كتّاب مكرسون)،
وتاليًا
يحمي حياة المؤمن الأرثوذكسي من خطأ التبجيل الصنمي لنص الكتاب المقدس (bibliolatry أو المغالاة في إجلال الكتاب المقدس). مع كل ذلك، هذا التمييز بين التدوين
والحق ليس هدفه التقليل من أهمية الكتاب المقدس. فإذا كانت الكنيسة الأرثوذكسية تقدّر
كتابات أخرى عن الخبرة مع الله، فالإنجيل يبقى التدوين الأول في التقليد اللاهوتي وفي
عبادة الكنيسة.[2]
تمسك الكنيسة
بالعهد القديم
يشكل العهد القديم ما يقرب من ثلاثة أرباع الكتاب
المقدس. لم يجمِّعه مسيحيون ولكن جمَّعه يهودٌ في الحقبة السابقة للمسيحية، وكان
ولا يزال يمثل الأسفار المقدسة لليهود. ومع ذلك فالكنيسة منذ بداياتها تدَّعي
بملكيتها للعهد القديم. إنَّ محتوى الكتاب الحالي سيلقي الضوء عن كيف صارع آباء
الكنيسة في القرون الأربعة الأولى مع إشكالية العهد القديم، وكيف استخدمت الكنيسة
العهد القديم، أو كيف قرأته كأسفار مقدسة مُوحى بها.
لم تخلُ الكنيسة يومًا من أسفار مقدسة حتى قبل أن تُكتب
رسائل بولس والكتابات الأولى التي تشكِّل العهد الجديد الحالي، بعقدين أو أكثر بعد
قيامة يسوع. الكتابات الُمتبقية التي تُشكِّل العهد الجديد كُتِبت في النصف الثاني
من القرن الأول، وبعضها مع نهاية هذا القرن. وقد مرَّ قرنٌ واحدٌ آخر على الأقل
قبل أن تُجمع هذه الكتابات معًا لتُشكِّل الأسفار القانونية التي تعترف بها الكنيسة.
ومع ذلك فالكتابات التي
نطلق عليها اسم العهد الجديد، والتي تشكل مصدر معلوماتنا عن بدايات الحركة
المسيحيّة، تُخبرنا بأن الرسل والمُبشرين كانوا يلجأون باستمرار إلى الكُتب
ليؤسسوا تعاليمهم عن يسوع الناصري، وعن موضوعات أخرى ذات أهمية جوهرية لإيمانهم. كانت
هذه الإشارات لما نُسميه الآن بـ"العهد القديم"،[3] والذي
كانت تشير إليه الكنيسة الأولى بكلمة "الكُتب".[4]
كل الإشارات لما يُسمى الكُتب في العهد الجديد هي للعهد
القديم.[5] عندما يقول
بولس أن "الْمَسِيحَ
مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ
قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ"، فهو يعني حسب ما
تقوله أسفار العهد القديم عن المسيّا (1كو 15: 3-4). وعندما يقول لوقا إن بولس كان
يدخل المجمع في تسالونيكي و"كَانَ
يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ مِنَ الْكُتُبِ"، فهو يعني أن
بولس كان يحاججهم من أسفار العهد القديم (أع 17: 2-3). ينطبق نفس الشيء على كلام
لوقا عن أبولوس الذي كان يدحض اليهود في أخائية "مُبَيِّنًا بِالْكُتُبِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ
الْمَسِيحُ"(أع 18: 28). وعندما يُذكّر بولس تلميذه تيموثاوس أنه يعرف الكُتب
المقدسة منذ الطفولة وهي قادرة أن تقوده إلى الخلاص بالإيمان في يسوع المسيح، ثم يضيف
أن "كُلُّ
الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ،
لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ" (2تي 3:
15-16).
تعبير "مكتوب-
γέγραπται" الذي يظهر كثيرًا في العهد الجديد قبل اقتباس من الكُتب،
دائمًا ما يسبق عبارات من العهد القديم. وتظهر كثيرًا في الأناجيل الأربعة لتبيِّن
الارتباط بين جوانب معينة من خدمة يسوع وأحداث ونبوات العهد القديم. هذه
الارتباطات تترواح من عبارات تتعلق بمكان ميلاد يسوع، إلى أفعال محددة في خدمته،
إلى آلامه الأخيرة على الصليب. يستخدم لوقا نفس التعبير ليقدِّم اقتباسًا من
المزامير مبررًا اختيار بديل من الرسل عن يهوذا بعد انتحاره (أع 1: 20). يشير لوقا
بأن بولس استخدم هذا التعبير أيضًا ليربط بين المزمور الثاني بقيامة يسوع في عظته
في أنطاكية بيسيدية (أع13: 33).
كما يؤسس بولس الكثير من العقائد التي تميَّز بها على أساس من العهد القديم، بالإضافة
لفهمه لعمل الله في المسيح. من بين هذه العقائد: عبودية كل البشر للخطية (رو 3:
10-20)، دور الإيمان في الخلاص (رو 1: 17)، التبرير من خلال الإيمان (رو 4)، تعثُر
اليهود وخلاص الأمم (رو 9: 33؛ 10: 15-21)، وعقيدته عن آدم الأول وآدم الثاني (1كو
15: 45). رأى بولس أن الأحداث التي رويت في العهد القديم سُجِّلت لتعلِّم
المسيحيين وتشجعهم (رو 15: 4؛ 1كو 10: 11).
يؤكد لوقا أن يسوع نفسه علَّم تلاميذه أن العهد القديم كان كتبًا تتحدث عنه هو
شخصيًّا.[6] يُسجِّل
لوقا في ختام إنجيله أن يسوع المقام مَشى مع تلميذين في الطريق إلى عمواس وكان "يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ
الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ"، وبالطبع كان يقصد
بالكُتب أسفار العهد القديم (لو 24: 27). ويربط لوقا مرة ثانية، قبل روايته عن
صعود المسيح، أن يسوع علَّم تلاميذه أن الناموس والأنبياء والمزامير كلها تحتوي
على أمور تختص به. هذا التعليم الأخير الذي أعطاه يسوع إلى تلاميذه، حسبما يقول
لوقا، يذكر أن آلام وقيامة المسيّا ترتبط بالعهد القديم. كما يؤكد أن العهد القديم
يتضمن إعلانًا بأن رسالة التوبة وغفران الخطايا يجب أن تُعلن "لِجَمِيعِ الأُمَمِ" في اسم
يسوع (لو 24: 44-47).
