الاثنين، 4 سبتمبر 2023

الكتاب المقدس والعلم

 


الزمن يدور بسرعة والنهاية تقترب. فالمسيحي غير المطلع على العلوم الخارجية والعلوم اللاهوتية, والذي يكتفي بإيمان تطبيقي, لا يتأمل حقيقته الإيمانية, عند أول مناقضة لإيمانه يحتار ويخاف, ويبدأ يغرق كبطرس, حيث لا مجال للغرق. هذه هي المشكلة. إن هناك عقلية غير عقليتنا تطرح الأمور خلاف ما نطرحها نحن, فيجب مجابهتها.

الأرشمندريت أندريه سكريما.

 

تقليل شديد من مكانة الكتاب المقدس وقصور في فهم هدفه ومُبتغاه عندما نربطه بالعلم، فالعلم والكتاب المقدس ميدانان متوازيان لا يتلاقيان ابدًا، بل هم دائمًا في مكانتين حيث لا تعارض ولا تلاقي. هذا وأن العلم لا يستطيع مناقضة الكتاب, لأن حقيقة الكتاب تجري على صعيد آخر غير ميدان الحقيقة العلمية. ينبغي الإشارة هنا إلى خطأ بعض المسيحيين الذين لا يريدون مقابلة الكتاب بالعلم.

 

إن العلم إنما هو للكون المنظور وما هو قابل للإثبات, أما الكتاب فهو للحقيقة الروحية, لسرّ الخلاص حيث لا مكان للعلم، إذ يفقد الأرض الخصبة التي يستطيع أن يعمل عليها، وهي ملاحظة المادة.

 

فالبحث عن إعجاز او خطأ علمي في الكتاب المقدس هو عبث محض، مثله مثل من يبحث عن إعجاز علمي في عمل أدبي لأديب مُعاصر كنجيب محفوظ، أو من يبحث عن خطأ علمي عند شاعر معاصر وعارف بالعلوم كالأبنودي، وحتى هذا وذاك رغم أنهم عارفين بعلوم العصر إلا أنه بإخضاع أعمالهم لميزان العلم فسيسقطون كصخرة في ماء، لأن لمثل هذه الأعمال المناخ المُناسب لإختبارها، وللعلم مجال.

 

لكلٍ منهم إتجاه مُغاير وميدان خاص به لا يمكن أن يخضع لإختبارات ميدان آخر ويصمد، لأن الأديب لم يستهدف من البداية أن يتوافق مع العلم، بل رُبما على العكس، قد أراد أن يتعدى حدود الواقع والمُستقر بين الناس، وذاك في ميدان الأدب يحسب له من حسن البلاغة والتصوير. ولذلك عندما نقيس النص، يجب أن نختار بدقة المعايير التي يُمكن بها قياس ذلك النص بحسب الهدف الذي كُتِب لأجله، فلا يُمكن أن نختبر قدرات طيار في سباق للعجل! أو أن نُقارن بين سعة البحر وشموخ برج إيفل!

 

يحدث هذا الخلط عادة عندما يحاول خادم الكلمة أن يُقدم فكره الخاص ليضيفه للنص الكتابي، ولا يمكن حدوث هذا الخلط العلم-ديني إلا إذا بصم الخادم فكره الخاص علي ما يُريد أن يقوله النص، فيحوله من رسالة للخلاص، وإعلان عن علاقة صميمية بين الله والإنسان، إلي نص دوّنه الله بهدف إيصال معلومات علمية وتاريخية دقيقة للإنسان، وكأن هذا جزء من هدف النص وهو في الواقع إنحراف تام عن مقاصد النص وعن طبيعته وعن معنى وجوهر الوحي المسيحي.

 

إذا نزعنا عن الكتاب معناه الأساسي، أي جوهر رسالته، وهو الحوار بين الله والإنسان في تاريخ الخلاص.. وما إلي ذلك، وشرحناه بمعانٍ بشرية علمية كانت أو تاريخية محضة أو فلسفية بحتة، مُعتمدين فقط علي ما يُمليه الفكر البشري المُجرد، فإننا نكون قد بترناه عن أصله الإلهي وأبتعدنا عن حقيقته الكلية والهدف الذي وجِدَّ لأجله.

 

في الحقيقة أن آفة المسيحيين العرب هي إختلاط الثقافات، حيث تداخل مفهوم الوحي المسيحي بالوحي في الثقافة السائدة الذي يعني أنه عمل إلهي محض، ومُنزل من السماء ومعصوم حرفيًا، وعليه، فقد تورطنا في شبكة أُخري حيث ان أصله إلهي محض [وليس شركة بين الإنسان والله كالوحي المسيحي] فيجب أن الله لم يخطئ في توصيل رسائل علمية وتاريخية عجز عنها جميع العلماء والمؤرخين!

 

ويجب أن نُشير أن مشكلة الخلط بين الكتاب المُقدس والعلم، وتصدير هذا الخلط -الناتج عن سوء تفسير- على أنه تصادم بين الأثنين، هي مشكلة حديثة نسبيًا، قديمًا كان وقت اعتبر فيه كل ما جاء في الكتاب حقيقة كلية دون أي مجال للبحث؛ فالكتاب كله معًا وكل ما جاء فيه له قيمة مطلقة. إن اهتزاز ذنب كلب طوبيا كان له قيمة روحية! والتوصية بالخمر لمعدة تيموثيئوس كانت لها قيمة لكافة الأمراض, كونها وصية إلهية بحد ذاتها.