ليس هناك شك أن العهد القديم كان يشكِّل كتابًا مقدسًا
للمسيحيين الأوائل، وأنهم قرأوه بالنظر إلى المسيح. كان هذا بديهيًا تمامًا
بالنسبة لهم؛ لأنهم لم يروا أنفسهم مختلفين عن اليهود. فقد كانوا يؤمنون أن يسوع
هو إتمام لوعود الآباء في العهد القديم. لذلك كانت معتقداتهم عن المسيح متفقة
تمامًا مع إيمانهم اليهودي. عندما سمع فيلبس الخصي الحبشي وهو يقرأ الأصحاح 53 من
إشعياء، يقول لوقا إن فيلبس بدأ "مِنْ
هذَا الْكِتَابِ"، أي إشعياء 53، و"بَشِّرَهُ بِيَسُوعَ" (أع 8: 35).
كما أعلن بولس إلى المسيحيين في رومية أن الإنجيل الذي يبشّر به "سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ
فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ" (رو 1: 2). وبالتالي انضمت كتابات العهد القديم
مع الرسالة المسيحية في ارتباط من غير التحام في عقول المسيحيين الأوائل. لم
يقدروا على تخيُّل احتمالية وجود إيمان مسيحي بدون العهد القديم. كان العهد القديم
ضروريًا لفهمهم عن هُوية يسوع، وحياته، وموته، وقيامته، وما أوصاهم به ليفعلوه
كتلاميذ له.[7]
وفي القرن الخامس، نجد عند القديس كيرلس ثلاث أسباب
تجعلنا نتمسك بالعهد القديم:
1ـ بالعهد القديم نرى أن سر المسيح ليس شيئًا جديدًا ولا
مستحدثًا ، بل هو موجود من البداية وقد عُبّر عنه في شكل اللغز والظل في الأحداث
والأعمال التعبدية وأيضًا الأعياد في العهد القديم (تعليقات على سفر الخروج ص2، P.G. 69, 424B) (على سفر ملاخي ص2، P.G. 72, 364C) .
2 ـ كان المسيح حاضرًا في أحداث وشخصيات
العهد القديم ولكن أيضًا باللغز والمثال ، وذلك بسبب ضعف السامعين (تفسير لوقا، P.G. 72, 901C) .
3 ـ حضور المسيح في العهد القديم يُبرهن على أن الكتب
المقدسة أوحيت بنور روح المسيح (العبادة بالروح والحق4:5 ، P.G. 68, 1313D) .
العهد القديم يفهم
من خلال الجديد
العهد القديم ملك المسيحيين، ولا يُمكن فهمه إلا من خلال
الإيمان بيسوع المسيح، فيُعبِّر أوغسطينوس بشكل نموذجي عن الموقف الآبائي العام
بقوله الشهير " Novum Testamentum in Vetere latet. Vetus Testamentum in Novo patet" (العهد الجديد هو إتمام العهد
القديم). يسوع المسيح هو المسيّا الذي تكلّم عنه الأنبياء. فيه تحقَّقت كل الوعود
والتوقُّعات. الناموس والإنجيل متلائمان. ولا يستطيع أحد أن يدّعي بأنّه من أتباع
موسى الحقيقيين إلاّ إذا آمن بأن يسوع هو رب. إن كل مَن لا يدرك بأن يسوع هو المسيّا،
مسيح الرب، يخون بذلك الشريعة القديمة نفسها. وحدها كنيسة المسيح تحتفظ الآن
بالمفتاح الصحيح للكتاب المقدّس، المفتاح الحقيقي للنبوءات القديمة. لأن كل هذه
النبوءات تحققت بالمسيح.
وحدة العهدين
يستَشهد الكتّاب الأوائل بالعهد القديم بغزارة. وحتى
بالنسبة للأمم، كانت رسالة الخلاص دائمًا تقدَّم بإطار العهد القديم. هذا كان حجة
منذ القدَم. لم يلغِ المسيح العهدَ القديم لكنه جدّده وأتمّه. بهذا المعنى لم تكن
المسيحية دينًا جديدًا. ببساطة دُمجت الكتب المسيحية الجديدة بالكتاب اليهودي
الموروث على أنها تتمته. ووحدة الإنجيل كاملًا، أي العهدان معًا، اعتُبر السجلّ
الوافي للوحي المسيحي. لم يكن هناك أي انقطاع بين العهدين بل وحدة من التدبير
الإلهيّ. وقد كانت المهمة الأولى للاهوت المسيحيّ إظهار وشرح كيف أنّ الشريعة
القديمة كانت تهيئة وتوقُّعًا لإعلان الله النهائي في يسوع المسيح.
لقد اعتُبر العهد القديم بأكمله نبوءة مسيحية
و"تهيئة إنجيلية". منذ وقت مبكر جمّعت بعض المختارات الخاصة من نصوص
العهد القديم واستعملها المبشرون المسيحيون. من أفضل عيّنات هذا النوع هي شهادات
القديس كبريانوس (Testimonia). وقد حاول
القديس يوستينوس في حواره مع تريفو أن يثبت حقيقة المسيحية من العهد القديم.
محاولة الماركيونيين قطع العهد الجديد عن جذوره في القديم قوبلت بمقاومة نشيطة
وأدينت من الكنيسة. لقد أُكّدت وحدة العهدين بقوة وشُدّد على انسجامهما الداخلي.