 

وكانت التوراة أيضًا, منذ وقت قريب نسبيًا, تلخص كافة المعلومات البشرية. منذ خمسة قرون فقط, كان العلم غير متنوع ولا يؤلف مثل الآن علومًا عدة تتشعب كل منها إلى علوم فرعية, واختصاصات عديدة (في الطب مثلاً نرى التخصص يصل إلى كل عضو من الجسم…).

 

والعلم الآن لا يدعي شمول مجموع المعرفة البشرية, بينما قبل عصر النهضة فقط كان يظن الإنسان أنه من خلال بعض الكتابات القليلة نسبيًا يُمكنه أن يُحصل معرفةً شمولية لكل الحقيقة. وكان يُظن أن الكتاب المقدس في تجرده محتويًا على كل شيء لأنه كتاب إلهي. كان الإنسان في الحقيقة ليس مؤمنًا بل مصدقًا ساذجًا يصدق كل شيء, كأنه من الله مباشرة, على منوال الأطفال حين يشاهدون الأعمال السحرية. فينبغي إذًا التفريق بين هذا الوضع الذي لم يكن روحيًا, بل ظرفيًا ناتجًا عن وضع الإنسان المسيحي غير المتعمق وغير المستنير, وعن شبه عبادته للكتاب, وبين الوضع الروحي الأصيل[1].

 

الكتاب المقدس في المفهوم المسيحي هو مختلف كليًا وبعيد كل البعد عن هذه المعاني، فهو نتاج شركة وتفاعل بين الله والإنسان، فعن طريق الإنسان يُوصل الله رسالة تعلن عن التدبير الالهي ومشيئة الله تجاه الإنسان وطريق خلاصه، تاركًا للكاتب المستنير بالروح كل امكاناته المتاحة ليستخدمها في الكتابة، فالشاعر يكتب نص شعري او نثر، والفيلسوف يكتب معاني اعمق من الكلمات الظاهرية، والصياد او الشخص البسيط يكتب بلغة ركيكة بسيطة كل البساطة علي قدر امكاناته، حتى إنه متروكًا للكاتب أن يرجع الي الوثائق التاريخية والكتابات المتاحة في عصره، كما حدث بخصوص سفر ياشر[2]، ولهذا يقول القديس غريغوريوس النيزنزي:

"هكذا فإن المفهوم الحقيقي للكتاب لا يُعرف دائمًا بسهولة من الكل. لأن الحقيقة الإلهية تُصاغ بمساعدة اللغة البشرية والتي تعبر دائمًا عن إمور مخلوقة ومحدودة, وليس إطلاقًا عن الجوهر الالهي, لذا ينبغي أن يُعتبر الكتاب كإظهار وإعلان للإرادة الإلهية"[3].

 

ويكتب أوريجانوس:

"فإن كلمة الله الذي تسربل بالجسد من مريم, قد جاء إلي هذا العالم، وما رؤيَّ فيه كان شئ ما, وما فُهم كان شيئًا آخر. لإن منظر جسده كان متاحًا للكل أن يروه, لكن معرفة لاهوته قد اُعطيت لقليلين… هكذا أيضًا حين جائت كلمة الله بالأنبياء ومُعطي الناموس (موسى), فإنها لم تأت من دون أن تتسربل بشكل مناسب. لإنه مثلما كانت هُناك مغطاة ببرقع الجسد او حجابه (2كو 3 : 14)،  هكذا هُنا أيضًا جائت بحجاب المعني الروحي المخبأ داخل الحرف….طوبى لتلك العيون التي ترى الروح الإلهي المخفي في حجاب الحرف"[4].

 

وكتب اللاهوتي الارثوذكسي الاب جورج فلوروفسكي:

إنَّ الكتاب المُقدس تاريخي بالجوهر[5]… فيه لا نسمع صوت الله فقط إنما صوت الإنسان أيضًا… في داخله تكمن معجزة الكتاب وسرّه، أي كلمة الله في لغة بشرية[6].

 

فالكنيسة تنظر للكتاب المُقدس من هذه الزاوية أي تتحرك في حرية من خلال العلاقة بين الحق الكتابي وإحتياجات ومفاهيم الإنسان المُعاصر، ولا تتحرك بإسلوب العالم الذي يريد البقاء ويخشى فقدان ثروته وسلطانه ومجده وأفكاره المكتسبة غير المقلقة. كل شيء جديد يقلق السلاطين. ولكن حقيقة الله هي الحرية نفسها, وعندما لا تدرك الكنيسة ذلك فلا يمكنها أن تتقدم, فتعارض الكنيسة العلم, ويعارض العلم الكنيسة بالتبعية[7].

 

فكوننا نؤمن أن الكتاب المُقدس معصوم تاريخيًا أو علميًا، فهذا يستدعي بالضرورة أن الوثائق التي رجع إليها الكُتَّاب كانت ايضًا معصومة تاريخيًا وعلميًا، وهكذا يصبح كل كاتب او عالم مًعاصر لعصر كتابة أحد الاسفار او سبقه ويعود إليه كاتب السفر معصومًا تمامًا من أي خطًا علمي أو تاريخي، وبالتالي فثقافة عصر الكاتب نفسها معصومة، وهذه أمور لا يُمكن تصديقها بل هي محض خرافات.

 

ففي كل التاريخ القديم لا يوجد مؤرخ واحد معصوم بل جميعهم خلطوا الخرافة بالتاريخ، حتى أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي الأشهر، يذكر واقعة عن الإسكندر المقدوني جاعلاً منها علامةً علي تدخل إلهي لمساعدة مجموعة من الغزاة! فيقول: إنَّ أُناسًا من القدماء لم يعرفوا الرزيلة، قد إنشق لهم عبر البحر طريق للنجاة، حين رآي جنود الإسكندر ملك مقدونيا، بحر بامفيليا يتراجع أمامهم، وأصبح لهم طريقًا بعد أن ضلوا كل طريق، وذلك عندما أراد الله أن يقضي على قوة الفرس. هذا ما يتفق عليه تمامًا جميع رواة أخبار الإسكندر[8]. 

 

وهكذا كما نرى لا يُمكننا القول بأن مؤرخي العصور القديمة كانوا معصومين من الخطأ، حيث أنهم –كعادة جميع الشعوب القديمة- يضعون الحدث التاريخي في غلاف إسطوري كحكاية شعبية يحفظها ويتناقلها العامة. والأنبياء في نقلهم من هذه الوثائق –الغير معصومة- لم يمنعهم الروح القدس من نقل ما بها من معلومات سواء صحت تاريخيًا أو لم تتوافق مع التاريخ، لأن للروح المُوحي للأنبياء هدفًا آخر، ألا وهو إيصال رسالة ذات معنى يختص بالإنسان والله، وهو بعيد كل البعد عن معاني العصمة التي إنتقلت إلينا من عصور الظلام.

 

فهناك دائمًا قصد داخل النص الكتابي وهو جوهر الرسالة وما أراد الروح إيصاله، هذا ما دفع القديس يوحنا ذهبي الفم أن يقول في إحدى عظاته: كما أن البناء الذي بلا أساس يكون مُختلاً ولا يؤمَنَ له، كذلك الكتاب المُقدس يصير بلا منفعة إطلاقًا، إذا فشل الفرد في استقصاء القصد منهُ[9]. ويقول أثناسيوس الرسولي عن أولئك الذين يخترعون لأنفسهم مقاصد بعيدة عن قصد الكاتب: هم يضلون كثيرًا إذ هم لا يدركون هدف الكتاب الإلهي[10].

 

فالكتاب المُقدس نافع في ذاته وفيه كل الحق. لكنه كأي كتاب آخر لكي يتم فهمه بشكل صحيح فأحد أهم العوامل المساعدة لذلك هي وضعه في سياق زمنه وتاريخه ومعرفة الثقافة التي نشأ فيها. ولا يُمكن الآخذ بهذه المعايير مع الوضع في الإعتبار بوهم الإعجاز العلمي الذي نشأ كفكرة من العدم مع بدايات القرن الثامن عشر. فلم يكن هدف الكاتب الملهم أن يعلمنا عن طبيعة الأشياء ونظام الكون، بل أن يعطينا كلام الله مستعينًا بما كان يعرفه الناس ويتداولونه في ذلك الزمان، فهو لم يرغب في إثراءنا بمعلومات عن أشياء لا تنفع للخلاص.

 

ولهذا لم يقم بأبحاث علميّة، بل صوّر الأمور بالصوَر والتشابيه التي عرفها أبناء عصره. وهنا يتجلى المفهوم المسيحي عن كلمة الله التي تتجسد في الزمان والمكان. والتي صاغها إنسان مُلهم بالروح منقيًا كل العناصر التي استخدمها من المفاهيم المغلوطة والوثنية علي ضوء إيمانه.

 

كما أن منهج العلم يختلف تمامًا عن منهج الدين، وهذا لا يعيب أحدهما فكما قلنا هما ميدانان مختلفان تمامًا، وأي محاولة للدمج بين العلم والدين ليست فقط لن تصمد امام النقد المنطقي، بل من شأنها ايضًا هدم الكتاب بأكمله وزعزعة الإيمان وبلبلة العامة، فمنظار جاليليو لازال شاهدًا أن كنيسة العصور الوسطى لأجل نظرتها الضيقة للنص الكتابي قد هرطقت الرجل وقطعته من الشركة، والآن كل العالم المسيحي على علم بأن المشكلة كانت كامنة في المُفسرين ضيقي الأفق خالطي الدين بالعلم، وليست المشكلة في النص. ولكن –للأسف- نحن نحتفظ بالتاريخ كذكريات بشرية لا كدرس لتلافي أخطاء الأولين.