لقد كان هناك دائمًا بعض الخطر من قراءة الكثير من العقيدة المسيحية في كتابات
العهد القديم. وقد عُتِّم المنظار التاريخي أحيانًا بشكل خطير. ولكن لن يزل هناك
حقيقة عظيمة في كل هذه المساعي التفسيرية. لقد كان هذا شعورًا عظيمًا بالتوجيه
الإلهي عبر العصور.[8]
كيف اكتمل
العهد القديم في العهد الجديد؟
1. تاريخ
الخلاص: يعلن العهد القديم في أكثر من مكان بأن الله هو خلاص شعبه، إذ كان قد أظهر
نفسه بهذه الصفة في أحداث متعاقبة في تاريخ العهد القديم. أهم هذه الأحداث هو
الخروج من مصر والعودة من السبي البابلي (خر 15: 2، اش 45: 15-17). خلاص الله
ودينونته في العهد القديم هما وجهان لذات العمل: ففيما يخص دينونته، هو الذي سمح
بأن يُسبوا إلى بابل، وفيما يخص خلاصه، فهو الذي أعادهم منها. وفي العهد الجديد
مفهوم الخلاص والدينونة يتجلى في عمل المسيح: ففي شخصه تحققت دينونة الله من أجل
خلاص شعبه. وفي تاريخ الخلاص هذا يتّحد عمل الخلاص الإلهي بالكلمة النبوية: فلا
يُعبّر أحدهما عن كمال الإعلان دون الآخر. علاقة خدمة موسى بتحرير الشعب من مصر
تتوازى مع علاقة خدمة الأنبياء الآخرين بعمل الرحمة والدينونة الذي أعلنوه. وفي
العهد الجديد، يتّحد كل من العمل الخلاصي والخدمة النبوية في نفس الشخص – يسوع
المسيح.
2. اكتمال
العهد: يعتبر العهد أحد عوامل الوحدة بين العهدين القديم والجديد. إله إسرائيل هو
إله يحب إعطاء العهود والحفاظ عليها: فيدخل في علاقة شخصية مع الرجال والنساء
ويقرر أن يصبح إلهاً شخصياً لهم لكي يجعلهم شعباً له. العهد الأول الذي أقامه الله
مع البشرية كان عندما وعد بمجئ من سيسحق رأس الحية بعد قصة السقوط. وتوالت العهود
فأقام عهداً من خلال نوح مع جميع البشرية (تك 6: 18، 9: 8-17)، وعهداً من خلال
إبراهيم ليبارك نسله (تك 15: 18-21، 17: 1، 22: 15-18)، وعهداً مع هذا النسل على
جبل سيناء بعد إخراجهم من مصر (خر 24: 3-8، 34: 10-28)، ويعيد ذكر هذا العهد في
شكيم (تث 27: 2 – 28: 48). وأقام عهداً خاصاً مع داود مثبتاً مُلكَه إلى الأبد (2
صم 7: 8-17، مز 89: 19-37، 132: 11-18).
لا يأتي العهد الجديد على ذكر العهد مع نوح، فيما يحتل
العهد مع إبراهيم مكاناً أفضل: "لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا
وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ. الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ
أَبِينَا" (لو 1: 72-73). هذا العهد تحقق في إنجيل التبرير بالإيمان (رو 4:
13 وبعده، غل 3: 6-18). والعهد مع داود – خصوصاً في إنجيل لوقا – قد اكتمل بقيامة
السيد المسيح وتأسيس ملكه (لو 1: 32 وبعده، أع 2: 25-36، 15: 16-18). والعهد الذي
أعطي زمن موسى وُضع مقابل العهد الأبدي الذي افتتحه المسيح وختمه بدمه، هذا العهد
الأخير هو "العهد الجديد" الذي أعلن في سفر أرمياء (ار 31: 31-34).
تزخر الأناجيل بالشواهد التي تعلن تتميم الوعد، فمرقس 1:
3 يرى في أشعياء 40: 3 الرب المنتظر، ويُظهر متى 8: 17 الأعاجيب التي أتاها يسوع
كتتميم للأزمنة المسيحانية التي يتكلم عنها أشعياء 53: 4، ويعتبر مرقس 14: 27 هروب
التلاميذ أمام الصليب تتميماً لنبوءة زكريا 13: 7. وفي هذا الإطار تندرج الاستعانة
بالمزمور 118 (مر 11: 9، 12: 10، مت 11: 3، عب 13: 6، 1 بط 2: 7). ويشكّل متى 1-2
ولوقا 1-2 لوحة لمجموعة من نصوص العهد القديم، فقدّما يسوع على أنّه داود الجديد
بالعودة المتكررة إلى الأنبياء (لوقا 1) وعلى أنه موسى الجديد (متى 2) بالعودة
المتكررة إلى سفر الخروج.
3. إكمال خط
التاريخ المقدس: بدأ التاريخ المُقدَّس للبشرية عندما اختار الله شعباً معيناً من
بين كل الشعوب ليكون له شعباً مقدساً. فوقع الاختيار على إسرائيل ليكون مثالاً
لبقية الأمم بطاعته لوصايا الله والعمل بها. إلا أن الكتاب يخبرنا بأن إسرائيل فشل
في اختباره هذا: "اِسْمَعِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَأَصْغِي أَيَّتُهَا
الأَرْضُ لأَنَّ الرَّبَّ يَتَكَلَّمُ: «رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ أَمَّا
هُمْ فَعَصُوا عَلَيَّ. اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيهِ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ
صَاحِبِهِ أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ». وَيْلٌ
لِلأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ الشَّعْبِ الثَّقِيلِ الإِثْمِ نَسْلِ فَاعِلِي الشَّرِّ
أَوْلاَدِ مُفْسِدِينَ! تَرَكُوا الرَّبَّ اسْتَهَانُوا بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ
ارْتَدُّوا إِلَى وَرَاءٍ." (اش 1: 2-4).