 

يكفينا أن نقرأ نصوص الكتاب المقدّس لنتبيّن أنّها لا تحوي نظرة علميّة عن عمر الأرض، بل وحيًا دينيًا عن خلق الأرض. وفضلاً عن ذلك، نجد بعض الصوَر التي لا تتوافق وأيّة علوم واختبارات. كيف يكون الجلد جسمًا جامدًا، وكيف نقول بوجود قنوات مياه في السماء؟ كيف نقول بخلق النور قبل تكوّن الشمس والقمر والكواكب، وكيف نقول إنّ النبات وجدّ قبل أن تُخلق الشمس الضروريّة لحياة النبات؟ في الرواية الأولى يخلق الله كلّ شيء ثُم يخلق الإنسان، وفي الرواية الثانية يخلق الله الإنسان ثمّ يخلق النبات والحيوان.

 

كلّ هذه الملاحظات وغيرها تُبيّن لنا أنّ الكتاب المُقدّس ما أراد أن يعلّمنا كيف خُلِق الكون، بل مَن خلق الكون. أراد أن تكون كلماته تعبيرًا عن فعل إيمان بالله الذي خلق العالم[11].

 

فالله لم يرغب في أن يُعطينا رسالة علميةّ او محتوي تاريخي وقصص شعوب! بل أراد الله إعلان تدبير الخلاص المنشود في وجه المسيح ويعلن عن علاقته بحبيبه الإنسان الذي خلق كل شئ ووضعه تحت قدميه مُنصّبًا إياه إلهًا على الأرض. وعلى هذا الأساس فقط يُقاس تفسير النص وهذه هي الأهداف التي كان دائمًا ما يضعها الله علي قلب الكاتب الموحى إليه.

 

يجب أن نقتنع بأن الكتاب المُقدس لا يتحدث عن الديناصورات ولا عن أيام حرفية ولا عن عمر الأرض ولا عن التطور. من الغريب أن الناس يتوجهون إلي الكتاب لأجل الإجابة على هذه الأسئلة والكثير غيرها.

 

يجب أن نُصدق أن أول وأهم شئ يتحدث عنه التكوين هو عن الله. لا تستطيع قراءة للنص أن تتغاضى عن هذه الحقيقة. فهو يبدأ بأن الله هو خالق الكون، وينتهي بوعد من الله  أنه سيُخلص إسرائيل من العبودية. وما بين هذا وذاك، نجد فاعلية الله. الله يتكلم، الله يبارك، الله يعاقب، الله يقاضي، الله يختار، الله يقود، الله يحرر، الله يجب أن يُعبد. فإذا سألنا أحدهم: عن ماذا يتحدث الكتاب المُقدس في مجمله؟ فنجيب: في المجمل الكتاب يتحدث عن الله[12].

 

ربما رسم تصويري من ذاكرة الطفولة قادر أن يجعلنا نفهم الفكرة. هل تتذكر كتب تلوين الصور التي كنت تصل فيها النقاط ببعضها واحد تلو الآخر لتحصل علي رسمة؟ شئ مثل هذا حدث في سفر التكوين الإصحاح الأول. فالكاتب يستخدم الأيام كالنقاط التي كنت توصلها ببعضها، وذلك لكي يصب هذا في صورة تخبرنا عن تفاعل الله الخالق. كل يوم يخبرنا عن فاعلية الله الصانع والذي يشعر بما يصنع… فالكاتب يريدنا أن نعرف الصورة الكلية عن فاعلية الله الخالق، ويستخدم كل الوسائل ليتأكد من أننا قد حصلنا على تلك الصورة[13].

 

ولهذا فالأصل دائمًا لمحاولة فهم النص بشكل صحيح هو محاولة معرفة قصد الكاتب من كتابة النص، كما يقول ذهبي الفم: ينبغي علينا ألا نختبر الكلمات كأنها كلمات مجردة وإلا فسينتج عن ذلك سخافات كثيرة, ولكن يجب أن نتتبع فكر الكتاب[14]. ويكمل كيرلس عمود الدين: كذلك ينبغي على الدارس للأقوال الإلهية أن يفحص أيضًا الأشخاص ويتفكر في الزمن, ولأي سبب قيل كل قول. وذلك حتى يُمكن لكل أحد أن يطبق التفسير اللائق بنعمة الروح لكل قول من هذه الأقوال[15].

 

ثم لا ننسَ أن الكتاب هو كلام الله خلال تاريخ البشرية بكامله, وهو يتكيف مع الإنسان في وضعه الظرفي حسب مراحله. كلام الله يتناول الإنسان من أدنى حالات السقوط ليرفعه إلى الخلاص. والناس في الكتاب يتكلمون لغة زمانهم, فغروب الشمس وشروق الشمس طريقة في التعبير, وليست إقرارًا علميًا فلكيًا! إنَّ الكتاب يستخدم لغة الزمان والمكان, وهذا شكل الإعلان الإلهي لا فحواه. لذا نجد فرقًا ملحوظًا بين سفر القضاة وسفر أشعياء مثلاً, أو بين إيليا ويوحنا المعمدان, فيوحنا يدع أخصامه يقتلونه بدلاً من أن يقتلهم.

 

ثم أن الكتاب يتكلم بلغة رمزية في كثير من الأحيان, برموز تتجاوز المعنى المباشر فيجب بذل جهد لفهمها. قصة الخلق مثلاً؛ أنها رواية صحيحة, ولكن يجب أن لا تُفهم فهمًا حرفيًا وماديًا. عندما يقول الكتاب إن الله يتكلم, هذا لا يعني أن له فمًا, وكذلك عبارة (القديم الأيام) لا تعني أن له لحية بيضاء… ينبغي الإرتفاع إلى المعنى الرمزي لأن الأشياء الروحية لا تُصوّر ماديًا, والإنسان الحديث خاصة, يعسر عليه تصورها لأنه يُدرك الأمور ماديًا فقط. ومع ذلك فإن العلم الآن قد تبين استحالة تصوير الإلكترون مثلاً، فقديمًا قد كانوا يظنون الإلكترون شيئًا كرويًا صغيرًا, ولكنه لم يعد قابلاً للتصوير الآن. إذًا يجب تجاوز الإدراك المادي للكتاب, والإرتقاء إلى المعنى الذي يختفي بين السطور. يجب أن نتجاوز أنفسنا في قراءة الكتاب[16].

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

[1] مدخل إلي الكتاب المُقدس، الارشمندريت أندريه إسكريما، ص 20.

 

[2] راجع (يش 10: 13) و( 2صم 1: 18)

 

[3] تفسير الكتاب المقدس عند الاباء . د – جورج عوض ابراهيم . ص 15 – القديس غريغوريوس النيزنزي ضد افنوميوس .  BEIIE 67 , 193

 

[4] THE FATHERS OF THE CHURCH , ORIGEN , HOM ON GENSIS AND EXODUS , VOL 71 , P 29 .

 

[5] هذا لا يعني انه كتاب تاريخ إنما أنه شاهد لعلاقة الله بالبشرية، لانه في جوهره هو نتاج تفاعل الله مع البشرية في التاريخ.

 

[6] الكتاب المُقدس والكنيسة والتقليد، ص 19- 44

 

[7] الارشمندريت اندريه اسكريما، مرجع سابق، ص21.

 

[8] antiquities of the jews- book, 2, 16:5

 

[9] P. G. 55, 35

 

[10] الرسائل عن الروح القدس، 2: 7

 

[11] الخوري بولس الفغالي، تفسير سفر التكوين.

 

[12] The Genesis factor : Probing life’s big questions, p. 20.

 

[13] The Genesis factor : Probing life’s big questions, p. 30.

 

[14] F. H. CHASE, CHRYSOSTOM.  p. 61

 

[15] والدة الإله. ترجمة د/جورج عوض ابراهيم. ص 27

 

[16] الأرشمندريت أندريه سكريما، مرجع سابق، ص 24.


الأحد، 3 سبتمبر 2023

الوحدة المسيحية في منظور القديس أثناسيوس الرسولي، وعلاقته بالمختلفين معه في الألفاظ

 

 


يقول العالِم Bouyer:

لقد كان لأثناسيوس روح كنسية عالية جدًّا ... وهذا أفضل ما يُفسِّر لنا تصرفاته ... فإن كان لم يرتضِ بأن يكف ولا لحظة واحدة عن الجهاد من أجل العقيدة، ولم يرضَ أن يحتفظ بإيمانه لذاته - تاركاً الآخرين يتوحَّلون كما يشاءون في اللاهوت الأنطاكي الشائك، فالسبب في ذلك أن الحياة المسيحية كانت بالأساس في نظره "حياة كنسية"، فكان من العبث في نظره أن يدَّعي أحد بأنه يُنمِّي حياته الروحية الفردية ويترك بقية الكنيسة تتعثَّر، كما يكون من العبث الاحتفاظ بالحياة الطبيعية داخل إحدى خلايا جسم يؤول إلى الانحلال! فإن كنَّا نجد عنده الحياة الروحية الداخلية تتوافق بالتمام مع "الاهتمام بجميع الكنائس"، فالسبب في ذلك هو اقتناعه العميق بأن حياة الكنيسة ليست شيئاً خارجياً بالنسبة لحياة الإنسان المسيحي الخاصة.”([1])

“فأول ما تقلَّد المهام الأسقفية صار يبذل نفسه بلا حساب في كنيسته المصرية المتسعة، وفي فترة وجيزة وضع الله عليه "الاهتمام بجميع الكنائس"، بحسب قول بولس الرسول. فالحق الذي كان يعيشه كان يدفعه بقوة جارفة إلى أن يسلِّمه لغيره ويجعل الآخرين يتمتَّعون به معه. كان لا يحتمل أن تكون النفوس الموكولة إليه محرومة من هذا الحق. وكلما كان يتقدَّم في الحياة، كلما كانت تزداد فيه هذه الغيرة المُلحة لأن يسلِّم إيمانه بالكامل لكل مَنْ دُعي باسم المسيح ... بل إننا نعلم بأي قدر من الاهتمام استقبل فرومنتيوس أول رسول للحبشة، وكيف رسمه أسقفاً وعضَّده بكل وسيلة حتى تصير خدمته ناجحة.”