فهم العهد الجديد تجربة يسوع في البرية (مت 4: 1-11، لو
4: 1-13) على أنها انتصارٌ لمخطط الله في البشرية. وهناك مقابلة بين تجربة يسوع في
البرية وتجربة الشعب العبراني في البرية بعد حادثة الخروج من مصر: قاوم يسوع
التجارب وانتصر عليها في حين سقط أمامها شعب الله في البرية. نجح يسوع حيث فشل
إسرائيل، وبنجاحه انتصر مخطط الله للبشرية. وما زالت الانتصارات تتوالى في حياة كل
من يؤمن بالسيد المسيح ويعمل بحسب مشيئته.
4. كمال
الإعلان الإلهي في السيد المسيح: تخبرنا كتب العهد القديم عن الإعلان الإلهي
والاستجابة البشرية لذلك الوحي بالقبول حيناً والرفض حيناً آخر. ويخبرنا العهد
الجديد بأن كمال الإعلان الإلهي هذا قد تحقق في شخص السيد المسيح. استمرارية هذا
الوحي واضحة في قولنا بأن الله بعد ما كلّم آبائنا بالأنبياء مرات عديدة وبطرق
عديدة كما هو مدون في العهد القديم، "كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ
الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي
بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ" (عب 1:1-2).
عاشت الكنيسة في مرحلتها الأولى بالتقليد الشفهي إذ لم
يكن العهد الجديد قد كتب بعد. ولهذا عندما يعلن السيد المسيح بأن الكتب "هِيَ
الَّتِي تَشْهَدُ لِي" (يو 5: 39) إنما يعني العهد القديم. وعندما يخبر بولس
الرسول تلميذه تيموثاوس "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ،
وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي
فِي الْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ
عَمَلٍ صَالِحٍ" (2 تي 3: 15-17)، إنما يقصد العهد القديم. كل العهد القديم
إذاً موحى به من الله ولهذا لم يتعبر السيد نفسه كناقضٍ للناموس – الذي يشهد لشخصه
المبارك - بل كمُكَمّلٍ له (مت 5: 17). ولذلك يمكن لبولس الرسول أن يعلن بأن بر
الله الذي ظهر في السيد المسيح إنما يشهد له "النَّامُوسِ
وَالأَنْبِيَاءِ" (رو 3: 21).
كمال الإعلان الإلهي قد تحقق حقاً في شخص السيد المسيح
الذي "لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا." (أع 10: 43). هذا الخلاص كان توق
الانبياء أنفسهم: "الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ،
الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ
وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ
الَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ
وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا." (1 بط 1: 10-11). عمل المسيح الخلاصي كان
قد تنبأ عنه أشعياء: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ الرَّبَّ
مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ
لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ
بِالإِطْلاَقِ..." (أش 61: 1-11). هذا قد تحقق بمجيء السيد المسيح حيث قال له
المجد بعد قراءته لنص نبوءة أشعياء: "الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا
الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ." (لو 4: 21، أنظر 7: 22). هذا كان إعلاناً
لقدوم الملكوت الذي بحسب دانيال النبي كان الله قد وعد بأن يؤسسه في الأيام
القادمة (دا 2: 44، 7: 14، 22، 27). وطوّب الرب يسوع تلاميذه لأنهم يسمعون ويبصرون
كمال الإعلان الإلهي في شخصه المبارك قائلاً: "َإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ
لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَاراً كَثِيرِينَ اشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا
أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ
وَلَمْ يَسْمَعُوا." (مت 13: 16-17، لو 10: 23-24). كان على خدمة يسوع أن
تتكلل بموته الذي كان قد تنبأ عنه مسبقاً (مر 9: 12). ولأنه كان واثقاً من أن
النبوّات كانت تتكلم عنه، سلّم نفسه لمعتقليه قائلاً: "كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ
مَعَكُمْ فِي الْهَيْكَلِ أُعَلِّمُ وَلَمْ تُمْسِكُونِي! وَلَكِنْ لِكَيْ
تُكْمَلَ الْكُتُبُ" (مر 14: 49).
هكذا إذاً فهم تلاميذ المسيح أن العهد القديم مليء
بمعانٍ جديدة. جمعت كتاباتهم لاحقاً وأعطيت إسم العهد الجديد غير أن سلطة العهد
القديم لم تَزَل بعد. فها هو مرقيون المبتدع في النصف الأول للقرن الثاني اعتقد
بأن يسوع والإنجيل أتوا بأشياء جديدة تماماً وغير مرتبطة بما قد أتى قبلها، ورفض
ضم العهد القديم للقانون المسيحي. غير أن الكنيسة الأولى رفضت تعاليمه. فالغرسة
المسيحية لا يمكن أن تنموا إذا ما قطعت جذورها القديمة.
منهج التفسير
الآبائي للعهد القديم
تاريخ تفسير العهد القديم في المسيحية الأولى هو من أكثر
الفصول غزارة في تاريخ العقيدة المسيحية. ورثت الكنيسة بعض التقاليد التفسيرية مع
العهد القديم اليوناني (أي الترجمة السبعينيّة). فيلو، اليهودي المتهلّن من
الإسكندرية، كان من أفضل الممثلين لهذا المسعى ما قبل المسيحي لاستيداع العهد
القديم للأمم. لقد اختار لهذه المهمة طريقة فريدة جدًا هي المجاز.
لم يكن لفيلو أي فهم للتاريخ. لقد أغفل الحوافز
المسيانية أو أهملها في فلسفته للكتاب. بالنسبة له، الكتاب كان فقط نظامًا للفلسفة
الإلهية أكثر مما هو تاريخ مقدّس. وعلى هذا الأساس لم يكن للأحداث التاريخية أي
أهمية أو شأن بالنسبة إليه. لقد كان الكتاب المقدّس بالنسبة له كتابًا واحدًا فشل
في أن يتبيّن فيه أيّ منظار أو تقدّم تاريخي. لقد تعاطى معه بالواقع كمجموعة من
الحكايات الرمزية المجيدة والقصص التعليمية المعدّة لحمل بعض الأفكار الفلسفية
والأخلاقية وتصويرها.
لم تقبل الكنيسة هذه الطريقة الرمزية بهذا الشكل
المتطرف. ومع ذلك، ينبغي الإقرار بتأثير فيلو القوي على كل المقالات التفسيرية في
القرون الأولى. لقد استعمل القديس يوستينوس فيلو كثيرًا. برنابا في رسالته (أوائل
القرن الثاني) ذهب حتى إلى إنكار الصفة التاريخية للعهد القديم. لقد تبعت مدرسة
الإسكندرية المسيحية التقاليد الفيلونية. وحتى لاحقًا، القديس أمبروسيوس كان يتبع
فيلو إلى حد بعيد في تعليقاته ومن الممكن تسميته بحق Philo latinus. أو فيلو
اللاتيني، لقد كان هذا التفسير الرمزي الخاص بفيلو ملتبسًا ومضللًا.
لكن الكنيسة دائمًا كانت ترى أن الله كان في كلامه دومًا
ما يتخطّى كل القيود التاريخية. على المرء أن يميّز بتأنٍ بين النبوءة المباشرة
وما يمكن وصفه كتطبيق لها. يمكن للكثير من روايات العهد القديم أن تنوّر المؤمن
حتى ولو لم يكن الكاتب قد قصد فيها أي تصوير مسبق لحقيقة مسيحية ما.
إن التفسير الصحيح للكتاب المقدس ممكن فقط حين يُميز
المفسر تلك العلاقة بين كلمات الكتاب المقدس، والكلمة اللوغوس الناطق فيها. هكذا
نرى في تجسد الله الكلمة، والذي ندركه كعمل الله الخلاصي، المفتاح لكل هذه
المعضلات، من ثم فإن التفسير يكون صحيحًا ودقيقًا حين يتبع ما يلي:
1ـ يحافظ
على غاية الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس.
2ـ يحترم
الطبيعة التدبيرية لأعمال الله وكلماته.
3ـ يحافظ
على العلاقة بين معاني كلمات الكتاب المقدس وعباراته، حتى تفي بالغرض من تفسيرها.
4ـ فحص
العبارات والتدليل عليها، وفقًا لقاعدة الإيمان، التي تنشأ عن فهم الكنيسة للكرازة
(The Kerygma)، كما إنتقلت إلينا، بواسطة
الكتابات الرسولية .
وهنا
الاستنتاج، يأخذ في الإعتبار غاية الكتاب المقدس، ثم الطبيعة التدبيرية
(إيكونوميا) للعبارات الكتابية، وأخيرًا طريقة تفسير الكتاب المقدس.[9]
فهم الوجهين
البشري والإلهي للنص الكتابي
فيلون الأسكندرى المفسر اليهودي كان يُعلِّم بأنّ النبى
لا دور له فى عملية الوحى بل هو عبارة عن أداة صماء فى يد الله، لا إرادة لها ولا
دور وهُنا يتحوَّل الوحي إلى حالة نفسيّة! ولكن الرب يسوع يؤكِّد بقوله: " إنَّ
داود قال بالروح القدس"، يؤكِّد على دور الإنسان بكل تراثه ولغاته وثقافاته
فى عمليّة الوحى.
يجب
أن نقبل مباشرة كون الكتاب المقدس صعباً ومختوماً بسبعة أختام. وكلَّما مرَّ الزمان
أصبح أكثر صعوبة. ولكنَّ صعوبته لا ترجع إلى أنّه مدوَّن "بلغة مجهولة"
أو إلى احتوائه "كلمات سرِّيّة لا يُسمح لنا
بتلاوتها". فبساطته التامّة هي حجر عثرة لنا، لأنّ أسرار الله موضوعة في
قوالب الحياة اليوميّة عند الإنسان العادي، حتى إن التاريخ
كلّه يظهر بشرياً مثلما كان الرب المتجسِّد.
فالكتاب
"موحى به" من الله، فهو كلمته. لكنَّ بحث ماهية الوحي بدقة أمر
مستحيل، لأنّه محاط بسر، بسر مواجهة الله للإنسان. إننا لا نستطيع أن نفهم الطريقة
التي سمع بها "قديسو الله" كلمة سيدهم، ولا كيفية تعبيرهم اللغوي عمَّا أوحى
به الله إليهم. وحتى في عملية تعبيرهم الإنسانيّ كان صوت الله معهم. هذه هي معجزة
الكتاب وأسراريته: إنه ظهور كلمة الله مدوَّنة في لغة بشريّة.
ومهما
كانت الطريقة التي نفهم بها الوحي الإلهي فعلينا
ألاَّ تغفل عاملاً أساسياً وهو أن الكتاب ينقل إلينا كلمة الله في لغة
بشرية. فالله كلَّم الإنسان بالفعل، وهذا يفترض وجود
من يسمع الكلمة ويعيها. ولذلك ترتبط "التشبيهيةanthropomorphism "
(خلع الصفات الإنسانية على الله) بهذا الأمر، لأن
اللسان البشري لا يفقد خصائصه الطبيعية عندما يصير عربة للإعلان
الإلهيّ. فإذا ما أردنا أن تكون كلمة الله مدوِّية،
فلساننا يجب أن يبقى لساناً بشرياً.
إن
الوحي الإلهي لا يمحو العنصر البشريّ، بل يغيِّر وجهه فقط. فكلّ
"ما يفوق الطبيعة" لا يهدم "ما هو طبيعيّ": "ما هو فوق
الطبيعة (hyper physin)" لا يعني "ما هو بخلاف الطبيعة"
(para physin). واللغة الإنسانية
لا تخون الإعلان الإلهي ولا تقلِّل من شأنه أو تقيِّد قوة كلمة الله. وما دام
الإنسان مخلوقاً على صورة الله ومثاله فهو يقدر أن يعبِّر عن كلمة الله بكلماته البشرية
بشكل كافٍ وصحيح، لأن كلمة الله لا تخفت عندما ينطق بها لسان بشري. أمَّا قبول
الله مخاطبة الإنسان فقد أكسب الكلمة البشرية قوة وعمقاً جديدين، وأعطاها شكلاً
مختلفاً.