“غير أن هذا العمل الخارجي الدائب لم يكن عند أثناسيوس متعارضاً مع حياته النسكية الداخلية. فلا نجد لديه أي أثر للتعارض بين هذين الاتجاهين.”([2])

والسبب في هذا التوافق الداخلي بين هذين الاتجاهين أنه لم يكن يفرِّق قط بين المسيح وبين كنيسته. فعلاقته بالمسيح كانت هي نفسها علاقته بالكنيسة التي هي جسده، وفي ذلك يقول العالِم Moehler:

“لقد ضرب أثناسيوس جذوره عميقاً عميقاً جدًّا في تربة الكنيسة، وقد كان أثناسيوس لا يعرف نفسه إلاَّ فيها، فكان ماضيها حاضراً دائماً أمامه، وقد أخذ على عاتقه أن لا يُقدِّم المسيح يسوع إلاَّ متحداً بكنيسته من الداخل، وفي كلمة واحدة كان المسيح هو نفسه الكنيسة!([3])

وهذا الإحساس الواضح بحقيقة الكنيسة كجسد للمسيح يظهر عند أثناسيوس منذ شبابه حينما كتب كتابه الأول “ضد الوثنيين”، وفي “تجسُّد الكلمة”:

[لهذا لم يمت (المسيح) ميتة يوحنا بقطع رأسه وفصلها عن جسده، ولا مات ميتة إشعياء بنشر جسده وفصله إلى نصفين، وذلك لكي يحفظ جسده سليماً غير منقسم حتى أثناء موته، حتى لا تكون فرصة للذين يريدون تقسيم الكنيسة وتجزئتها.]([4])

فالكنيسة في نظر أثناسيوس هي جسد المسيح. ولو مات المسيح بتقسيم جسده إلى أجزاء لأمكن الآن أيضاً أن ينجح الأريوسيون والميليتيون في تقسيم الكنيسة. ولكنهم لن ينجحوا في ذلك طالما أن المسيح واحد وغير قابل للانقسام ...

ونستطيع أن نتبيَّن في بعض أقوال القديس أثناسيوس البذرة الأُولى للتعليم الذي بلوره في ما بعد وأفاض في شرحه القديس كيرلس الكبير، والذي مؤدَّاه أن الوحدة الكنسية تقوم أساساً على سر الإفخارستيا وعلى شركة الروح القدس.

فعن سر الإفخارستيا كأساس للوحدة الكنسية يقول أثناسيوس مفسِّراً صلاة الرب (يو 17):

[ليصيروا هم أيضاً كاملين إذ تكون لهم الوحدة لهذا السبب وليصيروا كياناً واحداً بعينه. حتى كما أن الجميع محمولون فيَّ، يكونوا جميعاً جسداً واحداً وروحاً واحداً ويجتمعوا إلى إنسان كامل. فإننا نحن جميعاً إذ نتناول من (الرب) الواحد بعينه ™k toà  نصير جسداً واحداً إذ يكون لنا في أنفسنا الرب الواحد.]([5])

وفي نص مشابه للسابق يقول عن شركة الروح القدس كأساس للوحدة الكنسية:

[المخلص يقول: «كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا»، وهو لا يقصد بذلك أننا يمكن أن نصير مساوين له، ولكنه يطلب من الآب أن يُعطَى الروح بواسطته للمؤمنين كما كتب يوحنا (يو 16:14) فإننا بالروح نصير في الله وبالتالي نصير متحدين بعضنا مع بعض في الله.]([6])

وأمَّا بؤرة الوحدة ومحورها فكان أثناسيوس يراها في صليب الرب:

[لقد نقض بموته حائط السياج المتوسِّط (أف 14:2) وصارت الدعوة لجميع الأُمم، فكيف كان ممكناً أن يدعونا إليه لو لم يصلب؟ لأنه لا يمكن أن يموت إنسان وهو باسط ذراعيه إلاَّ على الصليب، لذلك لاقَ بالرب أن يحتمل هذا الموت ويبسط يديه حتى باليد الواحدة يجتذب الشعب القديم وبالأخرى يجتذب الذين من الأُمم ويتحد الاثنان في شخصه، فإن هذا هو ما قاله أيضاً بنفسه مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يفدي بها الجميع «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع».]([7])

ومن الوجهة العملية قد صار أثناسيوس بلاهوته الرصين وروحانيته العميقة “رباطاً” أساسياً وقوياً في جسد الرب «الرأس الذي منه كل الجسد بمفاصل ورُبُط متوازراً ومقترنا ينمو نمواً من الله.» (كو 19:2)

فنحن نعلم كيف استخدم الله شخصيته الروحية العميقة ليجعل منه - أثناء نفيه الأول والثاني - خير ممثِّل للكنيسة القبطية بين كنائس الغرب، حتى انعقدت بذلك أول وأقوى صلة روحية عميقة وأصيلة بين كنائس الشرق والغرب.

لقد كانت أخلاق أثناسيوس النبيلة وتقواه وأمانته الشديدة للحق تسبي قلوب جميع الذين عرفوه عن كثب. من أمثال هؤلاء مكسيميانوس أسقف تريف الذي أُرسل إليه أثناسيوس أصلاً ليوضع تحت مراقبته. ولكن ذلك الأسقف الوقور وكل شعبه انغلبوا منذ أول لحظة لشخصية أثناسيوس الروحية، وصاروا يتشرَّبون منه مفاهيمه الروحية واللاهوتية، وظلَّت تريف حتى بعد موت مكسيميانوس من أوفى المدن لأثناسيوس وللإيمان النيقاوي بصفة عامة.