فالوحي
استجابة بشرية لما تكلَّم به الله أولاً، وشهادة إنسانية لله الذي كلَّمه ولمن سمع كلمته
وحفظها. فالكتاب هو بمعنى من المعاني كلمة الله والاستجابة الإنسانية بآن واحد، أي
كلمة الله المعبَّر عنها من خلال استجابة الإنسان
الإيمانية. لذلك نعثر دائماً على تفاسير بشرية في العرض الكتابي لكلمة الله،
لأن هذا العرض يتأثر دوماً بالظروف التي يتكوَّن فيها. فهل يقدر الإنسان أن يفلت
من وضعه البشري؟[10]
مهما
كان أصل النصوص التي يشتمل عليها الكتاب المقدس فمن الواضح أنه
في مجمله من خلق الجماعة في التدبير القديم والكنيسة المسيحية على حد سواء. فهو لا
يشتمل على كلِّ النصوص التاريخية والتشريعية والتعبّدية الموجودة، بل على نخبة
منها. وهذه النخبة أصبحت ذات سلطان من خلال استعمالها -وعلى الأخص في
اللِّيتورجيَّا وفي وسط الجماعة ومن خلال القيمة التي أعطتها لها الكنيسة.
لقد
كان هناك هدف واضح يحدِّد هذه "النخبة"
ويعيِّنها: "وصنع يسوع أمام تلاميذه آيات أخرى غير مدوَّنة في هذا
الكتاب. أمَّا الآيات المدوَّنة هنا، فهي لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله. فإذا
آمنتم نلتم باسمه الحياة" (يوحنا 20: 30-31). ينطبق هذه الهدف على الكتاب كلِّه.
فما حصل هو أن بعضاً من الكتابات اختير وجُمع وسُلِّم بعد ذلك إلى المؤمنين ليكون
نسخة عن الرسالة الإلهية يجب اعتمادها. إنَّ الرسالة إلهية وآتية من الله، بل إنها
كلمته، لكن الجماعة المؤمنة هي التي سلَّمت بصحة الكلمة التي قيلت وهي التي شهدت
لحقيقتها. لذلك فإننا نؤكد الصفة المقدسة للكتاب بواسطة الإيمان. ولأن الكتاب أُلِّف
ضمن الجماعة بهدف بنيانها، فلا نقدر أن نفصل الكنيسة عن الكتاب المقدس. فالكتاب
والعهد متصلان اتصالاً وثيقاً، والعهد يفترض وجود شعب، ولذلك ائتُمن الشعب على
كلمة الله (رو3: 2) في التدبير القديم. أمَّا في التدبير الجديد فائتُمنت كنيسة الكلمة
المتجسد على رسالة الملكوت. فالكتاب هو حقاً كلمة الله، لكنه يستند إلى شهادة
الكنيسة التي وضعت قانون الكتاب وثبتته.
كان
موقف ترتليان من الكتاب المقدس نموذجياً، لأنه لم يكن
مستعداً للبحث مع الهراطقة على أسس كتابية في المواضيع
الإيمانية التي لم يكونوا على اتفاق فيها. فالكتاب يخصّ الكنيسة، ولذلك كان
احتكام الهراطقة إليه غير شرعي، إذ لا حقّ لهم في ملك غريب. هذه الحجَّة الرئيسة
نجدها في مبحثه الشهير "ضد الهراطقة"
(De praescriptione haereticorum) حيث
يؤكِّد أنّ غير المؤمن لا يحقّ له لمس الرسالة، لأنّه لم
"يستلمها". فلا "رسالة" له في الكتاب المقدس.
كلَّم
الله آباءنا "مرَّات كثيرة وبمختلف الوسائل" (عبر 1: 1)، وكشف عن نفسه
خلال العصور باستمرار قائداً شعبه من حقيقة إلى حقيقة. فهناك مراحل في إعلانه
واستزادة (per incrementa). وهذا التنوُّع يجب ألا يُهمل
أو يُغفل. ولكن يبقى الله في هذا الإعلان المتعدِّد الأنواع هو هو ورسالته السامية
هي هي. فتماثل الرسالة هو الذي يعطي الكتابات المختلفة وحدتها الحقيقية، رغم
تنوُّع أساليبها.
لقد
أُدرِجت في الكتاب روايات مختلفة دون أن تُغيَّر، حتى أن الكنيسة
عارضت كلّ المحاولات لاستبدال الأناجيل الأربعة بإنجيل واحد يؤلِّف بينها، أي
عارضت تحويل "الأناجيل الأربعة" (Tetraevangelion) إلى "الإنجيل الرباعي "
(Diatessaron)،
رغم الصعوبات الناجمة عن "الاختلافات بين الإنجيليين" (التي تصارع معها
المغبوط أوغسطين). والسبب هو أنّ الأناجيل الأربعة تثبّت وحدة الرسالة
تثبيتاً تاماً، ربما بشكل أكثر تماسكاً من أي جامع
يجمعها.
إن
الكتاب المقدس سِفر عن الله، لكّن إله الكتاب ليس مخفيّاً (Deus
absconditus) بل
معلن (Deus revelatus) يكشف عن ذاته ويفعل في صميم الحياة الإنسانية. فما الكتاب مجرّد مدوَّن
إنساني عن أعمال الله وأفعاله، بنوع من التدخل الإلهي نفسه، بل إنّ الكتاب يحمل في طيّاته
الرسالة الإلهية.
وبما
أنَّ أعمال الله تؤلّف رسالة، فإننا لا نحتاج إلى تجاوز الزمان
أو التاريخ حتى نلاقي الله. فهو يلاقي الإنسان في التاريخ، أي في العنصر الإنساني،
في وسط وجود الإنسان اليومي. فالتاريخ ينتسب إلى الله، والله يدخل التاريخ
الإنساني. إن الكتاب المقدس في جوهره مؤلَّف تاريخي يدوّن أعمال الله، من غير
أن يكشف أسراره الأزلية، لأن هذه الأسرار لا تُدرك إلاّ عن طريق التاريخ: "ما من
أحد رأى الله. الابن الأوحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يوحنا 1: 18).
وأخبرنا عنه بدخوله التاريخ، أي بتجسُّده المقدّس. ولذلك يجب ألاّ نتخلّص من
الإطار التاريخي للإعلان، لأننا لا نحتاج إلى تجريد
الحقيقة المعلَنة لنا عن الإطار الذي حصلت فيه الإعلانات. فتجريد كهذا يلغي
الحقيقة ذاتها التي ليست فكرة بل شخص هو الرب المتجسد.[11]
إن الكرازة الرسولية لا يمكن اختزالها في كلمات، بل يجب
النظر إليها على أنها قبول شخص المسيح نفسه بالإيمان، من ثم فإن تفسير الكتب
المقدسة، بحسب التسليم يعني فهمها في سياق حياة الإيمان الذي تعيشه جماعة المؤمنين
.
إن الإشارة
إلى ملمح ما من ملامح العالم المادي المنظور، وإتخاذه كوسيلة. أي أن الكتاب المقدس
لا يُفسر بالأسلوب البياني ولا بالفلسفة، بل بأعمال الله التدبيرية، التي يوضحها
بالنماذج والأمثلة في تاريخ الخلاص البشري للإشارة إلى شيء سماوي، لا يمكن اختزاله
في كلمات، أو إلى واقع إلهي غير مدرك، إذًا ما أردنا أن نعكس مجد الله الذي نعجز
تمامًا عن معاينته.
هكذا فإن
العلاقة بين الشمس والشعاع، والنبع والنهر والجوهر والتعبير هي مجرد مؤشرات،
ولكنها ذات قيمة لأنها ليست إختراعات بشرية، بل إنها معطاة لنا بالإستعلان،
ومتأصلة في أعمال الله الحقيقية. ومع ذلك فهي لا تزال مجرد أمثلة، لا ينبغي أن
نركز عليها كثيرًا. فهي "مجرد أمثلة أو نماذج، يمكن بواسطتها أن نصوِّر بعض
الملامح". وفي الحقيقة وعند نقطة معينة لابد أن نتجاوزها إلى الإدراك غير
التخيليّ للمفاهيم الأصلية التي تمثلها، ولكنها تُشكِّل فعلًا الأساس للمحاكاة
البشريّة لله (غير المرئي وغير الموصوف). لكن التوازي بين الله والبشر، حيث تقوم
الأمثلة الكتابية بتوضيح معالم الطريق للبشر، ليتبعوها، إنما هو وبالكامل نتاج
التدبير الإلهي للنعمة (الإيكونوميا). أي تدبير الخلاص كله بوجه عام، والتجسد بوجه
خاص .[12]
وهكذا لا يُمكن إغفال العامل البشريّ والثقافيّ، لإنّ
الكتاب المقدس وليد بيئته الثقافية، تحدث أناس الله القديسون مسوقين من الروح
القدس بلغة العامّة، بلغة يفهمها من كانوا في عصرهم بالأساس، وهكذا فقد وضعوا بعض المعايير
المناسبة لعصرهم لإنّ هدفهم الأوَّل كان الكرازة والتبشير.
لم نُعطى الكثير من البيانات حول عملية الوحى، لكننا
نعرف أن الكتاب المقدس لم يُملى من قِبل الله. أنظر الى العهد القديم: إشعياء لديه
كميّة مفردات ضخمة وغالباً يُعتبر "شكسبير الأنبياء" العبرانيين، بينما
عاموس هو فلاح بسيط لديه مفردات متواضعة أكثر. ومع ذلك، فالكتابين مُوحى بهما. من
الواضح إذن، أن الوحي لم يكن إملاءً حرفيًّا. لم يكن الله يبحث عن آلة كاتبة، بل
عن أناس قديسين يستنيروا بالروح القدس فيكرزوا كتابة أو شفاهة.
لدينا بعض الإرشادات من إقتباس متى للعهد القديم قائلاً:
هذا قاله الرب عن طريق النبي. 'قاله الرب' تعني أن الله هو العامل الجوهري فى
النبوة. 'عن طريق النبي' تعني عامل متداخل يستخدم شخصيته أيضاً. وهذا يعني أن هذا
النبي لم يكن يأخذ إملاءً من الله، بل أن الله كان يتدخل عن طريق الرؤى، والأحلام،
وغيرها، ثم يضعه النبي فى كلماته الخاصة. إذًا، فعملية الوحي لم تلغي الشخصية
الإنسانية، ورغم هذا، فالنتيجة هيَ بالضبط التي أرادها الله.[13]
فالوحي هو كلمة الله و كلمات الإنسان. دون إقصاء شخصيات
المؤلفين، فكتبوا بما شعروا به، و بقدراتهم الأدبية، و بإهتمامتهم.