أمَّا يوليوس أسقف روما فقد دعاه لمشاركة الأسرار الإلهية منذ أول يوم، وتشرَّب على قدر ما استطاع كل مفاهيمه وفكره. وتدلنا رسالة يوليوس إلى أساقفة الشرق على “مدى التأثير الذي استطاع أثناسيوس أن يسكبه في الشعور واللاشعور الروماني والغربي بوجه عام”.

وذلك إنما يدلنا على أصالة الروح الكنسية التي كانت تنبض في قلب أثناسيوس، حتى أنه لمَّا صار في المنفى لم ينعزل في صومعته بل استمر يعمل دائباً لبناء جسد الرب، وظل يتفاعل كعضو حي يؤثِّر في بقية أعضاء الجسد الواحد.

والعجيب أنه حتى حينما خانه أعز أصدقائه في الغرب وهما ليباريوس أسقف روما وهوسيوس الشيخ الوقور، صديق العمر، حتى حينما خانه هذان، بقي أثناسيوس يلتمس لهما الأعذار ويدافع عنهما! عجيب هو هذا الإنسان الذي يظل وفياً في صداقته حتى حينما يخونه أعز الأحباء!

هذا من جهة أصدقائه، أمَّا من جهة خصومه، أو بالحري على حد تعبيره “أعداء المسيح”، فقد كان صارماً، كاشفاً للأخطاء، ثابتاً كالصخر لا يتزعزع! غير أنه في ذلك أيضاً لم يكن يعرف أن يحقد. كان احترامه الشديد للنفس البشرية مهما تمادت في شرها يمنعه أن يهينها. وفي ذلك يقول العالِم Bouyer في وصفه لشخصية أثناسيوس:

“إن أثناسيوس في كل كتاباته الجدلية والدفاعية يُظهر سخطه بشدة على خصومه، ولكنه في ثورته عليهم يخلو تماماً من مشاعر البغضة أو الحقد. إنه يندفع بشهامة ليظهر استياءه الشديد، غير أنه في ذلك أيضاً لا يتخلَّى تماماً عن وداعته الطبيعية، بل سرعان ما تعود وتكون هي السائدة. إنه يفضح أريوس ويوسابيوس وقسطنطيوس ويصفهم بما لا يشرِّفهم، غير أننا لا نراه قط يطأهم بقدميه، فنحن لا نجد في كتاباته أثراً لعداوة شخصية تسُود صفحاتها كمثل شبح روفينوس في كتابات جيروم.”([8])

والسبب في ذلك أن أثناسيوس لم يكن يقاوم عدواً شخصياً له بل كان يقاوم أعداء الإيمان، وكان مستعداً في أي وقت يرجعون فيه إلى الحق أن يقبلهم بسعة صدر.

أمَّا العالِم Quasten فيقول بخصوص حزم أثناسيوس وسماحته:

“على الرغم من مناهضته الشديدة للأخطاء بدون أية مساومة معها، ومن تصديه لها بكل حزم، إلاَّ أنه كان يتميَّز بفضيلة يندر أن تنجمع مع مثل هذا الطبع الحازم، وهي أنه كان قادراً حتى في حمية الجهاد أن يصير سموحاً ومتسعاً إزاء الذين ضلوا الطريق بنية صادقة.”([9])

وهذا هو في الحقيقة رأي المؤلِّف الواضح، إذ أن أثناسيوس في كتاباته استطاع أن يفرِّق دائماً وبدقة بالغة بين وقت المهاجمة ووقت الدفاع، وبين خصومة لا تهادن قط وخصومة تقبل المهادنة، وفرَّق بين أعداء الإيمان وبين الأغبياء في الإيمان وبين الضعفاء في الإيمان، فعلى الأولين أعلن حرباً لا رحمة فيها، وللمتوسطين أفاض وأسهب وشرح وأطنب، وللآخرين شجَّع وتنازل وسار حتى إلى منتصف الطريق!!

وقد ظهرت هذه القدرة العجيبة في التمييز والإفراز بين الخارجين عن الإيمان وبين الذين لا يختلفون إلاَّ في التعبير عن هذا الإيمان الواحد، ظهر هذا الإفراز مع حكمة أثناسيوس ورزانته على الخصوص في موقفين: الأول في علاقته مع أنصاف الأريوسيين الذين تجمَّعوا حول باسيليوس أسقف أنقرة، والثاني في علاقته مع الفريقين المتنازعين في أنطاكية.

ففي الموقف الأول كتب أثناسيوس في كتابه: “عن المجامع” بخصوص باسيليوس (أسقف أنقرة) والذين معه:

[أمَّا الذين يقبلون كل مقررات مجمع نيقية ويتشكَّكون فقط في عبارة “الهوموؤوسيون” فلا ينبغي أن يعامَلوا معاملة الأعداء، ولا نقصد هنا أن نهاجمهم بوصفهم مصابين بالأريوسية، ولا نحن نعتبرهم مقاومين لتقليد الآباء، ولكن نناقش الأمر معهم كإخوة مع إخوة لأنهم يقصدون ما نقصده نحن، وليس النزاع بيننا إلاَّ حول اللفظ فقط ... ومن أمثال هؤلاء باسيليوس الذي كتب من أنقرة بخصوص الإيمان.]([10])