لذا، نجد الرب قد وقف موقفًا حاسمًا من محاولة بعض
الفريسيين تعميم الطلاق انطلاقًا من أن موسى أُذِنَ أن يكتب كتاب طلاق وهنا قدم
الرب تفسيرًا عميقًا وجديدًا لروح الكتاب المقدس وهو أن سر الزواج هو سر رباط لا
ينحل " من البدء ذكر وأنثى خلقهما الله من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه
ويلتصق بأمرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا إذ ليس بعد اثنين بل جسد واحد"
(مر10 :6ـ8). وأن موسى أعطى كتاب الطلاق بسبب قساوة قلوب البعض (مر10 :12)، أي أنَّ
الرب ميَّز بين قصد الله الأصلي وتدخُّل ظروف وضعيّة وتاريخيّة تسمح باتخاذ موقف
معيَّن مثل الطلاق فى ظروف معيّنة (قساوة القلب)، وهذه الاستثناءات ليست هيَ
القاعدة التي أسّسها الله لأنَّ الذي جمعه الله لا يفرقه إنسان (مر9:10). حتى ولو
كان هذا الإنسان هو موسى النبي العظيم.[14]
فكتابنا المقدس هو كتاب عظيم لإله عظيم محبّ للبشر صالح،
وهو كتاب متكامل ومتناسق لا ينقض بعضه بعضًا ولا يبارك على خطايا البشر بل يدعو
للتوبة ويذكر أخطاء الأنبياء!! ونعتقد أن هذا الموقف التفسيري الجديد يجب إن يسري
على قضايا كثيرة سمح بها الأنبياء في العهد القديم لأجل قسوة قلب الشعب ولم تكن في
قصد الله ولكن سمح الله بها، مثل الحروب وإبادة الشعوب على يد يشوع، وغيرها من
القضايا التى يمكن أن تعثر من يقرأ العهد القديم وتعطي الفرصة للتشكيك والنقد من قِبل
الذين هم من خارج وهذا يستدعي جهدًا تفسيريًا عميقًا.
وهذا إذا وضعناه بلغة علميّة معاصرة نقول إن الرب يسوع قد
وضع فى اعتباره البعد التاريخي والظرفي فى تفسير رسالة الكتاب المقدس الأبدية، أي
أنّ المسيح له المجد ميّز بين إعلانات الله الواضحة ومبادرات الأنبياء التي قاموا
بها -بوحي من الروح القدس وبسماح من الله- ولكنها تمّت لظروف وقتيّة لا تُشكِّل
قاعدة التفسير.
وهذا الموقف سيميّز كلّ مدارس التفسير المسيحي، أي أنّه
كما أن الله لم يعطِ شريعة الطلاق بل موسى أعطى كتاب طلاق بسبب قساوة قلب الشعب
فبنفس الروح يقول بعض العلماء –كما سنرى- أنّ الله لم يحارب عن أحد ولكن بعض رجال
الله القديسين أخذوا مبادرات شخصيّة وبسماح من الله وهذه المبادرات من أجل ظرف
تاريخيّ عارض.
وهُنا الدور التربوي الكبير الذي نسبه الرسول بولس إلى
العهد القديم، فالناموس هو مدرسة كبيرة نتدرّب فيها على استقبال المسيح: "لأنّ
الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكى نتبرر بالإيمان ωστέ ο νομός παιδαγωγός ημών γεγονεν είς χρίστον" (غلا24:3). هناك كلمة
هامّة جدًا في هذا النصّ γεγονεν وهي التي
ترجمها النص العربي بالماضي "قد كان"، وفي الحقيقة الكلمة اليونانيّة
أعمق من الكلمة العربيّة لأنّها تعني الصيرورة والاستمراريّة فى عمل الشيء.
فالناموس "مُربي" قاد البشريّة فى مدرسة الله إلى المسيح ابن الله
بالروح القدس.
[1]
مقال: تفسير العهد الجديد في الكنيسة الأرثوذكسية، الأستاذ يوحنا
كرافيذوذوبولوس، تعريب الأب جورج برباري.
[2]
T.Stylianopoulos, Bread for life. Reading the Bible, 1980,13f
[3]
يبدو أن ميليتون أسقف ساردس في أواخر القرن الثاني هو أول من أطلق تعبير
"العهد القديم" على الأسفار العبرية (التاريخ الكنسي ليوسابيوس 4:
26).
[4]
γραφή وهي المصدر من الفعل γράφω
وقد استخدمت في نصوص العهد الجديد للإشارة إلى مقطع مُحدد من الكتب، أو إلى
الكتابات المُقدسة بشكل عام. كما جاءت في: "مر12: 10؛ لو24: 27؛ يو5: 39؛
أع8: 32"، ويدعوها الرسول بولس مرة واحدة بـ"الكتابات المُقدسة- γραφαῖς ἁγίαις".
[5]
الاستثناء الوحيد لهذا يرد في 2بط3: 16، حيث تندرج رسائل بولس مع العهد
القديم تحت مصطلح "الكُتب".
[6]
يتضح من نصوص الأناجيل، أن المسيح كان يقرأ نص العهد القديم قراءة
كريستولوجية، بمعني أن يسوع رأى أن العهد القديم يتحدث عنه سواء بنبوات مباشرة أو
بسيرة أشخاص كانوا مثالًا لجزء من حياته وخدمته. يتجلى هذا عندما يتحدث يسوع مع
اليهود قائلًا: "فتشوا الكتب لانكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي
تشهد لي.. لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني" (يو5:
39، 46)، وقد رأى يسوع أيضًا أن يونان النبي كان مثالًا له (مت12: 20)، . وقراءة
يسوع الكريستولوجية هذه قد أنتقلت للكنيسة الأولى، ومنها استطاعت الكنيسة الربط
بين الإيمان بيسوع وجذورهم اليهودية. للمزيد أنظر: John
W. Wenham, Christ and the Bible (Downers Grove, Ill., InterVarsity,
1973), 106–8.؛ R. T. France, Jesus
and the Old Testament: His Application of Old Testament Passages to Himself and
His Message (London: Tyndale, 1971), 75.
[7]
قراءة العهد القديم مع آباء الكنيسة، رونالد هانيه، ترجمة د/ عادل زكري.
[8]
"The Old Testament and the Fathers of the
Church" originally appeared in The Student World،
XXXII No. 4 (1939), 281-288.
Volume Four of his Collected Works، Aspects
of Church History)
[9]
J.Ernest, The Bible in Athanasius of Alexandria, Boston, 2004.
[10]
جورج فلوروفسكي (الأب)، الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد، ص 26، 27.
[11]
جورج فلوروفسكي (الأب)، الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد، ص17- 21.
[12]
Torrance, "Hermeneutics", Part2. P.P 103-106.
[13]
دانيال والاس، القضية الإيمان.
[14]
أثناسيوس حنين (الأب)، مقال: المسيح والعهد القديم، دورية الدراسات
الآبائية.