وبعد ذلك يعود أثناسيوس ويعبِّر أيضاً عن محبته نحو هؤلاء الأساقفة ويقينه أنهم لم ينحرفوا عن الإيمان الصحيح:

[إن المعنى الذي يقصده هؤلاء الأحباء ليس غريباً ولا هو بعيداً عن معنى التساوي في الجوهر.]([11])

وكان نتيجة ذلك الإفراز أن زال سوء التفاهم وأعلن 59 أسقفاً من أنصاف الأريوسيين سنة 365 أنهم يقبلون قانون الإيمان النيقاوي بدون قيد ولا شرط. “إن أثناسيوس كان على حق في أمله وتطلعاته فقد كان يؤدِّي دوراً نبيلاً!! ففي رسالة "المجامع" ارتفع أثناسيوس فوق نفسه!! وكانت النتيجة أن استجاب الله في لحظة وأوقف هذا الشغب، فالمحبة التي ترجو كل شيء لابد أن تتبرَّر في كل ما تعلمه وتتزكَّى.”

أمَّا بخصوص الفريقين المتنازعين في أنطاكية فقد كان كل منهما يتهم الآخر بالهرطقة، ولكن أثناسيوس بعد أن استجوب مندوبين من كلا الفريقين جاءوا إلى الإسكندرية واستفهم منهم بتدقيق عمَّا يعنيه كل منهما من وراء المصطلحات اللاهوتية المختلفة، تيقَّن أن إيمانهما واحد وصحيح وأن الخلاف بينهما خلاف لفظي فقط. فأخذ ينصحهم في الرسالة التي أرسلها إلى أنطاكية قائلاً:

[لا تتعاركوا بخصوص كلمات لا فائدة لها ولا تتخاصموا بخصوص العبارات المشار إليها، بل اتفقوا في مشاعر التقوى ... واعتبروا فوق كل شيء قيمة ذلك السلام الذي في حدود صحة الإيمان، لعل الله يتراءف علينا ويوحِّد ما قد انقسم فلا يكون بعد سوى رعية واحدة لراعٍ واحد الذي هو ربنا يسوع المسيح نفسه.]([12])

وأول ما تهيَّأت له الفرصة للذهاب إلى أنطاكية (سنة 363 لمقابلة الإمبراطور جوفيان)، اجتمع هناك بالفريقين المتنازعين ليكمِّل الصلح بينهما. وقصد أن يتأخَّر في أنطاكية عدة شهور حتى يبذل أقصى ما في وسعه لإقامة الصلح والسلام في هذه الكنيسة الشقيقة.

فكل ذلك - سواء كان تأثيره العميق على أساقفة الغرب أثناء نفيه هناك، أو نجاحه في ربح باسيليوس أسقف أنقرة مع الأساقفة الذين معه، أو توسطه الحكيم بين الأحزاب المتنازعة في أنطاكية - كل ذلك إنما يدلنا على امتياز روح أثناسيوس من الوجهة الكنسية، وعلى شدة إحساسه العميق بحقيقة الكنيسة كجسد للرب. فكل جهاده الكنسي على مدى هذه السنين الطويلة كان يؤول إلى غاية واحدة: أن يجمع في وحدانية الإيمان كل الذين صاروا أعضاء في جسد المسيح: [ليت الله يتراءف علينا ويوحِّد ما قد انقسم، فلا يكون بعد سوى رعية واحدة لراعٍ واحد الذي هو ربنا يسوع المسيح نفسه.]

وقد ظلَّت شخصية أثناسيوس حتى بعد موته - وهو بالحق لم يمت بحسب مدلول اسمه([13]) - ظلَّت شخصيته الروحية تستقطب قلوب الكثيرين من الشرق والغرب على مدى الأجيال، حتى اعتُبر أثناسيوس عند الكثيرين شعاراً متجسِّداً حيًّا لإيمان كنيسة المسيح الواحدة. وفي ذلك يقول أحد المعاصرين:

“لقد صارت الأرثوذكسية الجامعة متجسِّدة في شخص أثناسيوس.”([14])

 



([1]) Bouyer, L`Incarnation et I`Eglise - Corps du Christ ..., p. 29.

([2]) Ibid., p. 27.

([3]) Moehler, Athanasius der Grosse und die Kirche seiner Zeit, 1827, p. 122, cited by Mersch, op. cit., p. 285.

([4]) تجسُّد الكلمة 4:24.

([5]) ضد الأريوسيين 22:3 P.G. 26, 369, N.P.N.F. 405, 406 والفعل metalamb£nw كما سبق أن قلنا هو الاصطلاح الكنسي والآبائي للتعبير عن “التناول” الإفخارستي.

([6]) ضد الأريوسيين 25:3 P.G. 26, 376, N.P.N.F. 407

([7]) تجسُّد الكلمة 3:25و4.

([8]) Bouyer, op. cit., pp. 31-32.

([9]) Quasten, op. cit., p. 20.

([10]) في المجامع 41 N.P.N.F. 472

([11]) في المجامع 43 N.P.N.F. 473

([12]) الطومس إلى أنطاكية 8 N.P.N.F. 485

([13]) كلمة “أثناسيوس” باليونانية تعني: “عديم الموت”.

 ([14])Mersch, op. cit. p. 285.